يشهد وسط مدينة قسنطينة خلال السنوات الأخيرة تغييرات جذرية في الملامح المميزة له، حيث فقدت الكثير من الأماكن هويتها ووظائفها الأصلية وطرأت تحولات مختلفة على طبيعة النشاطات التجارية والاقتصادية فيها. وسنسعى في هذا الروبورتاج إلى رسم صورة عن التغييرات التي طرأت على قلب المدينة، أو «البلاد» كما يسميها السكان، في أقل من عشر سنوات الأخيرة، حيث انطلقنا في ذلك من ذاكرة أفراد من سكان المدينة وبعض المترددين عليها، بالإضافة إلى الإحصائيات المنجزة من قبل السلطات العمومية حول عدد سكان مندوبية سيدي راشد ما بين سنتي 2016 و2024، حيث تمثل المدينة القديمة الجزء الهام منها، بالإضافة إلى إحصائيات أخرى حول حركية الأفراد بوسط المدينة. وقد اعتمدنا في عملنا أيضا على ما لمسناه من خلال الملاحظة وتجاذب أطراف الحديث مع مواطنين خلال تجولنا في أزقة وشوارع مختلفة.
روبورتاج: سامي حباطي
شرعنا في جولتنا من مدخل وسط المدينة عبر جسر سيدي راشد صبيحة يوم مكتظ من أيام الأسبوع، لكننا توقفنا قبل ذلك في المقهى المقابل لمحطة زعموش للنقل الحضري. ويعتبر هذا المقهى من النقاط الجديدة التي أصبحت تستقطب أعدادا كبيرة من السكان وزوار المدينة، حيث يفتح أبوابه بنظام الدوام المستمر 24/24، كما تحول إلى نقطة توقف لحافلات النقل ما بين الولايات خلال الفترة الليلية، بينما يمثل أحد إفرازات الحركية الجديدة التي انعكست على هذا الجزء من المدينة نتيجة التغييرات التي جسدتها السلطات العمومية قبل حوالي عقد من الزمن على إثر وضع محطة زعموش حيز الخدمة في 2015. وقد أخبرنا شبان أن المقهى المذكور تحول إلى مكان للقاء اليومي بالنسبة لهم، خصوصا في الساعات المسائية، فضلا عن أنه أصبح يستقطب شبانا من أحياء بعيدة، في ظل غلق المقاهي الأخرى بوسط المدينة مبكّرا.
ووجهت التغييرات الحضرية المذكورة سيولة حركية المواطنين إلى مداخل مختلفة للمدينة بشكل نسبي، حيث ذكر لنا أحد التجار بالجهة السفلى من شارع العربي بن مهيدي بأنه لاحظ في السنوات الأخيرة تراجعا نسبيا في حركية زوار المدينة القادمين لأغراض مختلفة من جهة جسر باب القنطرة بسبب تحويل موقع المحطة، ما أضفى حركية أكبر على جسري سيدي راشد وملاح سليمان، بالإضافة إلى المصعد الشهير بين المواطنين بتسمية «السونسور»، لكن محدثنا أكد لنا أن المتسوقين والمارة مازالوا يتوافدون على الجهة السفلى بحكم أن سيارات الأجرة مازالت تتوقف عند مدخل الجسر، خصوصا السيارات القادمة من بكيرة وديدوش مراد والقطب العمراني الجديد «عبد الرزاق بوحارة»، فضلا عن سكان المدينة القادمين من أحياء الجهة الشرقية من بلدية قسنطينة.
ولمسنا لدى التاجر الذي تحدثنا إليه أنه يقدّر النشاط في الشارع من خلال مداخيل نشاطه ومعدل تردد الزبائن على محله الذي يعرض فيه منتجات النظافة الشخصية ومواد التجميل، لكننا لاحظنا خلال تواجدنا لديه دخول وخروج العديد من الأشخاص للسؤال عن الأسعار أو للاستفسار عن توفر بعض المنتجات، بالإضافة إلى أشخاص كانوا يستفسرون عن قنطرة «السونسور» وكيفية الوصول إليها أو عن «قنطرة الحبال»، التي يقصدون بها جسر سيدي مسيد الواقع في الشق العلوي من المدينة عند مدخل القصبة، الذي يمثل إحدى العلامات المميزة لقسنطينة. وقد أكد التاجر أن تغير المنافذ لم يؤثر كثيرا على نشاطه بحكم أن قاصدي شارع العربي بن مهيدي يبحثون عن منتجات بعينها، على غرار المقبلات على الزواج أو السيدات اللواتي أو الباحثين عن البضائع المتعلقة بنشاط الطرز.
