يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا يتوقّف تأثيره على تغيير مظاهرها فحسب، بل على الإنسان ذاته الذي سيجد نفسه مضطرا للتكيّف مع نمط الحياة الجديد والتفريط في عاداتٍ سحيقةٍ اختزنها لاوعيه وظلّت تُدير سلوكه لقرونٍ وتبنّي ردود أفعالٍ جديدةٍ، في تفاعل مع المؤثّرات التي تُهاجم جهازه العصبيّ قصد الاستيلاء عليه.
لن يتربى الأطفال "في عزّ" الآباء والأجداد، بل على ما يصمّمه تجّار البرمجيّات، وما يلقي به سكّان الكوكب في الفضاء الأزرق. فإذا كان عدد المُنصرفين اليوم إلى هواتفهم من الكبار الذين عرفوا الهواتف الذكيّة متأخرين، في تزايد و يكفي للتأكد من ذلك، إحصاء عدد المُقهقهين على "الريلز" في الفضاءات العامة! فإنّ الأجيال التي تنمو مع الأجهزة الذكيّة والروافد التكنولوجيّة المختلفة، ستخضع لتنشئات مُتداخلة، وستنتجُ ثقافة جديدة في السنوات التي ستلي سنواتنا الهجينة هاته، بمعنى أنّنا سنكون أمام إنسانٍ "عالميّ"، باهتمامات وطموحات قد لا تستوعبها المُقترحات التي يجود بها الواقع.
ستتغيّر أنماط العيش ومفاهيم العمل، التي بدأت فعلًا في التحوّل، مع عائدات النشاطات الجديدة التي تفوق أحيانا مداخيل سنوات عمل، وهو معطى أثّر في بعض القيّم المتوارثة، والعائلات التي ترقص في التيك توك لجني المال، خير مثال على ذلك.
لكلّ ما سبق يبدو كلّ حديثٍ عن المحافظة على الخصوصيّة والثقافة المحليّة، مجرّد أمل، ما لم يقابله إنتاج وحضور ومحتوى شائع وقادر على التأثير لمكوّنات هذه الثقافة على المسرح الكوني.
ولا ينفع البكاء أو الصراخ أو الشكوى من أثر التفاهة على القيّم، بل يتطلّب الأمر استخدام مكاسب التكنولوجيا في إدارة الحياة واستغلالها في التموقع ، بل وغرس "أشجار إلكترونيّة" إسهاما في حضارة لا تنتظر المتخلّفين، من خلال تصميم برمجيّات ومنح المنتوج الثقافي فرصة البقاء في البيئة الجديدة كي يصبح قابلا للاستدخال ومتاحا للتماهي.
وقبل ذلك يجب الاستماع إلى المختصّين في حقول الاجتماع والمعرفة الذّين يشتغلون على التحوّلات الجارية، لأنّ اكتساب التقنيّة لا يكفي "للبقاء"، بل يتطلّب الأمر فهم ما يحدث من خلال دراسته، بعيدا عن الانبهار أو الخوف.
سليم بوفنداسة