الاثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق لـ 12 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

قاعة العملات النقدية بمتحف سيرتا: جسر بين الحقب التاريخية والتطورات الاقتصادية للمدينة


تعتبر قسنطينة واحدة من بين أقدم المدن في العالم التي لها تاريخ طويل في سك العملات النقدية، منذ العهد النوميدي إلى غاية العهد العثماني، وقد عُرفت بكونها مركزا حضاريا وتجاريا هاما عبر العصور المختلفة، ويوفر لنا متحف سيرتا اليوم معلومات قيمة عن الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي مرت بها المنطقة من خلال العملات النقدية المعروضة بإحدى قاعاته، والتي تتيح للباحثين فرصة اكتشاف حقائق ومعلومات أثرية.

لينة دلول

في قاعة النقود والبرونز بمتحف سيرتا العمومي، تتوزع العملات في طاولات زجاجية مضاءة، تعرض تطور الأنظمة النقدية عبر العصور، فتجد هنا قطعًا معدنية لامعة من الذهب والفضة، وأخرى من النحاس والبرونز، تحمل نقوشا وأختاما تعكس تاريخ الحضارات المختلفة التي مرت على الجزائر وعلى شمال إفريقيا، من العملات النوميدية الرومانية القديمة إلى الدنانير الإسلامية، لتعكس كل قطعة قصة فريدة، مستمدة من ماضٍ مزدهر بالتجارة والتبادل الثقافي.
كما توضح اللوحات التفسيرية بجانب كل مجموعة التفاصيل الدقيقة لتاريخها واستخداماتها، مما يجعل الزوار يعيشون تجربة تعليمية وثقافية مميزة تتجاوز مجرد مشاهدة القطع النقدية، ويوجد كذلك بالقاعة أختام مختلفة الأحجام والأشكال التي كانت تستخدم لسك العملة، حتى الميزان الذي كان يستعمل لوزن العملة لكي يكون لها وزن موحد.
قطعة نادرة تعود لـ46 سنة قبل الميلاد

