لم يبتل العالم مؤخرا بجائحة واحدة بل بجائحتين، جائحة كورونا البيولوجية وجائحة معلوماتية ترافقها، وكل منهما تؤثر في الأخرى وتضاعف مفعولها. وبينما يتسابق المتسابقون من ذوي الاختصاصات ضد الزمن لاكتشاف مضاد لجائحة فيروس كورونا، أو لتوفير إمكانيات للتعامل معها، نجد أن جزءا معتبرا من مضاد الثانية قد يكون في متناولنا جميعا بل بوسعنا تفعيله في أي لحظة نشاء، ويا ليتنا نفعل...
u ماهي الجائحة المعلوماتية وكيف تؤثر على مفعول الجائحة البيولوجية؟
الجائحة المعلوماتية هي وفرة المعلومات واتشارها بشكل مفرط، معلومات بعضها دقيق وبعضها غير دقيق، أما البعض الآخر فزائف تماما يصل إلى حد الخرافة. انتشار هذا المزيج من المعلومات بشكل مفرط يخلق نوعا من الضجيج المعلوماتي يجعل من الصعب على الأشخاص العثور على معلومات وارشادات من مصادر موثوقة، وفي أسوء الأحوال، يَحُول هذا الضجيج المعلوماتي دون الوصول إلى صياغة الحلول التي يحتاج إليها الفرد والمجتمع بشكل فعال أو إلى تعطيل ذلك تماما.
الزيادة المفرطة في المعلومات ليست ظاهرة جديدة، فهي عادة ما ترافق الأحداث المعتبرة كالحروب والانتخابات، كما أنه من المعروف أن ظهور الأوبئة، حتى في العصور القديمة، يرافقه دائما طوفان من المعلومات يتخللها ما هو مفيد وما هو زائف ومضلل. لكن الشيء المختلف اليوم هو أن تكنولوجيا التواصل عامة، بالإضافة إلى بعض العوامل البنيوية المهمة كما سأبين لاحقا، ضخم من حجم هذا الضجيج ووسع رقعته ليصل إلى مستويات يمكن أن يصنف بها، كفيروس كورونا تماما، بالجائحة المعلوماتية.
منظمة الصحة العالمية كانت قد حذرت من مخاطر الجائحة المعلوماتية التي سترافق فيروس كورونا في تقرير نشرته حوالي ثلاثة أسابيع قبل أن ترفع مستوى تصنيفها لكوفيد - 19 من الوباء إلى الجائحة [1]. لكن الناس لم تعر اهتماما لتلك التحذيرات بقدر ما ركزت على الجائحة البيولوجية، رغم الدور المهم الذي تلعبه كل منهما في التأثير على مفعول الأخرى.
فكيف تؤثر كل جائحة في مفعول الأخرى؟ من البديهي أن تؤثر الجائحة البيولوجية في الجائحة المعلوماتية، فكلما زاد تفشي الفيروس كلما زادت الأخبار حوله وزادت حاجة الناس إلى تقفي مزيد من المعلومات حول آخر الاحصائيات والمستجدات، وما إلى ذلك. أما الطريقة التي تؤثر بها الجائحة المعلوماتية في الجائحة البيولوجية فقد تكون أقل بدهية، لكن يمكن أن نفهم هذا التأثير من خلال المعادلة البسيطة: مناعة الإنسان = عوامل بيولوجية + عوامل نفسية. فمن المتفق عليه أن الحالة النفسية للإنسان تؤثر على حالته الفيزيولوجية، هناك مثلا دراسات عديدة توثق علاقة القلق والتوتر والارهاق النفسي بضعف المناعة، إذ تقلل هذه الحالات النفسية من قدرة الجهاز المناعي على محاربة المستضدات مما يجل الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالأمراض (راجع مثلا [2]).
