يمثل النحاس و الطرز التقليدي والحلي الذهبية، حرفا تقليدية ببريق الذهب، تُعرف بالموروث الثقافي المادي لقسنطينة وتصنع شهرته، هي رمز لتاريخ المدينة وشاهد على عراقتها، تشكل مجتمعة توليفة تراثية غنية و حاملا للذاكرة، و يثري تنوعها سجل الصناعات التقليدية الجزائرية، وهي حرف ازدهرت و تطورت وتعتبر رافدا من روافد السياحة كذلك.
ربورتاج: أسماء بوقرن
ولعل القاسم المشترك بين أبرز الحرف التي تشتهر بها قسنطينة، هو اللون الذهبي الذي يزين الحلي التقليدية وخيوط الفتلة والنحاس، فالحلي بطاقة هوية تعرف بسيدات قسنطينة في المناسبات، تكتمل معطياتها بارتداء أزياء مطرزة بخيوط الفتلة المذهبة، تتجلى في قندورة "القطيفة"، وهي من القطع الثمينة في تشكيلة لباس المرأة القسنطينية، يصل سعرها اليوم إلى 18 مليون سنتيم، صناعتها المتفردة مكنت من انتشارها وشهرتها خارج الحدود كما يؤكده بائع بمحلات عزي للزي القسنطيني، مشيرا إلى أن زبائنها من عديد الولايات ومن خارج التراب الوطني كذلك.
وتسعى وزارة الثقافة لإدراج القندورة إلى جانب الحلي التقليدية ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي لدى اليونيسكو، من خلال ملف بعنوان "الزي النسوي الاحتفالي للشرق الجزائري الكبير، معارف ومهارات متعلقة بخياطة وصناعة حلي التزين...القندورة والملحفة"، لحمايته من أشكال السطو، بعد أن أدرجت السنة الماضية ملف "النقش على المعادن : الذهب، الفضة والنحاس على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للإنسانية باسم الجزائر وتسعة بلدان عربية أخرى.
حرفة النحاس، هي أيضا من الحرف التقليدية التي تزدهر عاما بعد عام، وتشكل قطعة أساسية في ديكور العائلات القسنطينية، وضرورة لا بد منها في جهاز العروس، ويقول الحرفي في المجال محمد بن نية، إن النحاس حرفة متوارثة لا تموت، بالرغم من أنها عرفت نوعا من الركود في سنوات ماضية، ثم سرعان ما انتعشت مجددا بفضل زيادة الطلب على منتوجات النحاس، من مختلف ولايات الوطن وحتى من بلدان عربية وأجنبية، وقال إن الفضاء الافتراضي أعاد للحرفة مكانتها وأبرز قيمتها المعنوية بفضل الترويج الكبير لكل ما توجد به أنامل الحرفيين من إكسسوارات وأدوات للاستخدام الدائم.
لوحات تعبيرية بليغة
زخرفة أواني النحاس مثقلة بالرمزية، فكل قطعة بمثابة لوحة تعبيرية بمواضيع متنوعة، تترجمها النقوش والأشكال الهندسية المستلهمة من الطبيعة، فنجد الزخرفة الهندسية والنباتية كالوردة والريشة، كما نجد رموزا تشير للحيوانات، وهناك الخط البديع أيضا و تقول الباحثة في علم الآثار والحضارة كلثوم دحو قيطوني، بأن الزخارف تختلف باختلاف القطع النحاسية متعددة الاستعمالات إما للطبخ أو للزينة أو للاستعمال اليومي مثل "الطنجرة والكسكاس" و "الطاجين" و هناك "القطار" كذلك، وهو مخصص لتقطير الورد والزهر، أما القطار صغير الحجم فيستعمل لتقطير الأعشاب العطرية. وما يميز أواني الطهي النحاسية حسب دحو قيطوني، أنها خالية من النقوش الموجودة في أواني تقديم الطعام، مثل "السني" و"السينية" و "السكرية" و "المرش"، وقطع الديكور "كالثريات" و"المزهريات"، وحاملة الشموع "الحسكة"، و " الطاسة" و"الطفاي" والمحبس" وهي أدوات خاصة بالحمام. يلاحظ المتمعن في رمزية القطع النحاسية أنها لا تزال تحتفظ الزخرفة القديمة المتوارثة، والتي تجمع بالعموم بين النقوش القديمة للنبات و الحيوان، وبين النقوش المستلهمة من الزخرفة الإسلامية، إلى جانب وجود رموز وأشكال أمازيغية عادة ما تستعمل لتزيين أواني الفخار، وحسب الحرفي محمد، فإن إدراج مواضيع جديدة تعبر عن تراث مناطق أخرى من الوطن وتبرز الهوية العربية الإسلامية، ساعد في رواج الحرفة أكثر.
