قال الباحث والأستاذ بالمركز الجامعي تيبازة، عبد القادر دحدوح، إن كتابه «التراث الثقافي بالجزائر وتحديات التثمين الاقتصادي»، الصادر مؤخرا عن دار نوميديا للطبع والنشر، يقدم عرضا وتقييما للاستراتيجية المتبناة من طرف وزارة الثقافة والفنون في ميدان تفعيل البعد الاقتصادي للتراث الثقافي، راصدا أيضا إحصائيات مهمة تخص مختلف الصناعات الثقافية فضلا عن مواقع أثرية في الجزائر.
إيناس كبير
وجاء المؤلف ضمن مبادرة وزارة الثقافة والفنون لدعم نشر الكتاب لعام 2024، حيث جمع الباحث عصارة مسيرة علمية ومهنية قضاها في عدة قطاعات مهمة، وقد عرض أيضا أهم المواقع والمعالم الأثرية خصوصا المصنفة ضمن قائمة التراث العالمي، وفي حديث للنصر، أشار إلى أنه ركز على مقومات الجذب السياحي للعناصر التراثية سواء المادية أو غير المادية، متطرقا إلى أهم التحديات التي يشهدها هذا المجال وسبل تجاوزها.
مساعي الدولة لتفعيل البعد الاقتصادي للتراث الثقافي
وعرض وقيَّم الباحث والأستاذ بالمركز الجامعي بتيبازة، عبد القادر دحدوح، من خلال إصداره، الاستراتيجية المتبناة من طرف وزارة الثقافة والفنون لتفعيل البعد الاقتصادي للتراث الثقافي.
كما أوضح، أن الدولة الجزائرية بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، أعطت أهمية كبيرة للثقافة والتراث والذاكرة الوطنية، مضيفا أنه لأول مرة يظهر في خطاب الحكومة الاهتمام بالاقتصاد الثقافي.
ويرى دحدوح، أن هذه المفاهيم ومخطط العمل المعتمد هي مؤشرات تدل على أن الدولة تسعى إلى الانتقال بالمنتوج الثقافي إلى مورد يساهم في تنويع الاقتصاد الوطني، ويخلق ثروة ومناصب شغل في شكل مؤسسات ناشئة صغيرة تسمح بفتح قنوات جديدة للشباب المبدع خصوصا، وأصحاب المواهب في المجالات الفنية، كفنون الأداء، والعروض الحية، والسمعي البصري، والتراث والاستفادة من استخدامات التكنولوجيا الحديثة في ميادين التراث الثقافي والفنون والسينماتوغرافية.
وأشار، إلى تسخير الحكومة لمؤسسات وهيئات تابعة لوزارة الثقافة والفنون كالمتاحف الأثرية الوطنية، والدواوين، والحظائر الثقافية التي تمثل الحامي الأول للتراث على مستوى نطاقها الجغرافي وهيئاتها ومؤسساتها، إضافة إلى جهود وزارة المجاهدين وذوي الحقوق في حفظ وصيانة وحماية التراث الثقافي الذي يعود إلى حقبة الثورة التحريرية، مرورا إلى دور المؤسسات الأمنية في حمايته من التدمير والتخريب والتهريب والسرقة والنهب. وهو مسعى يتجلى حسبه، في الإحصائيات التي تقدمها فرق الدرك الوطني، وفرق الأمن الوطني، والجمارك، وكذا الجهود التي يبذلها ممثلو المجتمع المدني من جمعيات وطنية ومحلية ناشطة في المجال، تنشر الوعي والتحسيس بأهمية المواقع الأثرية على مستويات الجمهور والمواطن البسيط.
وأفاد المتحدث، أن الكتاب عرض أيضا تجارب دول عربية وأوروبية في دعم الاقتصاد الثقافي وتفعيله، مردفا أنه استفاد أيضا من الاطلاع على المحتوى الرقمي لمواقع عدة وزارت ثقافة وآثار، والهيئات العليا للآثار على مستوى هذه الدول، ليتوصل إلى مجمل الإجراءات التي تقوم بها في هذا الجانب، فالولايات المتحدة الأمريكية وفقا له، تضم أزيد من 33 ألف متحفا وكذلك ألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا التي يتواجد بها أزيد من 5000 إلى 6000 متحف.