الطريقة التي تقدم بها المعلومات إذن، بغض النظر عن صحتها، وكيفية التعاطي مع تلك المعلومات، خصوصا عندما تطغى نبرة التهويل والتخويف على التقديم والتعاطي، قد يزيدان من توتر الأشخاص ومن اضطراب نفسياتهم، زد على ذلك مجموع التغيرات غير المتوقعة والجديدة التي طرأت على سلوك الأفراد والجماعات من تباعد اجتماعي وتوقف عن الشغل ونقص في الأرزاق وغيرها، بالإضافة إلى عدم القدرة على مزاولة النشاطات التي اعتاد الناس مزاولتها للترفيه عن النفس ولضبط الضغوطات التي يعيشونها يوميا، والضغط الذي يعلبه ضرورة استحداث سبل جديدة لتنظيم علاقاتهم الاجتماعية. كل ذلك من شأنه أن يؤثر سلبا على الصحة النفسية للأفراد وبالتالي قد يقلص من قدرة أجسادهم على التحصن ضد الأمراض أو مقاومتها بشكل فعال.
كلا الجائحتين إذن من شأنها أن تضاعف مفعول الأخرى وتغذيها في عملية تأثير حلقية مثيرة للاهتمام. وبينما شاعت اليوم معلومات عديدة حول مسؤولية كل فرد في التقليل من تفشي الفيروس، بإجراءات وقائية كغسل اليدين والتباعد الاجتماعي وغيرها، نجد بالمقابل أن هناك نقصا في الوعي بخطورة الجائحة المعلوماتية وبسبل الوقاية منها وبطرق المشاركة في التقليل من وقعتها. قبل الخوض في بعض السبل التي قد تعيننا على الوقاية من الجائحة المعلوماتية، من المهم أن نفصل بعض الشيء في العوامل التي تستقوي بها هذه الجائحة.
u ماهي العوامل التي تستقوي بها الجائحة المعلوماتية؟
هنا، ولكي لا يطول الحديث كثيرا، سنتجنب الاستغراق بالتركيز على بعض الأسباب لا جلها، وعلى تصنيفها، ونفصل في ذلك قليلا. نقسم هذه الأسباب إلى قسمين، أسباب مباشرة تركيبية وتقنية وأسباب غير مباشرة بنيوية تنظيمية، من شأنها جميعا أن تزيد من تفشي الجائحة المعلوماتية في خضم أي جائحة بيولوجية.
v الأسباب التركيبية التقنية المباشرة:
أما الأسباب التركيبية التقنية المباشرة فتعود إلى استفحال استخدام تكنولوجيا التواصل الاجتماعي في المجتمعات، خصوصا في ظل التباعد الاجتماعي الناتج عن تزايد التوجه نحو الحجر الصحي في هذه الظروف، حيث تصبح منصات التواصل الملاذ الطبيعي وربما الوحيد للناس، لا لتقفي المعلومات ونشرها فحسب بل للترويح عن النفس والتعامل مع الملل. إلى هنا لا شيء خارج عن المألوف، لكن الإشكال يكمن في التفاصيل، والتساؤل العميق يلزمنا بالتأمل في الخصائص الأساسية للطريقة التي يتم بها تصميم التفاعل عبر هذه التكنولوجيا، على مستوى الفرد والجماعات، لنفهم كيف تساهم هذه الخصائص في استفحال الجائحة المعلوماتية. فلنلقي نظرة على بعض الخصائص التركيبية لتصميمات منصات التواصل التي تؤثر على طريقة تفاعلنا مع المعلومة وطريقة تفاعل بعضنا مع بعض.
