شهدت الجزائر، عشية الاحتفال بعيد الاستقلال والشباب، حدثاً تاريخياً بالغ الرمزية، بعدما نجحت في استرجاع جماجم 24 من المقاومين وقادة المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي، بعد سنوات من الضغط والإلحاح، خطوة رأى فيها البعض ايجابية بالنظر إلى رمزيتها الكبيرة في نفوس الجزائريين، وقد تكون مقدمة للمضي قدما في استرجاع الأرشيف الموجود في فرنسا، والوصول في النهاية إلى تسوية ملف الذاكرة، والذي يراوح مكانه طيلة عقود من الزمن.
يعتقد كثيرون أن استعادة الجزائر لرفات وجماجم قادة المقاومة الشعبية عشية الاحتفال بعيد الاستقلال، تشكل خطوة ايجابية من شأنها أن تفك عقدة من بين العقد التي تعيق تسوية إرث الذاكرة الذي يلغم العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بسبب ممارسات بعض الأطراف الحاقدة في فرنسا و التي لا تزال تحن إلى مصطلح الجزائر-فرنسية ولم تهضم استقلال الجزائر.
ويرى محللون أن إعادة رفات وجماجم قادة المقاومة الشعبية يمكن أن تكون بمثابة «بادرة» في الطريق الصحيح لفتح ملف الذاكرة، معتبرين الحدث “سابقة في التاريخ الحديث”، ومنعرجا حاسما في العلاقات الجزائرية الفرنسية “الفاترة”، ما يفسح المجال أمام إعادة طرح مطلب استعادة أرشيف الجزائر الذي تحتفظ به فرنسا وصولا إلى تسوية الملفات الأخرى العالقة وطالبوا باسترجاع كامل لأرشيف الذاكرة الجزائرية من فرنسا، وذلك في سياق اعترافها بجرائمها.
ويتحدث البعض عن إمكانية إيجاد حلول ترضي الطرفين الجزائري والفرنسي، بخصوص ملف الذاكرة، والذي يراوح مكانه طيلة عقود من الزمن. و يتساءل آخرون حول ما إذا كان التوقيت مجرد عملية لعبور فخ الخلافات التاريخية، أم هو عربون حسن نوايا لبناء مستقبل العلاقات بين البلدين، خصوصا بعد الرجة القوية التي حدثت بعد حراك 22 فبراير والتي كادت أن تدفع نحو انسداد تام في العلاقات بين الجانبين، على خلفية، ما اعتبره الجزائريون محاولة من باريس لفرض الوصاية على الجزائر.
وقد وصفت الرئاسة الفرنسية استرجاع الجزائر لجماجم 24 من قادة المقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي والتي كانت محفوظة لأكثر من قرن ونصف بمتحف الإنسان بباريس بمبادرة «صداقة وتبصر». وصرحت الرئاسة الفرنسية لوكالة فرانس برس بأن «هذه العملية تدخل في إطار مبادرة صداقة وتبصر إزاء كل جراح تاريخنا». وأضافت الرئاسة الفرنسية أن «هذا هو معنى العمل الذي باشره رئيس الجمهورية (الفرنسي) مع الجزائر والذي سيتواصل في كنف احترام الجميع من أجل مصالحة ذاكرتي الشعبين الفرنسي والجزائري». وأضافت “هذا هو معنى العمل الذي بدأه رئيس الجمهورية (إيمانويل ماكرون) مع الجزائر والذي سيستمر مع احترام الجميع من أجل التوفيق بين ذاكرتي الشعبين الفرنسي والجزائري”.
هل تقبل فرنسا بإعادة أرشيف الثورة ؟
وحسب وزارة المجاهدين فإن الجزائر شرعت في مفاوضات استعادة هذه الجماجم قبل أربع سنوات، لكن الجانب الفرنسي ظل يناور معللا ذلك بوجود عراقيل قانونية لإتمام العملية. وقال الفريق السعيد شنقريحة في كلمة ألقاها بمناسبة استقبال استعادة رفات المقاومين، إن جثامين الشهداء سرقها الاستعمار البغيض وعرضها في متحفه منذ أكثر من قرن ونصف قرن للتباهي دون حياء، وأضاف: “إنه الوجه الحقيقي البشع للاستعمار”.
وذكر المدير العام للأرشيف الوطني، مستشار رئيس الجمهورية، عبد المجيد شيخي، في تصريح بنفس المناسبة، إن الجزائر ستستهدف، بعد الجماجم، في المرحلة المقبلة، استرجاع أرشيفها الموجود بفرنسا. وقال: «الجزائر لن تتراجع أبداً عن مطالبتها باسترجاع الأرشيف ، جيل اليوم وكل الأجيال التي ستتعاقب ستظل متمسكة بمطلب استرجاع كل الأرشيف الوطني الذي يؤرخ لعدة حقب من تاريخنا والذي تم ترحيله إلى فرنسا».