ويرى الأستاذ، أن هذا العدد الكبير من المتاحف من دون شك هو ناتج عن إيرادات مالية لقطاع الثقافة والسياحة، كما أعيد بعث الحياة في عديد المواقع الأثرية على مستوى الهند وإيطاليا وغيرها، بتحويلها إلى منتجعات سياحية وفق دفاتر شروط تضمن ترميما أصيلا لهذه المعالم حيث يبلغ سعر المبيت فيها لليلة الواحدة بين 100 إلى 400 دولار.ورصد الكتاب أيضا، تجارب خواص في استئجار فضاءات متحفية، ومواقع أثرية لتنظيم تظاهرات علمية، إدارية، وحفلات اجتماعية وذلك وفقا لشروط يلتزم بها الجميع تدر أموالا على هذه المؤسسات، بما يمنحها موارد مالية تساهم في اقتصاد المعلم نفسه، فضلا عن توسيع دائرة الحفاظ عليه والترميم و كذا التنقيب الأثري في المواقع التي لا تزال تنتظر الكشف عنها، والتي لا تقل أهمية عن تيمقاد، وجميلة، وتيبازة، وكذا مدينة تيهرت، تيديس، وغيرها من المدن الجزائرية التي تضم كنوزا قد تشكل مراكز استقطاب سياحي جديدة في المستقبل، يمكن أن تساهم في دعم ودفع التنمية المحلية المستدامة على مستوى بعض البلديات النائية والولايات خاصة الداخلية والصحراوية. وعن التجربة العربية، ذكر الأستاذ، نموذج الجارة تونس التي تصنف سنويا أزيد من 50إلى 60 موقعا ومعلما أثريا، بالرغم من الفرق الشاسع في المساحة والثراء في المواقع الأثرية مقارنة بالجزائر.
مقومات التراث الثقافي في الجزائر وفقا للإحصائيات
أما بخصوص مقومات التراث الثقافي سواء المادي أو غير المادي، وعوامل الجذب السياحي في الجزائر فقد قدمها كتاب «التراث الثقافي بالجزائر، وتحديات التثمين الاقتصادي» وفقا لإحصائيات تخص مختلف الصناعات الثقافية على غرار، الصناعة السينماتوغرافية، وصناعة الكتاب، وصناعة الأداء والعروض الحية، وصناعة السياحة الثقافية، والصناعات والحرف التقليدية، التي بينتها هيئات الأمم المتحدة بما فيها اليونيسكو، المنظمة العالمية للتجارة، والمنظمة العالمية للسياحة، والمنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية، وحتى بعض المنظمات الدولية المختصة في الصناعة السينماتوغرافية.
ووفقا لدحدوح، فإن الجزائر تحصي أزيد من 15 ألف موقع أثري، 07 منها مصنفة كتراث عالمي، وأزيد من 1050 موقعا ومعلما مصنفة كتراث وطني، تتوزع حسب فترات تاريخية مختلفة تشير إلى عمقها التاريخي والتعاقب الحضاري على أرضنا، بداية من عصور ما قبل التاريخ، إلى الحضارة النوميدية، والرومانية، والبيزنطية، ثم الوندال، والفينيقيين، وكذلك الحضارة الإسلامية إلى الوجود العثماني، والمقاومة الشعبية، والثورة التحريرية.
وأشار المتحدث، إلى أهم المعالم الموجودة في الجزائر خصوصا المصنفة على قائمة التراث العالمي بداية من موقع طاسيلي، وموقع تيمقاد، وموقع جميلة، وموقع تيبازة، وموقع قلعة بني حماد، وقصبة الجزائر، وقصور واد ميزاب.
وفي هذا السياق، لفت الباحث والأستاذ بالمركز الجامعي تيبازة، إلى أن أقدم موقع تاريخي في الجزائر اكتُشف من قبل الباحث الأثري الجزائري البروفيسور محمد سحنوني بمنطقة «عين بوشريط» في ولاية سطيف، ويؤرخ لأزيد من 2.4 مليون سنة، وقد أَهل الجزائر لاحتضان ثاني أقدم محطة أثرية في العالم، واعتبر دحدوح الموقع في غاية الأهمية ويستحق أن يصنف على قائمة التراث العالمي. أما بخصوص التراث الثقافي الجزائري غير المادي، فيزخر حسبه بعناصر ثرية ومتنوعة، وقد تَضمَّن المُؤلف العناصر المصنفة على مستوى منظمة «اليونيسكو» في اللائحة الدولية للتراث الثقافي غير المادي وتبلغ 13 عنصرا مثل، الاحتفالات المرتبطة بـ»السِبيبة»، و»السبوع»، وموسيقى «الإمزاد»، والشدة التلمسانية، والكسكس، والخط العربي، والنقش على المعادن وغيرها.