أولا: موضع عملية التحرير في حياة المعلومة:
الخاصية الأولى هي «موضع عملية التحرير في حياة المعلومة»، أو المرحلة التي يتم عندها التحري عن مدى صحة المعلومة قبل أن تظهر على ساحة التفاعل. فموضع وآليات هذا التحري تغيرت جذريا بالمقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية (كالجرائد والتلفزة والإذاعة) فقد كانت هذه العملية تتم قبل النشر والترويج، ويجند لها مجموعة من المحررين ورؤساء التحرير، وغيرهم من موظفي الإعلام ومصالح الضبط. أما مع تكنولوجيا التواصل الحديثة، فكل فرد أصبح قادرا على خلق محتوى على الإنترنت وعلى نشره والترويج له، فتشتت بذلك مسؤولية التحرير والتحري بين الفرد من جهة، وبين مصممي هذه التكنولوجيا من جهة أخرى والذين يضعون مجموعة من المعايير لحظر المحتوى ويفرضونها بطرق مختلفة. فيكون موضع التحرير في حياة المعلومة قد تغير عندئذ بانتقاله من مرحلة تنقيح المحتوى إلى مرحلة الترويج والمشاركة.
ما أثر ذلك التحول والانتقال الذي طرأ على موضع التحرير؟ أولا، عملية التحرير التي كانت تعزى إلى مختصين في التحري والتحرير متفرغين لتلك العملية -بغض النظر عن الأجندات الخلفية وما إلى ذلك- تقع اليوم على عاتق أفراد بدون خبرة أو تفرغ، بل لا يعيرون بالا لتلك المسؤولية عادة، وعلى عاتق شركات أولويات ممارساتها ربحية أساسا تعمل في ظل نظام ضبط لايزال قيد التشكيل خصوصا باعتبار امتداد حضورها عبر العالم.
ثانيا، نجد أنه بتحول موضع التحرير يحدث تحول جذري في المدى الزماني والمكاني للنقاشات التي يثيرها مجموع المعلومات المنشورة. فمع الوسائل التقليدية، كانت عملية التعامل مع المعلومة وتقييمها في المجتمع بعد نشرها وظهورها على ساحة التفاعل تتم بوتيرة بطيئة في مدى زماني ممتد يدعو بطبيعة سرعته إلى التمهل والتقيد والتمحيص. كما أن المدى المكاني للمعلومة باعتبار مكانتها ضمن سياق أو سياقات معينة مكون من مجموع معلومات أخرى كان يقدم بطريقة واضحة إلى حد ما. أما الموضع الجديد للتحرير والتحري، فيقلص من المدى الزماني للنقاش والتحليل ويشل إمكانية الجمع بين المعلومات من حيث مكانتها بين سلسلة السياقات التي تربطها بغيرها من المعلومات؛ لاحظ مثلا أن أغلبها ينقل بدون سياق واضح فببترها من منبعها الأصلي لتلصق كرابط على جدار منصة هنا وهناك. هذا التقليص للمدى الزماني والبتر للسياقات يعلب دورا مباشرا في تقليص فرص التعاطي العميق مع النقاشات التي تدور حول المعلومة المنشورة والتمحيص الدقيق لمآلاتها مع جملة المعلومات والسياقات المرتبطة بها.
الشيء الآخر المثير للاهتمام في هذا الصدد هو أن الشركات الكبرى في هذا المجال (كغوغل وفايسبوك، وتويتر وانستاغرام، وغيرهم) كانوا أقل انفتاحا حول مسؤولياتهم المباشرة في تعزيز عمليات التحري والتحرير للتقليل من كمية المعلومات الغير دقيقة والخاطئة والزائفة التي تروج على منصاتهم، وهذا لاعتبارات مختلفة من بينها مشكلة التحكم في حظر المحتوى الذي يشكل خطرا على الحريات الفردية، خصوصا عند المجتمعات التي تصبو لرفع الحظر عن حرية التعبير وتنميتها. فهناك خطر واضح في تراكم السيطرة على المعلومة وعلى كيفية تفاعل الناس مع المحتوى في أيدي شركات ربحية، وما فضيحة كامبرج أنالاتيكا منا ببعيد. نجد اليوم أن موقف نفس هذه الشركات قد تغير بشكل معتبر مع جائحة الكورونا، بضغوطات خارجية ظرفية لا شك، خصوصا عند المقارنة بأحداث أخرى حديثة العهد، كالحملات الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية أو في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أين كان موقف هذه الشركات أقل صرامة وأكثر عتمة وانغلاقا على نفسها.