أفراد يتجولون في ذكرياتهم وسط مدينة متغيرة
أما بالعودة إلى مسارنا نحو وسط المدينة عبر مدخل جسر سيدي راشد، فقد وقفنا على عدة تحولات أدت إلى اختفاء أو انحسار أماكن مرجعية أصبحت راسخة في ذاكرة السكان لسنوات طويلة، حيث يظهر ذلك انطلاقا من اختفاء جزء مهم من سوق تحت القنطرة، الواقع أسفل جسر سيدي راشد، حيث أزيل من قبل السلطات المحلية شهر فيفري من العام الماضي، بعد سنوات من استكمال عملية إعادة الاعتبار للجزء العلوي من الحديقة الحضرية «باردو»، ليتم تحديد نشاط التجار المترددين عليه في جزء من المساحة الواقعة أسفل الجسر، كما لاحظنا خلال الصباح الباكر أن كثيرا من الباعة أصبحوا يتخذون من أطلال المنازل القديمة في سيدي بزار مكانا لعرض سلعهم أيضا. وذكر لنا أشخاص أنهم يواصلون التردد على سوق «تحت القنطرة» رغم التحول الذي طرأ عليه، حتى أن بعضهم أخبرونا أنهم يأتون إلى المكان للتجول فقط.
ويمثل سوق تحت القنطرة امتدادا لنشاط تجاري قديم كان يمارس بمحيط المدينة منذ قرون ماضية، حيث كان البائعون يعرضون سلعهم بمحاذاة الأسوار المحيطة بالمدينة مثلما تظهره الكثير من الصور الملتقطة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يزال جزء من السور واقفا فوق سوق تحت القنطرة، فضلا عن أن كثيرا من الكتاب تطرقوا لنشاط السوق في هذا المكان، سواء في نصوص أدبية أو غيرها، على غرار ما يرد في الجزء الأول من «مذكرات شاهد على القرن» لمالك بن نبي، الذي يقول في الصفحة 54 عن طفولته في المدينة بداية القرن العشرين: «كنت أتنزه مع رفاقي في الرامبليه، في هذا المكان الذي أقيم فيه فيما بعد، أول مدينة من أكواخ التنك في قسنطينة. كان نوعا من السوق الدائم تباع فيه الأشياء القديمة غير الصالحة للاستعمال من مفاتيح قديمة وملابس مستعملة وأشياء أخرى.» .
وروى لنا سكان من المدينة قصصا مختلفة بقيت عالقة في أذهانهم من سوق تحت القنطرة، وحتى الشبان منهم، حيث ذكر لنا أحدهم أنه توجه مرة إلى السوق من أجل اقتناء شرائط أفلام الفيديو واقتنى مجموعة منها من أحد الباعة، ليتفاجأ بشريط فيديو لحفل زفاف البائع نفسه من الثمانينيات. وأضاف محدثنا أنه عاد للسوق عدة مرات بحثا عن البائع ليعيد له الشريط، فيما أخبرنا شاب آخر أنه مرة اقتنى سروالا قديما من السوق بسبعين دينارا فقط، فيما ذكر لنا أحد المسنين أنه لم ينس تعرضه للنشل في «الرمبلي» وهو شاب صغير في السبعينيات! وقد بدا تضارب في آراء السكان حول التحول الذي طرأ على السوق منذ السنة الماضية، فبعضهم تقبل الأمر بحكم عملية التهيئة الشاملة التي استفادت منها منطقة باردو والدور الجديد الذي اتخذته كمكان للسياحة الطبيعية والتسلية، بينما اعتبر آخرون أن هذه السوق تمثل إرثا مميزا للمدينة وينبغي الحفاظ عليها مع تأهيلها وإدماجها ضمن الحظيرة.
وغير بعيد عن مدخل باب الجابية، لا تزال ذاكرة الكثير من الأشخاص تأبى نسيان سوق العصافير الذي نشأ خلال سنوات ماضية في ساحة كركري، وذلك امتدادا لسوق الرمبلي، لكن، مع إعادة تهيئة الساحة وتأهيلها، لم يعد متاحا لمربي العصافير عرض بضاعتهم، رغم أن عددا منهم يواصلون التردد على المكان مع عصافيرهم والوقوف لتبادل أطراف الحديث، مع عدم رفضهم لعروض الشراء. وأخبرنا كهل يبيع عصافير أن كثيرا ممن يتعاملون معه في بيع وشراء الطيور يقصدون المكان بحثا عنه أو عن المربين الآخرين، لذلك يجد نفسه مضطرا للمرور بها بشكل شبه يومي، عسى أن يظفر بصفقة مربحة أو يلتقي بأصدقائه ويطلع على أخبارهم وأحوالهم، مؤكدا لنا أن هذا المكان يمثل أكثر من سوق بالنسبة إليه.
