يتحدث الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور عبد القادر فيدوح، عن الهوية الثقافية ومدى استيعابها لمُستجدات الحياة والمعارف. مؤكداً في هذا الحوار للنصر أنّ كلّ من يحكم على عجز الهوية الثقافية في عدم اِستيعابها مُستجدات الحياة والمعارف، فإنّ نظره قاصر إلى حدٍ بعيد؛ إذ العجز والقصور ليس في الهوية الثقافية، ولكن في أصحابها؛ لأنّ الهوية بأهلها، تموت بموتهم وتحيا بحياتهم. كما تحدث عن المجتمعات التي صارت تعيش ثقافة المشهد التي تحوّلت بدورها إلى نمط حياة. ما يعني -حسب قوله دائماً- أنّ أجيالاً من البشر أصبحت تتشكل داخل مجتمع المشهد في محيط وعصر النسخ الآلي. مضيفًا في ذات المعطى أنّ حضارتنا لم تُقدم ما يلزم لأجيالنا من وعي ثقافي للعالم الاِفتراضي في مجرياته السليمة التي من شأنها أن تُسهم في صناعة الوعي الاِجتماعي. صاحب “الرؤيا والتأويل»، تناول أيضاً بالتحليل والاِستقراء ثقافة الاِستهلاك التي يرى أنّها أصبحت تُهدد المجتمعات والهويات القومية، وتُخلخل المفاهيم الاِجتماعية. موضحاً أنّ ما هو سائد في حياة المُجتمعات –اليوم- هو مصادرة القيم، في مقابل مُبايعة السوق (المجمّعات). كما تحدث عن موضوعات وإشكالات أخرى ذات صلة بفحوى الحوار. للإشارة، الدكتور عبد القادر فيدوح، ناقد وباحث أكاديمي. له مجموعة من الإصدارات، تتجاوز 45 مؤلفًا، بين تأليف منفرد، وتأليف مشترك كلها تصب في الدراسات النقدية والتطبيقية والفكرية والفلسفية، بغض النظر عن، مجموعة من الدراسات، والمقالات العلمية، والمداخلات، في الملتقيات الدولية والمؤتمرات التي تخطت رقم 150 بحثاً، ومن كتبه: “الاِتجاه النفسي في نقد الشِّعر العربي”. «تأويل المتخيل، السرد والأنساق الثقافية». «التجربة الجماليّة في الفكر العربي». «معارج المعنى في الشِّعر العربي الحديث». «اللّغة العربية والعولمة وجهًا لوجه». «الفكر الخلدوني ومنابع الحداثة». «نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية». وغيرها من الكُتب.
* حاورته/ نوّارة لحـرش
برأيكم هل عجزت الهوية الثقافية عن اِستيعاب مُستجدات الحياة والمعارف؟
عبد القادر فيدوح: إنّ كلّ من يحكم على عجز الهوية الثقافية في عدم اِستيعابها مُستجدات الحياة والمعارف، فإنّ نظره قاصر إلى حدٍ بعيد؛ إذ العجز والقصور ليس في الهوية الثقافية، ولكن في أصحابها؛ لأنّ الهوية بأهلها، تموت بموتهم وتحيا بحياتهم. ونحن الذين نُقدم الزَّاد للهوية، وليست الهوية الثقافية هي التي تقدم لنا الزَّاد، وبالتالي فالقضيَّة قضيَّة تعزيز مكانة الهوية الثقافية، ومن ثمّ فإنّ المسألة هي في جفاف العقل العربِي وجموده، كونه تعوّدَ على التَّعالم، واستسهال الأمور باللامبالاة، واللااكتراث بالعِلم والمعرفة، وهو ما أفْقَدَنَا الرضا في كلّ شيء، ووُضِعْنَا وراء تجاهل مطالب التزوّد بتكنولوجيا المعلومات والمعارف، حتّى ظننا أنّنا جهلاء فعلاً، مع أنّ الحقيقة غير ذلك على وجه الإطلاق، بدليل مجرّد هجرة أدمغتنا تبدو على محياها روح الإبداع، وتشرق على وجوههم اِبتسامة التفاعل مع المطالب، وتتحرّر عقولهم من كلّ قيد، وتعطي أياديهم كلّ ما تملك، وتُسهم في صنع التحديث الحضاري. فأين هذا من ذاك؟ وما الّذي غير الوضع؟ وأسئلة كثيرة تنتظر إجابات وافية.
