كشف معهد باستور بفرنسا مساء الجمعة، عن تعيين عالمة المناعة الجزائرية البروفيسور ياسمين بلقايد، مديرة عامة لهذه المؤسسة العلمية العريقة، وهو إنجاز كبير لبلقايد التي ستكون أول شخص عربي وثاني امرأة تتقلد هذا المنصب، بعد سنوات طويلة قضتها في البحث العلمي بالولايات المتحدة الأمريكية في مجالات الأمراض المعدية وعلم المناعة، وهي مسيرة حافلة كشفت خريجة جامعة هواري بومدين في حوار سابق للنصر، إنها بدأت فعليا من معهد باستور بالجزائر العاصمة عندما اكتشفت علم الطفيليات وبدأت العمل على تحسين طرق لتشخيص داء الليشمانيات.
ياسمين بوالجدري
قرار التعيين الذي أثار ضجة كبيرة وسط الرأي العام في الجزائر والعالم العربي، جاء بعد انتخاب البروفيسور ياسمين بلقايد من طرف أعضاء مجلس إدارة معهد باستور، حيث ستبدأ عهدتها رسميا في جانفي من سنة 2024، على أن تدوم لمدة 6 سنوات، وذلك خلفا للباحث الفرنسي «ستيوارت توماس كول»، لتكون بذلك أول عربي يرأس هذه المؤسسة العلمية الدولية الشهيرة التي تعاقب عليها 16 مديرا كلهم فرنسيون، وثاني امرأة تتقلد المنصب بعد الفرنسية «أليس دوتري» التي ترأست المعهد سنة 2005.
ويعتبر معهد باستور واحدا من أهم المؤسسات العلمية في العالم، فقد خرجت منه العديد من الاكتشافات المهمة في مجال الطب وعلم الأحياء ونال باحثوه 8 جوائز نوبل منذ تأسيسه سنة 1887 من طرف عالم الأحياء الفرنسي الشهير، «لويس باستور»، ويتم على مستوى هذا المعهد الذي يتوفر على واحد من أقوى أجهزة الميكروسكوب في العالم، إجراء أبحاث في المعلوماتية الحيوية والفيزياء الحيوية والكيمياء وتكنولوجيا النانو.
وتتبع معهد باستور بباريس، شبكة تعاون دولية في مجالات الصحة العامة والتعليم والبحث في كل أنحاء العالم وتضم 33 معهدا، من بينها معهد باستور في الجزائر العاصمة، حيث يتم على مستواه تطوير العديد من المشاريع الدولية بالشراكة مع الهيئات العلمية الكبرى، من أهمها منظمة الصحة العالمية.
وفي بيان صحفي نشره المعهد، قال «إيف سان جيور»، رئيس مجلس الإدارة «بفضل خبرتها العلمية وفي الطب والصحة العامة، أصبحت ياسمين بلقايد قادرة على قيادة برامج مبتكرة من شأنها تعزيز التأثير الدولي لمعهد باستور من خلال الاستفادة من إرثه وتعاونه متعدد التخصصات وقدرته على تدريب الأجيال القادمة من الباحثين. هذا الإجراء ضروري بشكل خاص في بيئة تنافسية للغاية وفي مواجهة التحديات العالمية ومتعددة القطاعات التي يواجهها المعهد اليوم».
وتعليقا على هذا القرار قالت البروفيسور ياسمين بلقايد نقلا عن المعهد «بصفتي المدير العام القادم، أعتزم أن أجعل معهد باستور أحد المؤسسات البحثية الرئيسية في علوم الحياة وتعزيز دوره في مجالات الرصد والوقاية والتعرف على مسببات الأمراض الناشئة على نطاق عالمي».
أزيد من 200 ورقة علمية والعديد من الجوائز
وتدير البروفيسور بلقايد حاليا مركز علم المناعة البشرية التابع للمعاهد الوطنية للصحة، وهي الوكالة الأمريكية المسؤولة عن الأبحاث الطبية والحيوية، بالإضافة إلى برنامج الميكروبيوم، حيث تركز عملها بشكل أساسي على العلاقة بين الميكروبات وجهاز المناعة، في ذلك علم الطفيليات وعلم الأحياء الدقيقة وعلم الحشرات الطبية والفيروسات ومناعة الأنسجة والميكروبيوم.
ونشرت العالمة الجزائرية أزيد من 200 ورقة علمية في مجالات العدوى والمناعة والميكروبيوم والتغذية، وقد حصلت على العديد من الجوائز والأوسمة، كانت آخرها جائزة روبرت كوخ لسنة 2021، وجائزة «لوري» في علوم الطب الحيوي في 2019، وقبلها جائزة معهد سانوفي باستور سنة 2016، كما أنها عضو بالأكاديمية الأمريكية للعلوم وعدة هيئات علمية مرموقة.