وبحسب رئيس مصلحة الاتصال بمتحف سيرتا عبد المجيد بن زراري، فإن قاعة العملات النقدية بمتحف سيرتا، تعتبر واحدة من أبرز الأقسام وأكثرها جذبا للزوار، حيث تعرض هذه القاعة مجموعة متنوعة ورائعة من العملات النقدية التي كانت تُستخدم في المعاملات الاقتصادية خلال حقب زمنية مختلفة مرت على قسنطينة وعلى شمال إفريقيا، كما تشير إلى مرور حضارات عديدة على هذه الأرض، منها النوميدية والرومانية، وهو أمر يوفر بحسبه نافدة فريدة على التاريخ الاقتصادي والثقافي، موضحا بأن المتحف يحتوي على أكبر عدد من العملات النقدية مقارنة بالمتاحف الوطنية الأخرى.
وتتمثل أهمية قاعة العملات في عدة جوانب، حيث تمكن الزوار من استكشاف تطور النظم النقدية، والتعرف على تاريخ المدينة من خلال العملات التي استخدمتها، كما توفر مادة تعليمية غنية للباحثين والطلاب الذين يدرسون علم العملات، التاريخ، الاقتصاد، وعلم الآثار، علاوة على ذلك فهي تساعد في توثيق الأحداث التاريخية والأنظمة الاقتصادية.
وأضاف المتحدث، أن القطع النقدية بالمتحف، تزيد من الوعي الثقافي للزوار وتعزز فهمهم للتاريخ والتراث المشترك بين الحضارات المختلفة، مشيرا إلى أن من أشهر وأندر القطع التي تؤرخ للمدينة هي العملة التي تعود إلى العهد النوميدي تحمل رمز بوابة المدينة، سكت في سنة 46 سنة ق.م، وهي قطعة وجدت بمدينة قسنطينة، تحمل في الوجه الأول صورة الإلهة تيشي بها كتابة بونيقية كرطن، أما الوجه الثاني للعملة فعليه صورة بوابة مدخل المدينة ذو مدخلين تعلوه زخرفة نباتية عبارة عن سعف النخيل، وهو رمز الترحاب بالداخلين للمدينة.
وأضاف بن زراري، بأن هناك عملة أخرى انتشرت بالعهد النوميدي، رسم على وجهها سنبلتان كدلالة على الازدهار الاقتصادي في ذلك الوقت، وأكد بأن معظم العملات النوميدية جسد عليها القادة النوميدون الذين حكموا المدينة النوميدية، كما جسد على وجه بعض القطع الحصان البربري كدلالة على أهمية هذا الحيوان في الحروب، إضافة إلى العملات التي يحمل وجهها صورة واضحة للملك، كُتب أسفلها «ميسينسن ملك» باللغة البونية القديمة، وفي ظهرها الفيل، مؤكدا بأن رمزية العملة تعود إلى «حرب زاما» عندما تحالف الملك ماسينيسا مع الرومان ضد القرطاجيين، وانتصر، وقد قيل بأن الفضل في الانتصار يعود لقوة الفيلة التي استغلت في الحرب.
وقال ذات المتحدث، بأن أغلب العملات التي تعود إلى العهد النوميدي، رسم عليها الحصان البربري في عدة حركات سواء كان يجري أو متوقف، حيث كان يضرب به المثل كثيرا ويسك كثيرا على النقود لأنه كان ينتصر في جميع الحروب، ناهيك عن دلالته في الشجاعة والقوة، مردفا بأن هناك عملات أخرى تسك عليها أنواع عديدة من العمارات التي كانت مبنية في العهد النوميدي. وأكد المكلف بالاتصال، بأنه ومنذ العهد النوميدي والنقود تسك بقسنطينة إلى غاية العهد العثماني أي حتى سنة 1836، وأن آخر قطعة نقدية مطبوعة بقسنطينة معروضة بقصر أحمد باي، مشيرا في ذات السياق، إلى أن جميع النقود كانت تسك باسم المدينة.
وأضاف المتحدث، أن سك العملات بقسنطينة منذ العهد النوميدي إلى غاية العهد العثماني، ما هو إلا دليل على مكانة قيرطا في القديم ومركزها المهم في سك النقود، مؤكدا بأنه لم يكن يتم استخدام العملات كوسيلة للتبادل التجاري ولكن أيضا كوسيلة لإظهار قوة الحاكم وتأكيد سيادته على المنطقة.
لكل ملك بصمة ووجه يخلد في النقود
وحسب ما لحظناه وأكده بن زراري، فإن العملات بالمتحف تُقسم وتصنف على أساس الملوك الذين تعاقبوا على مدينة قسنطينة التي كانت تعد عاصمة المملكة النوميدية، وكذا على شمال إفريقيا، فعلى سبيل المثال في فترة خلو العرش سنة 33 - 25 ق.م، كان وجه العملة رأس الإمبراطور أغسطس، أما الظهر فهو تمثال نصفي للإلهة إفريقيا مزين بجلد الفيل، وفي عهد بطليموس سنة 20-40 م، كان وجه العملة تمثال نصفي للملك بطليموس غير ملتح، أما ظهرها فهو كرسي عاجي فوقه إكليل وتحته كتابة لاتينية، وفي فترة حكم أذربعل سنة 118-112 ق.م، فسكت النقود برأس الملك ملتح ومزين بإكليل من الغار، أما الظهر، فيظهر في حصان يجري إلى اليسار فوقه رأس بعل حامون، في حين تظهر النقود في فترة غولوسا في سنة 148-140 ق.م بوجه رأس الملك ملتح ومزين بإكليل من الغار، أما ظهر الحصان فيظهر فيها حصان يجري إلى اليسار وتحته الحرفان البونيان غ.ن، وفي حكم ماسينيسا سنة 203-148 ق.م كان يسك وجه العملة برأس الملك ملتح ومزين بإكليل من الغار، أما الظهر فعليه صورة حصان يجري إلى اليسار وتحته كريه.
وحسب بن زراري، فإن العملات تتغير طريقة سكها حسب الحاكم، أما المادة المصنوعة منها، فهي تفسر مدى التطور الاقتصادي للدولة، ومكانتها الهامة في العالم، مضيفا أن الأثريين وجدوا في الأثاث الجنائزي الذي يعود إلى حضارات قديمة جرار تحتوي على نقود مصنوعة من مواد متنوعة وبأحجام مختلفة، وذلك لأن في اعتقاد الإنسان القديم بأن الشخص عندما يتوفى سيحتاج إلى المال في حياته الأخرى.
صيانة دورية للقطع النقدية
وقال المتحدث، بأن عددا كبيرا من القطع النقدية المعروضة بالمتحف، استفادت من عملية معالجة بفضل الشراكة الدولية بين الجزائر وأمريكا سنة 2003، حيث حضر للمتحف مختصون قاموا بمعاينة القطع النقدية وصيانتها كما استفاد عمال المتحف من دورة تكوينية حول كيفية صيانة القطع النقدية، مشيرا إلى أن العملات القديمة تخضع لمعايير خاصة من ناحية استعمال بعض الأدوية الكيميائية لإزالة الشوائب، ومعرفة تاريخ القطعة وطريقة توثيقها.
وخلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، يردف بن زراري، ولى علماء الآثار والمنقبون اهتماما كبيرا بالفترة الرومانية، وكأن تاريخ المدينة انطلق مع الرومان، محاولين طمس الفترة النوميدية، التي يسعى القائمون على المتحف إبرازها، مضيفا بأن الباحثين لم يسهبوا في الكتابة عن هذه الفترة، ماعدا الباحث الجزائري محمد صغير غانم الذي تحدث كثيرا عن المعثورات في الفترة النوميدية وأعطاها حقها التاريخي. خلال الفترة الرومانية بدأت العملات النقدية تتطور حيث استعملوا مادة الفضة في صناعتها، ما جعل الصور تظهر جيدا، عكس الفترة النوميدية التي كانوا تشتهر باعتماد مادة البرونز، مشيرا إلى أن مدينة قسنطينة تضاهي مدن كبرى كأثينا وإيطاليا في تاريخها وقوتها الاقتصادية، مضيفا بأنه في الفترة البيزنطية صارت النقود تصنع من الذهب، وهذا دليل على القوة الاقتصادية للدولة آنذاك.
قطع نادرة يتم تهريبها إلى أوروبا
وأشار المتحدث، إلى مشكلة تهريب العملات النقدية النادرة والقديمة، وتأثيرها على الاقتصاد والثقافة الوطنية، وقال بأن مصالح الدرك الوطني تقدم عملات نقدية كانت بحوزة المهربين، وعن سبب كثرة تهريبها عن طريق الحدود، قال بأن نقلها سهل جدا لصغر حجمها، كما أن سعرها في السوق السوداء يختلف حسب وعي المهرب بقيمتها التاريخية، مضيفا بأن كل القطع النقدية المسروقة تهرب إلى أوروبا.
تهريب العملات غالبا ما يرتبط بشبكات الجريمة المنظمة، التي تتاجر أيضا في الآثار والتحف، لذا يجب كما قال، سن قوانين ردعية لكل من يحاول تهريبها، لأن فقدان العملات التاريخية يعني فقدان جزء مهم من التراث الثقافي للأمة، مشيرا إلى أنه حتى المواطنين يحضرون لهم عددا هائلا من العملات النقدية منها قطع نادرة، يتم إعداد بطاقة تقنية لها لعرضها بالمتحف.

