شاخ الوقتُ حولها لكنّها ظلّت في مقتبل الصّبا تسقي الدهشة وتشيعها، لأنّ المنادي الذي نادى النّاس حتى يكبروا نسيّ أن يناديها وتركها صغيرةً تلهو على سطح الجيران، وربما لأنّها فرّت من الدّرب الذي تمضي فيه الأعمارُ إلى منتهاها، مُنتصرة لطفولةٍ أبديّة هي خلاص العالم من بطش الوحوش التي تعذّبه بأنانياتها وحروبها وعطشها إلى الدم.
مرّت حروبٌ وسقطت مدائن كثيرة وتكرّر الشّتاء عشرات المرّات، وتعاقبت أجيالٌ على مسرح الحياة، لكنّها بقيت ثابتةً على السّطح وفي الأرواح وفي الصباحات و المساءات، تنادي الغائبين الذين ركبوا عربات الوقت وهربوا تاركين ضحكات أبنائهم منسيّة على الحيطان و ترشدُ أيتام الوقت إلى ملاجئ آمنة وتهدهد المُؤرَّقين من فرط الحبّ كي يناموا!
كأنّها أبديّة، كأنّها دواء كلّ الأوقات، بل هي الرفيقة في كلّ مراحل العمر. أمسكت الخلاصات وألقت بها في أثير الكون مُجوّدةً.
كأنّها تولد الآن و يولد معها كلّ من يسمعها من جديد.
في التّسعين، تبدو فيروز كمن بدأ قبل قليل، لأنّها حقيقيّة ولأنّها علامة في عصر لا علامة فيه، لذلك أُشعلت لها الشّموع في عيدها، و زيّنت طيلة أسبوع هذا السديم الإلكتروني الذي غزته نجومٌ سريعةُ الأفول.
صحيحٌ أن جراح الرّقعة التي يتمدّد فيها صُوتها عميقة جدا، وقد تزاحمت الأقدام الهمجيّة على دوسها، وتراجع أنصار الحقّ، فيها، أمام جيوش الباطل.
غير أنّ صوتها لازال يصون المأساة لينبّهنا إلى أنّها لن تصدأ ولن تتقادم ويُشير إلى الحياة الثمينة التي يسرقها الوقت و يسرقها اللّصوص.
وهي ضروريّة أيضًا، لأنّها صوتٌ يُحرجُ خطابات الخيّانة التي يجري تكريسها عربيًّا، في إعلام مضلّل وفي أطروحات نُخبٍ، صارت ترى في إعجاب قتلة الأطفال بها مفخرة ولا تخجل من رمي كلّ مجاهر بالحقّ بالحجارة. وهي ضروريّة، لأنّها جعلت بلدها الصّغير كبيرًا على مُمزّقيه وعلى المتآمرين وعلى المنتقمين الذين ضاقوا بما كان يمثّله وبالحريّة التي اقترحها في محيط لا تلائمه الحريّة.
كانت فيروز و ستظلّ نشيد الحياة وصرخةً في وجوه أعدائها.
سليم بوفنداسة