مجال التراث الثقافي يعرف تحديات كبيرة
أما عن التحديات التي يعرفها هذا المجال، فيرى الباحث انطلاقا من التجارب التي قضاها في الميدان، أنه ينتظر الدولة عمل كبير في عدة جوانب قانونية و مؤسساتية، والأهم تغيير الذهنيات لأن التراث الثقافي ما يزال يُنظر إليه ككنز يُبالغ في الخوف عليه.وبحسب دحدوح، ينبغي الانتقال من خشية ضياع هذا الموروث إلى المحافظة عليه والاستثمار فيه لضمان موارد مالية إضافية وذلك بتوسيع دوائر الترميم، والصيانة والحماية، وإنشاء متاحف إضافية، ودواوين لحماية التراث الثقافي.وعقب الأستاذ، بأن هذا التوجه الجديد يُعنى أيضا بفتح قنوات استثمار للخواص تمكنهم من خلال عقود امتياز من استغلال معالم أثرية تاريخية مثل القصور الصحراوية التي تحتاج إلى توظيفها وإعادة ترميمها بعد أن هجرها أهلها وبقيت تتهاوى تدريجيا، وأشار أيضا إلى الإجراءات الإدارية الثقيلة والبطيئة في ترميم المعالم الأثرية وصيانتها، وهي عقبة تقف حسبه، في وجه ملفات التصنيف. وفي جانب حماية المواقع والمدن الأثرية، يرى المتحدث أنه من الصعب توفير حراس لمدة 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، بسبب عددها الكبير فكل موقع أثري يتطلب على الأقل 10 حراس، بالإضافة إلى المدن الأثرية على غرار، تيمقاد، جميلة، هيبون، مداوروش، خميسة، وتاقدلت، وحتى مع تسخير المورد البشري يصعب توفير الحراسة الكافية بسبب المساحة الكبيرة التي تتربع عليها.واعتبر الباحث، أن الحل يكمن في تعزيز الوعي في المجتمع، ودور ممثلي المجتمع المدني في حماية التراث الثقافي خصوصا في ظل توفر الآليات القانونية المتمثلة خاصة في قانون 98-04 المتعلق بحماية التراث الثقافي، فضلا عن قوانين أخرى تخص هيئات ومؤسسات، مثل القوانين المرتبطة بحماية وترقية الصناعات والحرف التقليدية، وحقوق المؤلف وغيرها من المجالات الأخرى التراثية.
التأليف العلمي يدعم حفظ ونشر التراث الثقافي
من جهة أخرى، اعتبر الباحث المجال العلمي مهما في تكوين الإطارات والباحثين في التراث الثقافي، وكذا تكوين مورد بشري مستقبلي يمكنه حماية التراث الأثري وتسييره. وأوضح، بأن فتح مشاريع بحث وطنية، ومشاريع تكوين جامعية سيساهم في القيام بالعديد من الحفريات والتنقيب على مستوى المواقع الأثرية، مثلما هو الحال في عين حنش، تهودة، وهيبون التي انطلقت فيها العملية منذ فترة قليلة، بالإضافة إلى موقع بني حماد الذي استؤنفت فيه أيضا الحفريات هذه السنة وغيرها من المواقع التي تشرف عليها الجامعات الجزائرية مثل جامعة تلمسان، إلى قسنطينة، وسطيف، و الجزائر. وقال، إن دعم مشاريع البحث لدى هذه المؤسسات الجامعية ومخابر البحث المتخصصة في علم الآثار والتراث بصفة عامة سيوسع الحركة في كل التراب الوطني.وتلعب التظاهرات العلمية والثقافية التي تنظمها مختلف الهيئات الثقافية التابعة لوزارة المجاهدين، ووزارة الثقافة وغيرها من القطاعات الوزارية، وكذا وسائل الإعلام السمعية البصرية، المقروءة، والمسموعة دورا أساسيا ومحوريا في توعية المجتمع الجزائري بأهمية التراث، إضافة إلى بعض المنصات الرقمية والإلكترونية التي يمكن أن تُتخذ كقنوات لتوعية المجتمع الجزائري خصوصا بالنظر إلى النسبة الكبيرة التي تستخدم الإنترنت حاليا في الجزائر وتزيد عن 70 بالمائة، وكذا التي تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف منصاتها و تصل إلى حدود 23 مليون جزائري.واعتبر دحدوح، أنه يمكن استهداف هذه الشريحة من خلال الوسيلة التي تعتمدها في خلق وعي لدى الفرد الجزائري الأجيال الصاعدة، بالإضافة إلى غرس ثقافة السياحة والتراث على مستوى المنظومة التعليمية التربوية والمهنية. إ.ك