وسبق للنصر أن أجرت حوارا مطولا مع البروفيسور ياسمين بلقايد تم نشره في 12 ديسمبر من سنة 2021، وقد كان أول لقاء صحفي تجريه العالمة مع وسيلة إعلام جزائرية وعربية من بين حواراتها النادرة في الصحافة العالمية، حيث كشفت فيه عن العديد من الجوانب المتعلقة بمسارها المهني والعلمي وحياتها الشخصية.
هكذا تأثرتْ بطفولتها في الجزائر وبجامعة باب الزوار
بلقايد المولودة عام 1968 في الجزائر العاصمة، عادت بنا في الحوار إلى مرحلة طفولتها التي تحدثت عنها بكثير من الحنين، حيث قالت «الكثير من الأشخاص أثروا فيّ خلال طفولتي وجعلوني أصبح عالمة اليوم، وبينهم جدتي الصيدلانية، كما أن جدتي لأبي أثرت في كثيرا بطريقة مختلفة فقد وُلِدت في الحقبة الاستعمارية، وتزوجت وهي صغيرة مثل الكثير من النساء في ذلك الوقت، لكنها فهمت أهمية التعليم، وقد دفعت بناتها للتعلم».
وتابعت بلقايد «التأثير الآخر كان لأبي وهو مهم جدا بالنسبة لي، أتذكر عندما كنت طفلة، كنا نمضي وقتا كبيرا في التحدث عن كل شيء وطرح الأسئلة بعقول منفتحة. والدي هو السياسي الجزائري أبو بكر بلقايد الذي اغتيل خلال العشرية السوداء وقد شارك في الثورة التحريرية وقضى جزءا كبيرا من شبابه في السجون والنضال. أتذكر أنني بدأت أرغب في أن أكون عالمة في سن صغيرة جدا، كنت أراقب النباتات والحيوانات في الريف بالجزائر وهي الطريقة التي اكتشفت عبرها الطبيعة (..) قضيت مرحلتي الطفولة والمراهقة في المطالعة وكنت أقرأ كل ما يقع في يدي».
ونالت بلقايد شهادة البكالوريا سنة 1986 ثم التحقت بجامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا بالجزائر العاصمة أين حصلت على ماجستير في الكيمياء الحيوية سنة 1993، حيث عبرت للنصر عن امتنانها لأنها حظيت بفرصة التعلم في بلد أصبح يضم جامعات ومنشآت قاعدية، بعد أن خرج من الاستعمار وهو لا يملك شيئا، وقالت إنها قد أمضت أوقاتا غير اعتيادية بالجامعة وسط بيئة رائعة للتعلم ومع أساتذة رائعين ومحبين جدا لما يقومون به لنقل معارفهم في الكيمياء الحيوية والمناعة وعلم الجينات، مثلما عبرت العالمة.
تخبرنا بلقايد أنها لم تكن ترغب في مغادرة الجزائر وأرادت إكمال أطروحة الدكتوراه بها، لكن هذا الأمر لم يكن ممكنا حينها فسافرت لفرنسا، لكن قبل ذلك التحقت بمعهد باستور بالجزائر العاصمة وعملت هناك لفترة قصيرة وهي لا تزال طالبة، لتكون أول تجربة مهنية فعلية تخوضها وعنها قالت العالمة «في معهد باستور بالعاصمة اكتشفت علم الطفيليات وبدأت العمل على تحسين طرق لتشخيص داء الليشمانيات وهي مرحلة أساسية في تطوري كعالمة، حيث كنت مُحاطة بأشخاص متعاونين جدا، وكان الكل لطيفين وساعدوني كطالبة. اكتشفت هناك ما الذي يعني أن يكون المرء عالما، وأيضا أهمية العلم في المشاكل المتصلة ببلد معين وهذا ما جعلني أدرك أهمية الاشتغال على هذا المرض، وأفهم ما الذي علي فعله»
بعد ذلك سافرت بلقايد مع شقيقتها إلى فرنسا، وهناك أعدت أطروحة دكتوراه حول داء الليشمانيات، حيث وصفت بداية هذه المغامرة بالقاسية جدا، وهي التي تعلقت كثيرا بالجزائر، لقد شعرت حينها أنها «جزائرية جدا وغريبة جدا» مثلما قالت بمرارة، لكنها استطاعت التكيف شيئا فشيئا ومع ذلك «لم تحس يوما أنها تعيش في مكانها».