شيوخ يشاهدون حاضر المدينة بعيون الماضي
وواصلنا السير من ساحة كركري إلى شارع عبان رمضان وتوقفنا بالقرب من نزل سيرتا، حيث التقينا بشيخ في السبعينيات من العمر وما يزال يطلق تسمية «بومارشي» القديمة على الشارع، فيما أخذ محدثنا يستذكر محيط نزل سيرتا قبل غلقه للترميم وإدراج تغييرات بمحيط مدخله، مؤكدا أنه كان يضم محلا لبيع الحلويات ومحلا للحلاقة، كما أشار إلى مقهى «ميلكو» الذي كان محاذيا لمقر وكالة شركة الكهرباء والغاز «سونلغاز»، وأوضح أنه كان يمثل مكانا للقاء عازفي ومغني الموسيقى القسنطينية خلال سنوات طويلة إلى غاية غلقه في السنوات الماضية وتحويل نشاط المحل.
وأضاف محدثنا أنه يتذكر التحولات المختلفة التي طرأت على المكان انطلاقا من دار الثقافة محمد العيد الخليفة إلى غاية مدخل شارع مصطفى عواطي، حيث استرجع في حديثه معنا طفولته منذ عام 1960، عندما كانت دار الثقافة تابعة لعلامة المركبات «سيتروان»، مشيرا إلى وجود محطتي وقود بمحاذاتها في تلك السنوات، كما روى لنا أنه كان يستظل بدالية عنب بمحاذاة المحطة من أجل مراجعة دروسه وإنجاز واجباته، ليتجه بعد ذلك إلى واجهة عرض سيارات «سيتروان» لمشاهدة المركبات واختيار واحدة ليشتريها عندما يكبر. وقد بدت على محدثنا علامات الحنين وهو يتذكر الوجه القديم للمدينة، قبل أن يخبرنا أنه مازال يلتقي أحيانا بواحد من آخر العمال الذين اشتغلوا مبنى «سيتروان» خلال الفترة الاستعمارية.
وذكر لنا محدثنا عدة محلات ومقاهي لأماكن قديمة لم تعد موجودة بوسط المدينة، حيث لاحظنا أن جميع هذه الأماكن مرتبطة لدى محدثنا بالأشخاص الذين كانوا يملكونها أو سكان المدينة المترددين عليها، ليضيف بالقول: «عندما كنا شبانا، لم نكن نجلس على الأرصفة وقوارع الطرقات مثلما تراه اليوم، بل كنا نلتقي في المقاهي، أو نزور محلات الأصدقاء والجيران أو مكاتبهم أو غيرها من أماكن نشاطهم لنسلم عليهم ونتحدث إليهم.» ويرى محدثنا أن سلوكيات الأفراد تغيرت اليوم، منبها بأنه لا يغادر بيته لممارسة المشي إلا خلال الساعات الليلية عندما تخف الحركة بوسط المدينة لأنه «لم يعد يحتمل مشهد المدينة والاكتظاظ فيها خلال ساعات النهار»، مثلما عبر.
جهود لإعادة المارة إلى «السوتيران»!
وتمثل الأنفاق الأرضية بوسط المدينة أو «السوتيران» نموذجا آخر عن التغييرات في المدينة، فبعد أن تحولت إلى أحد الملامح الأساسية في ذاكرة السكان منذ افتتاحها في 8 نوفمبر 1984 إلى غاية غلق الجزء العلوي منها نتيجة حريق منذ 2015، أصبحت اليوم شبه خالية من الحركة مثلما لاحظناه في جولتنا. وقد دخلنا إلى الجزء السفلي منها انطلاقا من البوابة المحاذية لمدخل نزل سيرتا، حيث وجدنا بائع الكتب القديمة ما يزال ينشط في المكان، إلى جانب بعض المحلات التي تعرض الألبسة النسائية القديمة، في حين لم يكن في المكان إلا عدد قليل جدا من الأشخاص الذين قصدوا هذه المحلات. أما بمجرد مواصلة السير والانعطاف، فإن الأنفاق تصبح خالية تماما من الحركة، باستثناء بائع وحيد للديكورات المنزلية وبعض المحلات المفتوحة دون نشاط، مع ملاحظتنا لآثار رمي القمامة.