وإذا كان مركز العالم يتحوّل بدراسة محكمة، وبرُؤى إستراتيجية، إلى هذه الثورات المعرفية، فإنّنا نأبى الخوض في تجربة المشاركة في صنع هذه الثورات، وكأنّنا لا نشعر بقيمة فعلها المنجز إلاّ باِستهلاك نتائجها، وما تحتويه من مضامين، تصلنا بسهولة ويُسر، ومن دون عناءٍ يُذكر. وقد ساعد على تأخرنا، في جميع المجالات، إهمالنا لغتنا، وعدم معرفة الترويج لها لقصور التفكير، والإصابة بمرض التعالم، واهتمام العقل العربي بالشيئية، وذهان السهولة، حينما يُبادر إلى حل إشكال صعب فيخرِّبه لعدم معرفته بالطُرق السليمة لحل هذه الإشكالية، أو هذيان الاِستحالة على حد رأي مالك بن نبي. عندما نرى الأمور مستحيلة، ونقف أمامها عاجزين، وهي في الحقيقة غير ذلك لعدم تمكننا من أدائها، لفقده الوسائل التعبيرية والمنهجية، والكفاية القادرة على حلها، أضف إلى ذلك اِعتماد التجارب الفارغة من أي محتوى فكري.
إنّ كفاية الوعي الثقافي في أبسط أداء له هو إعطاء الأولوية لتعزيز الإمكانات الوفية لملاحقة الركب مع القادرين على صناعة المعرفة والتكنولوجيا في شكل كُتلPacket-Switching Networks، ولعلنا نعي أهمية ذلك حين نشعر بأنّ حضارتنا لم تُقدم ما يلزم لأجيالنا من وعي ثقافي للعالم الاِفتراضي في مجرياته السليمة التي من شأنها أن تُسهم في صناعة الوعي الاِجتماعي.
المجتمعات صارت تعيش ثقافة المشهد وهي بمثابة نمط حياة. ما يعني ربّما أنّ أجيالاً من البشر أصبحت تتشكل داخل مجتمع المشهد في محيط وعصر النسخ الآلي؟
عبد القادر فيدوح: «الإنسان يصنع السلعة والتسوق يصنع الحياة» قد تبدو المقولة غريبة بعض الشيء، غير أنّه بقدر من التأمل ندرك أنّ جيلاً جديداً من البشر أصبح يتشكلُ فعلاً على وجه الكرة الأرضية من ثمار عصر النسخ الآلي؛ إنّه جيل «مجتمع المشهد» وهو المجتمع الّذي عَبَّرَ عنه أحد المفكرين بمجتمع (فوق الواقع، أو الواقع المُتعالي Hyperréel) كونه يعيش الحقيقة التي تخفي عدم وجود الحقيقة، ويُحاول أن ينفي الواقع الوجودي/الملموس.
وفي ظل هذا الواقع المُتعالي الجديد ليس لنا إلاّ أن نستسلم لما تستحوذه علينا حالة التغير الشمولي في جميع العلاقات الثقافية والمعرفية والاِجتماعية والاِقتصادية، وفي خضم ذلك لم تعد المجتمعات على وجه الأرض في عصرنا الحالي تعتمد على تعزيز الروابط، وتمكين الأواصر، وتوطيد النفوس على حب الخير، وتحقيق المنفعة العامة، أضف إلى ذلك أنّه مع تنوع الخدمات، في العالم، تلاشت العلاقات، ومالت إلى طبيعة كلّ ما هو عابر، ولا عجب في أن يصف أحدهم المجتمعات الحديثة بأنّها باتت تُقاس بالخدمات الترفيهية، وأنّ قيمتها تتوقف عند الرغبة في سرعة الوصول، بأي شكلٍ من الأشكال؛ الأمر الّذي غير مبادئها، وأتلف هويتها، وحوّل اِتجاهاتها الثقافية إلى بوصلة أوقعتها في مُعايشة الوهم، وإشباع الخاطر، العابر.