أبحاث رائدة في مجال المناعة
بقيت بلقايد في فرنسا لحوالي 5 سنوات تعمقت خلالها في دراسة داء الليشمانيات إلى أن حصلت على درجة الدكتوراه عام 1996 من معهد باستور بباريس، كتتمة للعمل الذي بدأته في معهد باستور بالجزائر العاصمة، حيث حاولت فهم الميكانيزمات التي تسمح للحيوان بالاستجابة للطفيلي المسبب للمرض.
وفي الوقت الذي رغبت فيه بلقايد في العودة للجزائر عقب حصولها على الدكتوراه في فرنسا، كان الوضع معقدا في الجزائر فقد تم اغتيال والدها سنة 1995، وهو ما خلّف لها «ألما كبيرا لم يُعالج»، قالتها بصوت مختنق. سافرت الباحثة الشابة حينها للولايات المتحدة الأمريكية وبعد بضع سنوات من تواجدها هناك تعرفت على زوجها وأنجبت طفلها الثاني. وقد أعجبت بلقايد ببيئة البحث العلمي في مخابر أمريكا، ولم تكن تخطط حينها للبقاء هناك طويلا، على عكس ما حصل لاحقا، فبمجرد وصولها هناك بدأت العمل لفهم طريقة دخول الميكروب لجسم الانسان و»اختبائه» وسط النظام المناعي، واكتشفت ميكانيزمات مسؤولة عن صيانة هذه الميكروبات باكتشاف جزيئات مهمة تسمح للجراثيم بالاختباء.
أما الجزء الثاني من عملها فكان تحديد خلايا الجهاز المناعي المختصة في صيانة العلاقة بين الميكروبات والجسم المضيف، وقد قضت وقتا طويلا للإجابة عن هذا السؤال الأساسي، ما سمح لها بتطوير برنامج بحثي مستقل، والالتحاق بعد ذلك بالمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، بعدما كانت قد أسست مختبرها الأول بمستشفى الأطفال في سينسيناتي بولاية أوهايو. وقد عملت إلى جانب طبيب أمريكا الأول، البروفيسور أنتوني فاوتشي، الذي برز اسمه خلال جائحة كورونا باعتباره مدير المعهد.
«النساء الجزائريات استثنائيات وقويات جدا»
وفي سنة 2005 فتحت العالمة الجزائرية مختبرها الثاني أين توصلت إلى أن الميكروبيوم مهم لتحكم النظام المناعي في العدوى، لتطرح بذلك مفهوم التعايش بين الميكروبات وجسم الإنسان ودوره في تطوير العديد من العلاجات لأمراض مستعصية، كما كانت البروفيسور بلقايد من بين العلماء الذين اشتغلوا على فهم تداعيات مرض كوفيد على المدى الطويل بالنسبة لجهاز المناعة.
وتعود بلقايد بنا إلى انتخابها عضوة في الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2017، وقالت بحماس ‹لقد شكل ذلك مفاجأة كبيرة بالنسبة لي كامرأة، ثم كامرأة أتت من الجزائر، خاصة أن هذه الهيئة كانت تشهد حضورا أكبر للعلماء الرجال. ما أثر في كثيرا هو أنني تلقيت حينها رسائل مرحبة جدا من جزائريين وجزائريات من كل أنحاء العالم، و كذلك من المسلمين في العالم بأسره».وعن الصدى الكبير الذي أحدثه فوزها سنة 2021 بجائزة معهد روبرت كوخ الألمانية وسط الجزائريين، تابعت بلقايد «أنا فخورة وممتنة للغاية ومتأثرة جدا بهذا الاحتفاء. أشعر حقا أنني جزء من المجتمع الجزائري رغم أنني بعيدة عن بلدي. أشعر أنني جزائرية جدا!»
سألنا بلقايد في آخر الحوار عن الرسالة التي قد ترغب في توجيهها للنساء الجزائريات وبالأخص الباحثات والفتيات اللواتي يتطلعن إلى أن يكن عالمات مستقبلا، فأجابت في حماس «النساء الجزائريات استثنائيات وقويات جدا (..) راغبة حقا في أن أقدم لبلدي ما قدمه لي من قبل فهو جعلني أصبح على ما أنا عليه اليوم. فخورة جدا بكوني جزائرية وأشكرك على العمل الذي تقومون به، فمن الرائع إعطاء قيمة للعلماء الجزائريين وجعلهم يشعرون بالانتماء إلى الجزائر فهذا ما أحس به الآن».