مرمّم التراث الثقافي بقصر الحاج أحمد باي عبد الرؤوف بن خليفات
العملات تحمل الكثير من المعلومات التاريخية
وبحسب مرمّم التراث الثقافي بقصر الحاج أحمد باي عبد الرؤوف بن خليفات ، فإن عملية التأريخ الحضاري كانت توثق على النقود، ومازلت مستمرة إلى يومنا هذا، وهو دليل على عبقرية السلطة العليا في البلاد حيث تتجلى في عدم تجميد الشخصيات بل تعطي أهمية كبيرة للمخلفات الفنية والثقافية والتراثية للبلاد، وهو عكس ما تقوم به الدول العظمى، حيث تصور الشخصيات في العملات النقدية. وقال المتحدث، بأن العملة بمختلف مواد سكها تبين لنا مدى قوة الدولة آنذاك، مشيرا بأنه في بداية التاريخ كانوا يستعملون القصدير ثم النحاس، بعد ذلك قاموا بخلطهم مع بعضهم البعض للحصول على مادة البرونز ثم استخدموا الفضة وبعد ذلك الذهب.
وأوضح المرمم، بأن كثرة الاعتماد على البرونز في سك العملات، راجع إلى مقاومتها للعوامل الطبيعية والحفاظ على الصور والرموز والشخصيات الموجودة فيها لأطول مدة، قائلا بأن العملة النقدية هي القطعة الأثرية التي تحمل الكثير من المعلومات التاريخية من عدة نواحي سياسية، دينية، ثقافية، فنية، اقتصادية، لهذا نستطيع بقطعة واحدة تغيير تاريخ، والتأريخ لبلد كامل، مردفا بأن آخر قطعة نقدية سكت بقسنطينة كانت بين 1830 و 1837، قبل سقوط قسنطينة بأيام معدودة مكتوب عليها ضرب في قسنطينة.
ل-د

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com