فقد الأدب العالمي ليلة أمس الأول أحد أبرز رموزه، بوفاة الروائي الأمريكي بول أوستر الذي انطفأ في بيته ببروكلين عن 77 عاما، بعد أشهر قليلة من المقاومة غير المجدية لسرطان الرئة.
الكاتب النيويوركي الذي اكتشفه العالم في ثمانينيات القرن الماضي من خلال ثلاثيته الشهيرة، نجح في بناء معمار روائي فريد قوامه الغرابة التي تغلف الحياة العادية، ومخاتلة الذات بسرد يقترب من السيرة الذاتية ويكشف أسرار الكتابة ومطباتها، كتابة تدفع الحياة وتجعلها سريعة، كما يكتشف بطله السبعيني «بومغارتنر» في روايته الأخيرة التي أكملها في مدار السرطان، وقدم فيها من ارتفاع السبعين شهادة حميمة عن الحب والفقدان، عبر أستاذ الفلسفة الذي يستعيد حياته وحياة زوجته التي ذهبت إلى موت عبثي، تاركة له مخطوطاتها المهملة.
وربما تنبأ أوستر بمصيره في «حماقات بروكلين»، حين منح الكلمة لمتقاعد مصاب بالسرطان يعود إلى من تبقوا من العائلة ويعيش حياة ثانية مستعينًا بالصّدف التي تتكرّر في رواياته من دون أن تنال من فنيّتها، بل أنها تتحوّل إلى حجرة ضرورية في البناء تدفع إلى التفكير في الخيوط غير المرئية التي تشكّل الحياة، لأن «الصدفة» تشكل مادة في بناء أوستر الرجل الذي أخطأته صاعقة و أصابت رفيقه حين كان طفلا في معسكر تخييم، ودفعته إلى حمل القلم، بعد أن صادف في طفولته أيضا نجمه المفضل ويلي مايس لاعب البيسبول وفشل في الحصول على إمضائه لأنه لم يكن يحمل قلما، ليحرص طيلة حياه على حمل القلم.
بدأ بول أوستر شاعرا واستمر الشّعر في رواياته، بجمل صاعقة تصقلُ السّرد وتُعلي من شأنه، وكان الرحيل المفاجئ لوالده في نهاية سبعينيات القرن الماضي دافعا لدخول أرض الرواية، فكانت «اختراع العزلة» إحدى الروائع التي تستعرض العلاقات الملتبسة بين الآباء والأبناء، وتمنح للسيرة بعدها الروائي الذي يتكرّر في أكثر من عمل للكاتب، وتوالت بعد ذلك الروايات التي قدمت أمريكا بوجه غير مألوف، يناقض الصورة النمطية التي كرستها السينما، من خلال هشاشة أبطالها وقلة حيلهم في مواجهة العالم، أو مناهضة الحروب التي تشنها أمريكا على العالم، حيث نقرأ رفضا ونقدا لها في أكثر من رواية لا سيما في رواية «رجل في الظلام» التي تتحول فيها أحلام بطل إلى حقائق بما في ذلك الحروب التي يختلقها، كما لاحق أوستر العنف الأمريكي في كتابه «بلد الدم».
الكاتب المفتون بالسينما كتب وأخرج وأنتج في الفن السابع، وعاش في الأشهر الأخيرة من حياته مأساة عائلية بوفاة ابنه دانيال في محطة ميترو بجرعة زائدة من المخدرات بعد عشرة أيام من وفاة ابنته الرضيعة التي كانت تحت رعايته (حفيدة بول) مسمومة بجرعة من المخدر، لتنغلق قصص العائلة المأساوية التي بدأت بقتل الجدة للجد وانتهت بالإهمال القاتل للحفيدة من طرف الابن المنتحر.
وبين المأساتين يقف كاتبٌ، برع في رثاء حضارة العصر، ونجح في جعل الفن الروائي الرفيع جماهيريا. ق-ث