ووصف تاجر من أصحاب المحلات التحول الذي طرأ على الأنفاق الأرضية بوسط المدينة بعبارة «وكأنك في حلم»، مشيرا إلى أن «الذي لم يشاهد كيف كانت عليه في الماضي، لا يمكن أن يصدق اليوم أن هذا المكان كان سوقا مزدحمة لدرجة أن السكان كانوا يضربون به المثل في الاكتظاظ». ويلاحظ الوضع نفسه على الجزء العلوي من الأنفاق الذي خضع لعملية ترميم شاملة؛ تم فيها استحداث نظام آلي لإخماد الحرائق ووضع كاميرات للمراقبة وتغيير البلاطات وغيرها، ليعاد افتتاحه السنة الماضية، لكن ذلك لم يجد نفعا إلى غاية اليوم في إعادة حركة المواطنين إليها، ما دفع بمصالح البلدية إلى البحث عن حلول لهذه الإشكالية بالتنسيق مع ممثلي عدة قطاعات، على غرار ممثلي الحرفيين والمجتمع المدني.
«تنبؤات عمرانية» ترسم المدينة في أذهان سكانها القدامى
وتتردد على ألسنة الأجيال الجديدة نسبيا من سكان المدينة تسميات لأماكن ومعالم مميزة للمدينة رغم أنهم لم يشهدوها بسبب إزالتها أو تغيير وظيفتها، على غرار «الكازينو البلدي» الذي يذكره بعض السكان ويذكرون موقعه في الجهة السفلى من ساحة أحمد باي، حيث أخبرنا شيخ يبلغ من العمر 86 سنة أنه يتذكر مشاركته مع فرقة لعزف الموسيقى الشرقية في إحياء حفل نظم في الكازينو خلال السنوات الأولى للاستقلال، كما أوضح لنا أن قاصدي المدينة من أهلها أو من زوارها كانوا يعرفونه. ويرتبط هدم الكازينو وتغير بعض الملامح العمرانية في المدينة بـ»تنبؤات» شخصية الشيخ الطاهر المعروفة في المدينة، حيث يعتقد السكان أنها تحققت، وهو ما تجسد فيما أخبرنا به الشيخ من أن الشيخ الطاهر كان يسير في المدينة بحماره فينظر إلى الكازينو ويقول «ليوم راك فرجة وغدوة راك مرجة»، ثم عقب محدثنا بالقول: «وبالفعل، فقد تحقق ذلك وتحول الكازينو إلى ساحة»!
وأخذ محدثنا الذي قضى حياته المهنية يعمل كبائع في أروقة «الغلوب» بشارع ديدوش مراد، التي أغلقت منذ أكثر من عقدين ومازالت بناية مهجورة إلى اليوم، ثم تنقل إلى المحلات المعروفة باسم «بيرون»، يسرد لنا «تنبؤات عمرانية» أخرى جاءت على لسان الشيخ الطاهر ويقول إن بعضها لم يتحقق بعد، لكنه قد يتحقق في جيلنا أو لدى الأجيال القادمة و»ستزول بعض الأماكن»، بحسبه، بينما ما يزال محدثنا يحتفظ في ذاكرته بقصص للمحلات التي كانت موجودة في زمن مضى وأصحابها الذين كانوا ينشطون بها، قبل أن يضيف بحسرة أن «المدينة التي كان يعرفها في طفولته وشبابه لم تعد موجودة بالنسبة إليه»، فقد اعتبر أن الأماكن القديمة التي كان يتردد عليها قد فقدت وقعها في نفسه اليوم حتى وإن لم تطرأ عليها تغييرات، وذلك نتيجة رحيل من كان يعرفهم ويعرفونه.
ولاحظنا من حديث هذا الشيخ أنه ما يزال يردد عبارات تمثيلية من جغرافيا المدينة القديمة، حيث كان يضرب لنا المثال عن بعد المسافات الذي يستشعره في المدن الجديدة بالقول «وكأنك قادم من رحبة الصوف»، فيما أوضح لنا عندما سألناه عن سبب استعماله لهذه العبارة، بأنه كان يقطن في ساحة سي الحواس «لابلاص» بوسط المدينة، لذلك كان والده يكرر عليه هذه العبارة كلما استغرق وقتا أطول من المعتاد في الخروج والعودة إلى البيت لاقتناء بعض المستلزمات، كما أكد لنا أنه يرددها اليوم على مسامع أحفاده وأبنائه فيفهمون ما يقصده دون أن يستوعبوا خلفيتها.
