حصـة « وكل شيء ممكـن» صقلـت إنـسانيتـي وأدخلتـني سجـن لومبيـز
توجت الإعلامية نعيمة منحور تيفرقنيت، مؤخرا بالمرتبة الأولى لصنف السمعي البصري، في إطار مسابقة جائزة رئيس الجمهورية للصحفي المحترف، لتؤكد ابنة التلفزيون العمومي بأن النجومية لا ترتبط بالظهور عبر الشاشة، بل تحتكم لمعيار الاجتهاد، وأن جنود الخفاء هم الأبطال الحقيقيون، كما قالت، في حوار خصت به النصر، تحدثت إلينا خلاله عن تجربتها مع الإعلام، و كشفت لنا أسرار حصص ارتبطت عناوينها بذكريات طفولتنا و شبابنا، على غرار حصة « وكل شيء ممكن»، التي قالت بأنها صقلت إنسانيتها، وأدخلتها أسوار القلعة المحرمة «سجن لومبيز».
ـ النصر: توجت مؤخرا بجائزة رئيس الجمهورية للصحفي المحترف، حدثينا عن طريقك نحو هذا النجاح؟
نعيمة منحور: هي طريق طويلة و وعرة تطلبت مني 22 سنة كاملة من العمل الميداني، فقد بدأت الصحافة و أنا طالبة جامعية بمعهد الإعلام بالعاصمة، حيث تربصت لفترات متقطعة في جرائد كبرى ، كما عملت في جريدة الوحدة لثمانية أشهر، تخصصت خلالها في الركن القانوني، و كنت مكلفة بمتابعة قضايا الحالة المدنية عبر المحاكم، العمل الذي ساعدني على قراءة المجتمع و فهم بعض سلوكياته، من خلال تحليل طبيعة المخالفات و الجرائم، كان ذلك بداية من سنة 1991.
كما تنقلت أيضا بين جرائد عديدة منها الشعب و المساء و الخبر، التي نشرت لي أول تحقيق صحفي أجريته وأنا لا أزال متربصة، و كان تحقيقا عن السيدا كلفني به رئيس التحرير آنذاك عمر أورتيلان، طلب مني دخول مستشفى القطار و التحقيق، وبالفعل قمت بذلك و نقلت قصة مريض بالسيدا أصيب بالعدوى بفعل العلاقات الجنسية المحرمة، ولأن الموضوع كان قويا قررت إدارة تحرير الجريدة نشره مع توقيعي، وقد حققت من خلاله السبق و كسرت طابوهات اجتماعية حساسة.
تدرجت بعد ذلك إلى أن دخلت التلفزيون العمومي، الذي أشتغل فيه حاليا في منصب رئيسة تحرير بقسم الروبورتاج الإخباري «نشرات الأخبار الرئيسية»، و أنا مسؤولة رفقة زملاء لي، عن فريق عمل مكون من حوالي 50 صحفيا، وهنا أشير إلى أن الفضل في تكويني في مجال إعداد الروبورتاج السياسي يعود إلى الزميل نذير بوقابس.
. أنت الآن صحفية بالتلفزيون، كيف كان الانتقال من الصحافة المكتوبة إلى السمعي البصري؟
ـ في الجامعة كنت طالبة نشيطة جدا و كثيرة الاحتكاك بطلبة الدفعات السابقة، هم كانوا مثقفين وناشطين فكريا، كنا نعد جرائد حائطية وننشط ندوات وملتقيات، هناك التقيت بطالب يكبرني سنا، شاءت الأقدار أن أرتبط به لاحقا، وهو زوجي، وقد كان يمارس الصحافة حينها و يتعامل مع جرائد مختلفة، اقترح علي أن أقدم سيرتي الذاتية للتلفزيون، لأنهم يعدون حصة تعنى بشؤون الطلبة و الجامعة، و هي حصة « جامعة التكوين المتواصل « التي يبثها التلفزيون، و بالفعل اتصلت بهم و قدمت سيرتي الذاتية و قصاصات عن إصداراتي في الجرائد، و هكذا التحقت بطاقم البرنامج سنة1993 بعد تربص لمدة6 أشهر.
ـ صراحة مشاهدون كثـر لم يكونوا يفهمون طبيعة الحصة و متابعتها كانت نسبية، لماذا؟
ـ لأنها حصة نخبوية موجهة للأسرة الجامعية وليس للجمهور الواسع، فهذا البرنامج الذي لا يزال يبث إلى يومنا هذا، يتناول عالم الطلبة و يتابع جديد البحث العلمي من خلال أركان عديدة منها ركن «إصدارات»، الذي كنت أعده ، قبل أن أنتقل لتنشيط ركن « لقاء الجمعة».
أذكر أننا كنا نتنقل بشاحنات التلفزيون إلى جامعات الوطن، لنقل انشغالات الطلبة و متابعة نشاط البحث، و قد كانت تجربة رائعة عشتها بكل حب، قبل أن أنضم لاحقا إلى طاقم حصة «وكل شيء ممكن».
ـ لو طلبت منك إجراء مقارنة بسيطة بين طلبة أمس و اليوم ماذا ستقولين؟
ـ طلبة تلك الفترة كانوا نخبة وقوة تأثير، كانوا يتمتعون بالوعي السياسي و ملمين بمختلف جوانب الحياة الاجتماعية، و كانوا يتابعون تطور المسار الإقتصادي أيضا، أما اليوم فحال الجامعة مؤسف، لأن طلبتها لم يعودوا مهتمين و لا مؤثرين، شخصيا أحن إلى تلك الجرائد الحائطية التي كنا نعدها و نتابعها والتي اختفت نهائيا، بينما أصبح نشاط النوادي العلمية والثقافية شبه منعدم.