إنّ ما هو سائد في حياة المجتمعات هو مصادرة القيم، في مقابل مُبايعة السوق (المجمّعات) وفاءً لإشباع الرغبة الجموحة في الاِنقياد وراء الأهواء، بعد أن تحوّلت الحياة إلى سلع، وأصبح النّاس مربوطين بكلّ ما هو تجاراتي Commerciality.
إذا كانت هذه الأسواق قد جلبت للمجتمعات الاِستهلاكية ما لم يكن يتصوره العقل قبل عقد من الزمن على أقل تقدير من أحدث سُبل الاِتصال والتواصل، ووفرت متطلبات الرفاهية؛ لتأمين السعادة بفعل اِنتعاشها باِستمرار، فإنّها بالمُقابل أصبحت مبعثَ قلق من هوس الاِقتناء برغبة متلهِّفة، ومن دون رقابة، بِمَا فيها الرقابة الذاتية، بعد أن أصبح التسوق بثقافته يتحكم في حياة النّاس، ويُجبرهم على تسلل الأيادي خفيةً إلى مصدر مدخرات وقت الحاجة؛ لإشباع مهمة الشراء المفرط في معظمه حتّى أصبحنا نقاس بمظاهر ما نملك، وليس بالكيفية التي تجعلنا نستجيب لحاجاتنا الضرورية.
ثقافة الاِستهلاك باتت تُهدد الهويات القومية وتُخلخل المفاهيم الاِجتماعية
هل يعني هذا أنّ ثقافة الاِستهلاك أصبحت تُهدد المجتمعات أو الهويات القومية؟
عبد القادر فيدوح: لعلّ المُتأمل في ثقافة الآخر يُدرك أنّ ثقافة الاِستهلاك، باتت تُهدد الهويات القومية، وتُخلخل المفاهيم الاِجتماعية، وهو ما يؤكد بنظرة استشرافية تمخضها لتلد كائنًا بشريًا غريبًا في أطواره، عجيبًا في أمزجته، قلقًا في تصرفاته، خاصةً عندما يصبح السعي إلى «الوصول» هدفًا، ونمط حياة، مع جيل الشاشات المرئية، والأجهزة الذكية. وإذا كان التسوق في مجال الاِستهلاك المادي مقبولاً؛ لظروف حتمية، فإنّ ما هو غير مقبول، أن تكون ثقافة الشعوب بجميع مكوناتها سلعة مدفوعة الثمن نتسلى بها، بغرض تأمين الوصول السريع الّذي من شأنه أن يغذي نشوة النصر بالتملك، والسعادة بالتميز ليس إلاّ(!..).
إنّ الفجوة الثقافية لجيل (البوابات WWW، أو كما يطلق عليه جيل دوت كوم) تُصاحبها فجوة معظم مؤسسات المجتمع المدني في بلادنا العربية على وجه التحديد وعلى رأسها الأسرة، بعد أن تمَّ مصادرتها هي الأخرى لتندمج في «الخارج» من مقصد السوق بجميع أطيافه، على حساب «الداخل» الّذي كانت تُراعي فيه هويتها، وبصورةٍ أدق تحوّلت الأسرة في علاقاتها من سند «الاِعتبار» في تعزيز تجربة العبرة والموعظة، إلى فصل العلاقات بعضها عن بعض، وهو ما أثَّرَ سلبًا على نمط الخطاب الاِجتماعي، ناهيك عن السلوك الثقافي في خلق ذوق جديد، وأسلوب حياة جديدة.