اليوم، قررت هذه الشركات أن تلعب دور أكثر وضوحا وفعالية بإعادة النظر في برمجياتها التحريرية - فتغير موضع التحرير يقتضي استحداث أدوات وآليات جديدة كذلك - والتي تعتمد اليوم أساسا على تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تسخر عادة في عملية تعاونية بين البشر والآلة. المفارقة هي أنه مع بدايات تفشي فيروس الكورونا وتصنيفه كجائحة، أجبرت أغلب هذه الشركات على إرسال موظفيها للعمل بالبيت أو للتوقف عن العمل مؤقتا، مما زاد في التركيز على الجانب الآلي في هذه العملية التعاونية وبالتالي التقليل من البصمة البشرية فيها، وهذا ما خفض من مستويات نجاعة العملية التحريرية في بدايات الأزمة [٣]. هذه الهفوة، رغم أن تأثيرها في بدايات الأزمة لا يستهان به، قد تم تداركها اليوم، فنجد مثلا مجموعة من الإجراءات مثل وضع حجر على بعض منتجات للبيع على أمازون، أو تقييد نوع الإعلانات على غوغل، كما أن كل من فايسبوك ويوتوب ومايكروسيفت وتويتر يعمل بوتيرة أشد صرامة على رفع مستويات حظر المحتوى وإزالة المعلومات الزائفة أو المرفوضة طبيا. لكن، للأسف، ليس واضحا إلى أي مدى تصل هذه الإجراءات إلى المحتوى المتنج باللغة العربية.
هذا نأتي إلى النقطة الأشد أهمية، ففي خضم هذا كله ما يقع أمام أعيننا هو صراع حول مراتع السيطرة على تدفق المعلومة وطريقة التفاعل معها، وبالتالي حول صياغة جملة المفاهيم والأسس التي ستشكل التركيبة المجتمعية، السياسية منها والاقتصادية، الجديدة أي صياغة كل من السرديات التاريخية والمستقبلية التي ستمثل قاعدة الانطلاقة الجديدة لعالم ما بعد الجائحتين، وهذا لا يقتصر على كل ما له علاقة ببروز هذا الفيروس وكيفيات التعامل معه فحسب، بل ينعكس كذلك على سرديات وآليات السيطرة والقوة والنفوذ في تشكيل هذا العالم الجديد. المقلق في الأمر هو أن جزءا مهما من هذا الصراع المعنوي السردي يتم عبر تكنولوجيا التواصل وبالتالي يضع هذه الشركات الضخمة وطرق تصميمها لتدفق المعلومات ورواجها، يضعهم في مكانة قوة لا يستهان بها في توجيه وصناعة الرأي العام، بل وصياغة السلوك الفردي والجمعي مباشرة، خصوصا باعتبار تحول هذه التكنولوجيا إلى قنوات رئيسية أو ربما تصبح الوحيدة بين العائلات والأصدقاء والمجتمع عامة، وهو ما سيضع شعوبنا - الشعوب التي تستهلك التكنولوجيا ولا تصنعها - في مرتبة الشعوب التي ستغيب عن الفعل في التاريخ من جديد و باعتبار بعدنا الكامل عن عمليات التقنين والضبط في مجرى التطور التكنولوجي في هذا المجال، سيضعنا في مقام من سيُفعل به مرة أخرى...
ما نستنتجه إذن هو وجود خصائص تركيبية لمنصات التواصل تحول موضع التحرير من محطة التنقيح إلى محطة الترويج والمشاركة، مما ينقل مسؤولية إنجاز هذه العملية إلى أفراد وشركات ممارساتها لا تضع التحري ضمن أولياتها ضرورة، كما يحد هذا التحول من المدى الزماني ومن المكانة السياقية للمعلومة والذي يؤدي بدوره إلى زرع بذور السطحية في التعاطي مع المعلومة المنشورة.