"الجاموس" و"مقياس الصم" و"الشنتوف"
لا تقل القيمة المعنوية للحلي التقليدية عن رمزية النقش على النحاس كحرفة أصيلة بقسنطينة، فصناعة الفتلة من الحرف التي تميز المدينة، ونجدها فيما يعرف بـ " مقياس الصم ومقياس الجاموس ومقياس لعجب مزين بدوائر ذهبية "اللويز" و الجوهر النافوسي".قالت سيدة التقيناها بمحل أحد الحرفيين بوسط المدينة، بأنها لا تزال تحتفظ بمقياس لعجب، وتزين به ذراعها في الأعراس، إلى جانب "لمسايس" التي يرى الحرفي عادل، أنها من قطع الشهيرة في قسنطينة، إلى جانب السخاب و الفردة و حلق الأذن "المشرف" ومنه نوعان "القصير" و "الطويل" بين 3 و 6 طوابق، إضافة إلى محزمة وقفلها المعروف محليا بـ " الفم". تتعانق خيوط الفتلة لتشكل "رشمة" برموز مختلفة، تشبه إلى حد بعيد ما تزين به الأواني النحاسية من نقوش، مع بعض الإضافات فنجد السهم والوردة والدودة وغير ذلك" و حسب الحرفي حميد صاحب محل مصوغات الشجرة الذهبية، فإن الحلي التقليدية المصنوعة بالفتلة تعد جزءا من موروث قسنطينة المادي، ذاكرا قطعا أخرى تشتهر بها المنطقة، "كالتاج والمسياس، والشنتوف والمذبح"، مردفا بأن طريقة صناعة الفتلة الخاصة بالحلي، تشبه إلى حد بعيد طريقة التطريز على قندورة القطيفة، و لا تختلف زخرفتها عن الرسومات الشائعة في الطرز التقليدي، فنجد " الوردة و الدمعة و ورق الشجر"، حسب ما يؤكده الحرفي بلال حمدان، وتوضح بشأنه الباحثة كلثوم، قائلة بأن النقوش التي تزين الحلي تتخذ هي الأخرى رموزا معظمها نباتية، كشكل الوردة و"الريشة" وذلك للإشارة إلى جمال المرأة القسنطينية.
الحفاظ على حرف قسنطينة التقليدية والعمل على ازدهارها يتجلى في قندورة القطيفة التي ذاع صيتها أكثر في السنوات الأخيرة لتصبح قطعة مهمة في تشكيلة مصممي الأزياء، تطلبها عرائس من ولايات مختلفة من الوطن، إضافة إلى مغتربات و سيدات من تونس وليبيا والخليج، لما تحمله من رمزية تراثية وقيمة تاريخية، حيث تفخر المرأة بارتدائها في المناسبات، وهي رمز للأصالة، تلبسها العروس في مراسيم الحناء، و هناك من يفضلن خياطتها وتطريزها على الطريقة التقليدية، بالرغم من استغراق ذلك وقتا طويلا.
يقول بلال معاوية، حرفي مختص في صناعتها، إن هذا الزي يخاط من القطيفة الفاخرة "الجلوة " ترسم عليها أشكال "الرشمة"، متمثلة في "اللواي" و "القناوية" و "السبولة" و " الدوح والمرش و الريش و الوردة والنجمة و المبروم و الدودة و العيون " و غالبيتها رموز نباتية مستلهمة من الطبيعة، فبعد تفصيل قماش الجلوة على مقاس الزبونة، وهي مهمة يقوم بها "الفراض"، يعمل هو على نقل الرشم على قماش القطيفة، ليأتي دور "الحراجة"، التي تقوم بعملية التطريز بخيوط الفتلة، وهي مرحلة أساسية تستغرق وقتا، مشيرا إلى أن الطرز بخيوط الفتلة كان يعتمد على خيوط الذهب للحفاظ على لمعان القطعة.
ورغم أن هذا الزي ثقيل نوعا ما و فاخر جدا في أصله، إلا أن غلاء قماش القطيفة الأصلي "الجلوة" الذي وصل إلى 70 ألف دينار للتفصيلة، رفع تكلفة خياطة القندورة القسنطينية، و دفع صناعها إلى استخدام القطيفة " السورية أو الألمانية" كما عبر، أما الفتلة الذهبية فهي جزائرية تصنع خيوطها بولاية تلمسان، و تحافظ على نفس الجودة منذ عقود، وهو ما يسمح بإطالة عمر الثوب و توريثه أيضا.
الطرز الإلكتروني.. آلية حديثة ساهمت في انعاش الحرفة
ومع أن أصل هذه الصناعية يدوي ويعتمد بالأساس على المهارة الإنسانية، إلا أن الطلب على القطعة و السعي لتسويقها بشكل أكبر، فرض الاستعانة بالتكنولوجيا لأجل ضمان الكم وتخفيض التكلفة، بالاعتماد على برمجيات رقمية تحول صور "الرشمات الورقية" إلى نسخة إلكترونية، توضع على جهاز الكومبيوتر، يتم توصيله بآلات مخصصة للطرز، تمكن من تطريز عدة قطع في ظرف قصير.
أوضحت لنا حرفية في المجال، أن الأمر يتعلق بتقليص الوقت والجهد وبما تفرضه السوق من شروط، مشيرة إلى أنها جامعية وظفت معرفتها في خدمة التراث، حيث تستغل التكنولوجيا لتقدم منتجا دقيقا ومتقنا بأقل جهد وتكلفة، و تملك ورشة على مستوى الجزائر العاصمة تسوق للقندورة القسنطينة التي تصنع هناك باستعمال آلات حديثة.
تطريز أفرشة الفتلة، من الحرف المزدهرة كذلك، حسب الحرفي كمال بن معاوية، فهناك عائلات عادت لاستخدام هذه المفروشات في صالوناتها في محاولة لإحياء تراثنا العريق و الراقي، وقال إنه استقبل طلبيات قبيل العيد لتحضير مفروشات من القطيفة و الفتلة مشيرا إلى أن تجهيزها لا يكون يدويا بل بالاعتماد على آلة الطرز الإلكتروني، لأن المنتج يكون أقل تكلفة.
ويصل سعر تشكيلة من ثلاث أغلفة بلواحقها إلى 70 ألف دينار، بالنسبة للقطع المطرزة بالآلة، و150 ألف دينار للقطع المطرزة يدويا، مضيفا بأن استخدام الفتلة دارج في تزيين قعدة العروس لإحياء مراسم الحناء، ويشمل الطلب زبونات من الولايات المجاورة.
أ ب