ولكن، رب قائلٍ يزعم: وما عساك تقول في هذا التطور الهائل بالأدلة القطعية لما نراه في اِتساع مدى اِزدهار وسائل التنوع الثقافي، وما تُثمره التكنولوجيا الرقمية؟ وهل لك أن تُبرر أهمية المنفعة منها، من عدمها؟ أم أنّ عقولنا معميّة، وغير قادرة على تمييز [الغث من السمين].
إنّ جميع الفرضيات الاِحتمالية والحقيقية تُشير إلى تشجيع تعميم الفائدة من وسائل تكنولوجيا المعلومات، وما تُحدثه من تحوّل كبير لإنعاش الرأي العام وتوعيته، وإكساب الذوق الرفيع، وتنمية المهارات الثقافية، عند التعامل معها بِمَا تهدف إليه المصلحة العامة، والفائدة المشتركة، والقيم المتبادلة.
أمام كلّ هذه الفرضيات وإشكالات التكنولوجيا وما تحدثه من تحوّلات. يتبادر إلى الذهن سؤال الوعي الجديد. كيف هو وإلي أين سيقودنا؟
عبد القادر فيدوح: في الحقيقة إنّ الوقت مازال مُبكراً جداً على حد تعبير أحد الباحثين لنعرف إلى أين سيقودنا الوعي الجديد، ومن جهة نجد أنّ القِوى التجارية قوية ومغرية، وبدأت تجذب أعدادا كبيرة من جيل “Dot-com” إلى العوالم الجديدة للإنتاج الثقافي، ومن جهةٍ أخرى نجد أنّ الكثير من الشباب يستخدمون حواسهم حديثة التأسيس من العلائقية والترابطية لتحدي الأخلاقيات التجارية غير الملجومة؛ ولاستحداث مجموعات جديدة ذات مصالح مشتركة، وفيما إذا كانت قِوى التجارة الثقافية ستسود في النهاية، أو أنّ عالمًا ثقافيًا يُعاد تجديده سيكون قادراً على إيجاد توازنات بين طرفي المعادلة، يبقى الآن سؤالاً مفتوحًا حسب رأي الباحث جيرمي ريفكين.
إلى أي حد يمكن لمهارات الفرد الرقمية أن تُسهِم في التطوّر المعرفي أو في مواكبته؟
عبد القادر فيدوح: لقد أثبتت التجارب الثقافية أنّ المرء الّذي لا يدرك مهارات الفارق الرقمي لا يُمكنه أن يسهم في مواكبة التطوّر المعرفي، أو الحفاظ على هويته، أضف إلى ذلك أنّ تشخيص هذه التكنولوجيا لدى الفرد يكمن في توسع بُعد النظر، ومحو المجهول، وتثبيت المعلوم، وتقريب المقصود، بسرعة يصعب فيها على غير المُستثمر للتكنولوجيا الرقمية، أو المُتمكن من الكفاية الثقافية لها، إدراك الأشياء، في حين يُسهل على المُدرك لها كشف الحقائق والتعبير عنها بيسر؛ الأمر الّذي يسهم في نمو معارفه وأفكاره في الحياة العملية والعلمية. كما أنّ الكفاية الرقمية تعتبر حصانة لحسن الطوّية، وضمان من أي ضرر يُهدد المجتمع ويُخل بالأمن الفكري على وجه التحديد بوصفه لبّ الجوانب الأمنية الأخرى، وخالصها، وخيارها في شتّى المجالات سواء منها الثقافية، أو الاِجتماعية، أو السياسية، أو الاِقتصادية إلى غير ذلك من دعائم المؤسسات الاِجتماعية وسندها القوي، وإذا كان للاِستثمار في التكنولوجيا الرقمية القدرة على دفع الإنتاجية بقوّة، فإنّ الاقتصادات المتقدمة التي هي في طليعة الثورة التكنولوجية قد تحتل مكانة متقدمة عن الآخرين وتحتفظ بتفوقها. –كما تقول بيبا نوريس-، وفي هذه الحال نعتقد جازمين أنّ اللحاق بالركب مشروط بتعزيز الهوية الوطنية أنَّى كانت.