واتهم شيخي الطرف الفرنسي بعدم الجدية: «لا توجد إرادة حقيقية لدى الجانب الفرنسي لطي هذا الملف نهائياً. تصرف ومواقف المسؤولين الفرنسيين المفاوضين في هذا الملف يثبتان أنهم لا يملكون صلاحيات لاتخاذ أي قرار»، لافتاً إلى أن «فرنسا قامت في 2006 بسن قانون يقضي بإدراج الأرشيف كجزء من الأملاك العمومية، وبالتالي لا يتنازل عنها ولا تسترد، كما تقررت أيضاً إعادة توزيع الرصيد الجزائري من الأرشيف المتواجد بفرنسا على مراكز أخرى دون علم الجزائر». وأكد شيخي أنه ستُعقد ربما في الشهر الحالي اللجنة الكبرى الجزائرية-الفرنسية وستكون مسألة استرجاع الأرشيف الوطني ضمن الملفات التي سيتم التطرق إليها.
قبل ذلك اعترف وزير المجاهدين الطيب زيتوني، ضمنيا بتعثر المفاوضات مع فرنسا بخصوص استرجاع أرشيف الثورة، مؤكدا على هامش عرض مشروع اعتماد تاريخ 8 ماي كيوم وطني بمجلس الأمة، بأن مصالحه لم تتلقّ شيئا ملموسا أو جديا من الجانب الفرنسي، ليضيف “قمنا بتشكيل لجان مشتركة ونظمنا العديد من الاجتماعات بهذا الخصوص، ونحن نؤكد بأن الجزائر لن تتنازل عنه بسهولة، وقد تمكنت من جمع ما يقارب 30 ألف ساعة من الشهادات”.
لوبيات فرنسية حاقدة تقود حربا قذرة على الجزائر
التطورات الحاصلة في العلاقات بين الجزائر وباريس جاءت بعد فترة فتور وتشنج غير مسبوقة بسبب تصريحات سياسية تجاوزت حد اللباقة الدبلوماسية و وصلت إلى حد التدخل في الشؤون الداخلية تبعها حملة إعلامية غير مسبوقة موجهة ضد الجزائر انتهت باستدعاء السفير الجزائري في باريس، والتي كانت بمثابة القطيعة والتي دفعت الرئيس ماكرون إلى المبادرة لربط اتصال مع الرئيس تبون محاولا احتواء غضب الجزائر من اللوبيات الحاقدة في فرنسا.
قبل ذلك بثت قناة «فرانس 5» وثائقياً عن الحراك الشعبي في الجزائر، مبنياً على معايشة يوميات خمسة من المتظاهرين من مناطق مختلفة لمرحلة الحراك، لكنه ركز على زاوية معالجة أوضاعهم الحياتية، ومطالبهم المتعلقة بقضايا التابوهات الاجتماعية، وحالة التمرد على تقييد الحريات الشخصية وتدخلات السلطة والجيش في الحياة الخاصة للجزائريين، فيما بثت القناة البرلمانية، «أل سي يي»، برنامجاً تعرض للحراك بهدف إثارة النعرات العرقية.
وتعتقد الجزائر أن القنوات المذكورة عمومية تابعة للدولة الفرنسية، وتعبّر بشكل أو بآخر عن الموقف الرسمي الفرنسي. وكانت تلك المرة الثانية، في غضون أقل من شهرين، التي يُثير فيها الإعلام الفرنسي أزمة دبلوماسية مع الجزائر. وفي الثاني من أفريل، استدعت وزارة الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي بالجزائر كزافيي دريانكور لإبلاغه «احتجاج الجزائر الشديد على حملة إعلانية تشنها قنوات فرنسية، بينها قناة (فرانس 24) التابعة للخارجية الفرنسية، ضد الجزائر»، وإطلاق تصريحات وصفتها الخارجية الجزائرية بـ»الكاذبة والبغيضة والقذف لتشويه صورة الجزائر».
ومع كل تلك التطورات التي أوصلت العلاقات بين البلدين إلى حد التشنج، بادر الرئيس الفرنسي ماكرون شخصيا إلى ربط الاتصال مع الرئيس تبون حيث تم الاتفاق على إعطاء العلاقات بين البلدين دفعا جديدا على أسس دائمة تضمن المصلحة المشتركة المتبادلة، والاحترام الكامل لخصوصية وسيادة كلا البلدين.
وفي رده على سؤال حول فحوى المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس تبون، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بطلب من هذا الأخير، أوضح الناطق الرسمي للرئاسة محند أوسعيد بلعيد، في أخر ندوة صحفية له، أن الرئيس تبون يكن كل الاحترام والتقدير للرئيس ماكرون الذي يحمل نوايا طيبة في تعامله مع الجزائر، معربا بالمقابل عن أسفه لوجود لوبيات مصالح ولوبيات عقائدية وإيديولوجية بفرنسا، تحمل حقدا تاريخيا للجزائر، قبل أن يستطرد في هذا السياق ”هذه اللوبيات لم تهضم أبدا استقلال الجزائر وكلما ظهرت خطوة في الأفق من أجل تحسين العلاقات بين البلدين، إلا وتحركت هذه اللوبيات على نطاق واسع لإفساد كل خطوة بناءة بين البلدين”.
