وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد19) الّذي توسع وانتشر في كلّ أرجاء العالم، والذي حصد معه عشرات الآلاف من الأرواح بدون أن يُميز بين ألوان البشر ، فإنّ من أهم مخرجاته (بعد مأساة العدد الهائل لضحاياه)، هي مسألة تزايد الاِهتمام والتحليل والاِستشراف لِمَا سيطرأ على هذا النظام الدولي المعولم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وذلك في ظل تزايد النزعات والسياسات الفردية والقومية في محاصرة هذه الجائحة بمعزل عن كلّ توجه تكتلي أو تحالفي سواء كان إقليميا أو دوليا (أزمة معاناة إيطاليا وتقاعس الإتحاد الأوروبي أنموذجًا)، ودليل ذلك تزايد الإجراءات الاِنفرادية لمواجهة تفشي الوباء من حظر العديد من البلدان السفر إليها ومنها، وإغلاق كلّ مجالاتها الجوية والبرية والبحرية في حالة أشبه بزمن العزلة في وقت مضى، كذلك حالات القرصنة الدولية العديدة لوسائل الوقاية والمواجهة لوباء كورونا عن سبق إصرار وترصد (مثال ذلك: الباخرة التونسية المحملة بالكمامات والوسائل الطبية التي تمّت قرصنتها من طرف إيطاليا في ظاهرة دولية ميكيافيلية جديدة وفريدة من نوعها)، وكنتيجة لكلّ ذلك بدت أزمة الجائحة بمثابة “اِختبار ومحك حقيقي” لمسار العولمة وفلسفتها ومنطقها الّذي ساد العالم المعاصر لعقود عديدة.
خالد طبيخ (*)
كما كان للأزمة الوبائية العالمية الأثر البليغ في تسليط الضوء عن ما اُعتبر جوانب سلبية جديدة للعولمة والتكامل والتعاون الدوليين، وهو ما صبّ في صالح القوميين الوطنيين والشعبويين حول العالم من أعداء التفاعلات المافوق الوطنية، وبروز أطروحاتهم ومقارباتهم من جديد المُبنية أساسًا على إعطاء شرعية ومبرر للقيود على التجارة العالمية وعلى حركة الأشخاص والبضائع، كما أدركت عدة شركات عالمية أوروبية وأمريكية فجأة مخاطر الاِعتماد على سلاسل التوريد العالمية المُعقدة (مثال ذلك أزمة ندرة الكمامات ووسائل العلاج في أوروبا نتيجة نقل معظم الشركات الأوروبية المتخصصة لأصولها ومصانعها إلى بلدان شرق آسيا لتقليص تكاليف الإنتاج، في مقابل ذلك اِكتفاء الصين ذاتيًا واِلتزامها بتلبية كلّ اِحتياجات وطلبيات العالم، وبروزها كمتعاون موثوق الجانب في مساعدة عديد الدول كإيطاليا، إيران، والجزائر...)، وكلها حقائق تُرجح فرضية ظهور نظام عالمي جديد أقلّ عولمة واِنفتاحًا وحريةً (إن لم نقل بدون عولمة) أساسه تعاظم النزعات القومية لدى الدول والشعوب محاولة منها لتقوية مناعة مجتمعاتها وجبهاتها الداخلية، وكذا إقتصاداتها اِتجاه أي هزات وأزمات مستقبلية، وتعزيز المبدأ الواقعي “الاِعتماد على النفس”، واِكتساب كلّ مقومات الاِكتفاء الذاتي والأمن الصحي والإنساني بشكلٍ عام بعيداً عن شعارات التكامل والاِندماج والتعاون الدولي التي بدت كمن يتشبث بقشة في مواجهة تيارات وموجات عاتية وسط المحيط.
ولكن رغم كلّ هذه الوقائع والأحداث فإنّ هنالك تصورات بديلة وآراء أخرى لبعض المحللين والمهتمين مخالف لآراء وأماني القوميين والشعبويين، أساسه أنّ أزمة تفشي الوباء عالميًا إلى جانب كوارث عالمية أخرى مثل تغيرات المناخ، قد تساعد على المدى الطويل في تطوير وترسيخ وعي عالمي وإنساني مشترك، حيث كلما عانت البشرية بأكملها في جميع أنحاء العالم من الصدمات والأزمات نفسها كانوا على اِتصال أعمق وأوثق مع بعضهم، وتآلفوا وتعايشوا بذلك ضمن مجتمع عالمي مشترك، ما يستدعي إثرها تعميق النظر والبحث عن آليات ووسائل مشتركة أكثر فعّاليّة وواقعيّة لمواجهة الأزمات العالمية المستقبلية، ومنه بروز الضرورة لإصلاح ميكانيزمات التنسيق والتعاون الدولي، وكذا توسيع نطاق المبادرات الإنسانية بين مختلف فعّاليّات ومنظمات المجتمع المدني العالمي في إطار أخلقة وأنسنة السياسة الدولية المشتركة بعيدا عن الاِنتهازية والميكيافيلية المقيتة.
على كلٍّ فإنّ لكلّ توجه اِستشرافي براهينه وتحاليله المبنية على معطيات منطقية، إلاّ أنّ الحديث عن مستقبل النظام العالمي الجديد وأزمة العولمة في ظل مرحلة ما بعد كورونا يبقى الزمن كفيلاً بالإجابة عنه، مع تجلي حقيقة واحدة فقط لا يختلف عليها اِثنان، وهي أنّ النظام العالمي أُحادي القطب (وِفْقَ ما يبدو من إرهاصات) صار من الماضي في ظل معاناة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في مواجهة الوباء واِنكشاف نقاط ضعفهم وتراجع سمعتهم دوليًا، مقابل تعاظم كبير لدور الصين وخروجها أقوى بكثير إثر هذا الوباء وتعاظم سمعتها الدولية، ما يجعل مستقبلاً نجاح أي سياسة دولية في كلّ المجالات يمر حتمًا عبر إشراك كلّ القِوى الدولية الفاعلة كالصين ومُختلف القِوى الصاعدة الأخرى.
(*)أستاذ العلوم السياسية -جامعة صالح بوبنيدر-قسنطينة3