ـ قلت أنكم كنتم تتنقلون عبر الوطن بالحافلات تحمل شعار التلفزيون في فترة أمنية كان خلالها الصحفيون مستهدفين ألم يخفك ذلك؟
ـ كنت مندفعة حينها، نهمي للصحافة كان كبيرا، ولم أكن أفكر في شيء، إلى أن جاء يوم تلقيت فيه تهديدا مباشرا، تعلمون خلال تلك المرحلة الأمنية الحساسة، كان المسلحون يضعون إشارات « إكس» حمراء على صناديق البريد، لتحذير الأشخاص المستهدفين، وقد فعلوا ذلك معي قبل ليلة واحدة من سفري إلى وهران لتصوير الحصة.
ذلك اليوم كان مخيفا، الجميع في العمارة كانوا مرعوبين وحملوني مسؤولية وصول الإرهابيين إلى الحي لأنني صحفية، أمي كانت تبكي بحرقة و أصرت هي و أفراد من عائلتي أن أترك الصحافة، لكنني رفضت و كان الوحيد الذي دعمني هو والدي، وحده منحني القوة لتجاهل التهديد ومواصلة العمل.
ـ من الجامعة إلى البحث عن المفقودين في «وكل شيء ممكن»، كيف حدث ذلك، و كيف كنتم تتحكمون في عواطفكم خلال البث؟
ـ «وكل شيء ممكن» برنامج صقل إنسانيتي، انتقلت إليه سنة 2000، بدعوة من المخرج سعيد علمي، هو من شاهدني وأنا أقدم ركن « لقاء الجمعة»، فاقترح علي الانضمام إلى رياض بوفجي، في تقديم الحصة، كنت متخوفة من البث المباشر ومن شهرة رياض، خفت أن لا يتقبلني الجمهور، لكنهما معا شجعاني ودعماني، و هكذا كان الانتقال عملت في التقديم و الإعداد أيضا، كان فريق العمل مكونا من 15 شخصا يشكلون خلية نحل، ينتقلون إلى الولايات و يجمعون القصص ويتلقون الاتصالات وغير ذلك، هؤلاء هم جنود الخفاء وهم الأبطال الحقيقيون و إن لم تنصفهم الكاميرا.
أما الحديث عن العواطف فيطول، في أول بث مباشر لي قدمت قصة رجل يبكي ابنه الضائع، ولم أتمكن من تمالك مشاعري فأجهشت بالبكاء أيضا، المخرج وثق اللحظة و لم أتوقع أن تلك الدموع ستكون بوابتي لدخول قلوب الجزائريين، الذين تفاعلوا جدا مع مشاعري و اتصلوا بي لاحقا لتشجيعي، ذلك البرنامج علمني الكثير مهنيا خلال سنة.
ـ حدثينا عن أصعب موقف عشته خلال عملك في البرنامج؟
ـ كان ذلك حين أرسلني سعيد علمي لإعداد روبورتاج عن المحكوم عليهم بالإعدام، تطلب مني المكوث في سجن لومبيز لمدة يومين، أصدقكم القول أنني لم أتوقف خلالهما عن البكاء وأنا أستمع إلى قصص المحكومين، خصوصا قصة شاب مثقف مهذب راح ضحية خلاف حول الميراث و الأرض، في تلك الفترة أظن أنني كنت أول صحفية تقتحم أسوار تلك القلعة المنيعة، وقد اكتشفت هناك عالم لا نعرفه، فالمساجين يمارسون الزراعة و النجارة و يعيشون حياة لا تشبه حياتنا في شيء.
ـ كيف تلقيتم كفريق عمل خبر وفاة رياض بوفجي؟ حدثينا أكثـر عن هذا الإنسان الذي بكاه الجزائريون؟
ـ كانت صدمة حقيقية عجزنا عن تقبلها، رغم علمنا المسبق بأن السرطان قد تمكن منه، رياض كان إنسانا مميزا طيبا و متواضعا، أحبه الجميع.. أسلوبه في التقديم، لغته البسيطة التي تمزج بين الدراجة و الفصحى، قربته للجمهور، وإنسانيته الطاغية ملكته قلوب الكثيرين. فريق العمل كان كبيرا، لكن المتصلين كانوا يصرون على الحديث إليه شخصيا، من بينهم من كان يتصل فقط ليكلمه، وليس للبحث عن عزيز مفقود، فقد أحبوه كثيرا.
ـ بالحديث عن برامج التلفزيون لما لم نعد نشاهد مثل هذه الحصص القوية، وما تقييمك لواقع الإعلام الجزائري عموما؟
ـ التلفزيون كان و سيظل مدرسة وعنوانا للمصداقية و الاحترافية، الكفاءات موجودة وكذلك الوسائل، الأمر ربما يتعلق بالفرص.
أما بخصوص الإعلام الجزائري، فأنا سعيدة وحزينة لأجله في ذات الوقت، سعيدة بمكسب التعددية و الانفتاح، فهناك من يقدمون خدمة عمومية وإعلامية جيدة، عبر بعض القنوات الخاصة، لكن بالمقابل هناك قنوات أنا شخصيا أرفض أن تدخل منزلي عبر شاشة التلفاز، لأنها لا تحترم أخلاقيات المهنة و لا خصوصية المجتمع، ممارسة القذف و التشهير ليس إعلاما، ولا يمكن من خلال لغة و أسلوب الشارع أن نربي جيلا، وعليه أرى بأن تسريع تنصيب لجنة ضبط السمعي البصري بات حتمية للوقوف في وجه أشباه الإعلاميين أو ما يمكن تسميتهم بمرتزقة الإعلام.
هـ-ط
حاورتها: هدى طابي