إعادة بعث مشروع قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي
ومع محاولات أطراف فرنسية لاستهداف الجزائر، بادرت مجموعة من النواب بالمجلس الشعبي الوطني، باقتراح مشروع قانون جديد يجرم ممارسات الجيش الفرنسي، وهي المبادرة التي حازت دعم وزير المجاهدين الطيب زيتوني ورئيس المجلس الشعبي سليمان شنين الذي اعتبر إن تجريم الاستعمار مطلب شعبي وقرار سيادي، مشيراً إلى أنه لا يعني النواب فقط وإنما «كل الشرفاء وهم كثيرون، مقابل الذين يعطلونه وهم قليلون».
وكان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون قد كتب في منشور له عبر صفحته الخاصة على شبكة التواصل الاجتماعي، “فايسبوك” بمناسبة اليوم الوطني للشهيد: “أجدد عهدي ووفائي لرسالتهم (الشهداء)، ووعدي لهم باسترجاع ذاكرتنا ورفات شهدائنا من المستعمر السابق، شهداء الثورات الشعبية التي مهدت لثورة نوفمبر المظفرة والمنتصرة”.
وفي شهر فبراير الماضي، قدم 50 نائباً في البرلمان مسودة قانون «لتجريم الاستعمار الفرنسي» ومطالبة الدولة الفرنسية بالإقرار بالجرائم وتقديم الاعتذار والتعويضات المناسبة. وتتضمن مسودة القانون طلب اعتراف فرنسا بجرائمها وأفعالها إبان احتلالها للجزائر من سنة 1830 إلى 1962 والاعتذار عنها، وتسوية عدد من الملفات العالقة حتى الآن، تخص الإقرار بمجازر الثامن من مايو 1945، ومخلفات التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية واسترجاع الأرشيف وجماجم المقاومين من متحف باريسي وخرائط الألغام المزروعة التي قتلت سبعة آلاف ضحية، وكشف مصير المفقودين أثناء الثورة التحريرية. وفي السياق نفسه، قال وزير المجاهدين، الطيب زيتوني، خلال جلسة البرلمان نفسها، إن تجريم الاستعمار مطلب الوطنيين والمخلصين من أبناء هذا الوطن، ومن الضروري اعتراف واعتذار فرنسا عن جرائمها المرتكبة في الجزائر، مشيراً إلى أن «هذا القانون ليس موجها ضد الشعب الفرنسي، وإنما ضد الاستعمار الفرنسي في الأصل».
ماكرون ... القناعة دون الاعتراف
وقد تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن قناعته بضرورة إعادة النظر في ملف الذاكرة وأرشيف التاريخ في حرب تحرير الجزائر. وقال ماكرون في مقابلة مع لوفيغارو الفرنسية، إنه مقتنع، بأن هذا الملف سيضع حدا لصراع الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، رغم صعوبة الأمر في فرنسا، مضيفا إنه مقتنع إذا نجح، فإن هذا الموضوع سيكون له نفس الوضع الذي كان للزعيم شيراك في عام 1995، مشيرا إلى موقف الرئيس الفرنسي الأسبق بخصوص الهولوكوست وإقراره بمسؤولية فرنسا في ترحيل اليهود.
وكان ماكرون وصف لدى زيارته للجزائر سنة 2017 الاستعمار الفرنسي للبلاد بـ «الجريمة ضد الإنسانية» و»الهمجية الحقيقية»، ما أثار لغطا كبيرا وقتها لدى تيار اليمين المتطرف الفرنسي خصوصا. في المقابل، رفض ماكرون في السابق تقديم اعتذار عن جرائم فرنسا في القارة السمراء أثناء الفترة الاستعمارية، مؤكدا أن القاعدة بالنسبة إليه هي «عدم الإنكار وعدم تقديم اعتذار».
ويعتقد المراقبون أن فرنسا غير مستعدة تماما لتقديم اعتذارها للجزائر، على الأقل في الوقت الراهن، بسبب رفض اليمين المتطرف لأي اعتراف يصب لصالح الجزائر، إضافة إلى محاولات متعددة من قبل مسؤولين فرنسيين لحصر النقاش في ملفات أقل شأنا من الاعتذار، وهنا يبرز التناقض بين تصريحات الرئيس الفرنسي الذي يعترف بعظمة لسانه ويقول، أن جرائم الاحتلال لا تختلف عن محرقة اليهود، لكن دون المضي قدما في هذا المسعى وترجمته على أرض الواقع والسبب أن “الدولة الفرنسية”، أو على الأقلّ لوبيات نافذة فيها، تضع المسمار في العجلة، حتى لا تتقدّم الأمور، وتبقى إلى الأبد في مكانها، وهو ما يبرّر هذه العلاقات المتوترة وغير المستقرّة بين البلدين.
ع سمير