تسميات محـلات قديمة ترحل مع أصحابها إلى تجمعات جديدة
استأنفنا جولتنا عبر ممرات بن بولعيد التي مازالت تحافظ على تسمية «باب الوادي» بين السكان، حيث تعود إلى زمن وجود باب للمدينة بالموقع المحيط لما يعرف اليوم بالقباضة المركزية للبريد قبل الاستعمار الفرنسي، حيث استوقفنا مكان وجود مقهى «البوسفور» في وقت سابق، الذي تحول اليوم إلى محل لبيع الملابس الرجالية، بينما لفت كثير من سكان المدينة إلى أنهم مازالوا يتذكرون هذا المقهى الذي كانت تنشر فيه النتائج الرياضية ويجلس فيه مؤدو المالوف الذين يحيون حفلات الزفاف، معتبرين أنه كان من المعالم الراسخة في ذاكرة المدينة. وقد وجدنا أن المقهى اختفى منذ أكثر من 12 سنة، لكن تسميته انتقلت إلى مقهى مكتظ آخر بالقرب من محور الدوران الفاصل بين سيدي مبروك والدقسي، وهو الأمر نفسه مع تسمية مقهى النجمة الفني بشارع العربي بن مهيدي الذي أغلق خلال السنوات الماضية، رغم أنه يعتبر من أقدم المقاهي في المدينة، لكن تسميته انتقلت إلى المقاطعة الإدارية علي منجلي بالوحدة الجوارية 4.
وعرفت السنوات الماضية عدة مطالب للعمل على إعادة فتح مقهى النجمة، الذي كان يمثل لعقود طويلة مكانا للقاء لعازفي الموسيقى القسنطينية بالدرجة الأولى، فيما ذكر لنا أصحاب محلات أغلقت بوسط المدينة أن السبب الرئيسي لاختفاء العديد من هذه الأماكن يعود إلى وفاة أصحابها واقتسامها من قبل الورثة. ويلاحظ أن شارع ديدوش مراد وحده كان يضم 3 مقاهي قديمة أغلقت جميعا، على رأسها مقهى الأندلس الذي كان يستقطب سكان المدينة وزوارها نتيجة وقوعه في محور حيوي أسفل فندق باريس، الذي يعتبر أيضا من أقدم البنايات في المكان، بالإضافة إلى مقهى «نوفلتي»، حيث أخبرنا ساكن قديم بالشارع أنه كان يتردد عليها كل صباح، فضلا عن أحد المقاهي القديمة بساحة سي الحواس، التي أغلقت أيضا خلال السنوات الماضية.
وتداول سكان المدينة خلال الأيام الماضية أيضا صورة للافتة تعرض واحدا من أقدم المقاهي بشارع بلوزداد في قسنطينة للبيع، حيث عبروا عن حسرتهم لارتباطهم بذكريات مختلفة في هذا المكان، بينما دعا مواطنون إلى ضرورة العمل على المحافظة عليه، فيما التقينا بشيخ سبعيني في أحد المقاهي الشهيرة بشارع الكدية، فأخبرنا بأنه مقيم في شلغوم العيد بولاية ميلة، لكنه قضى طفولته وشبابه في قسنطينة، لذلك فإنه لا يفوت فرصة لارتشاف فنجان قهوة في هذا المقهى كلما زار المدينة، خصوصا أنه يذكره بسنوات دراسته في ثانوية يوغرطة، فضلا عن أنه فرصة بالنسبة إليه للقاء أصدقائه القدامى.
من جهة أخرى، تمثل بناية متحف السينما الموجودة بشارع 19 جوان الملاصق لشارع ديدوش مراد، التي كانت معروفة قديما بتسمية «سينما النصر»، معلما بعث إلى الوجود بعد سنوات طويلة من الغلق، حيث أعيد افتتاحه في سنة 2022، لكنه رغم ذلك، لا يعرف إلا إقبالا ضعيفا على مشاهدة الأفلام، فقد فتحت دار السينما أبوابها في قلب تحولات جذرية لعادات المشاهدة في ظل التطور الرقمي وتوفر الوسائل التكنولوجية وتطبيقات عرض الأفلام.
«أردت زيارة منزل جدي فلم أجد الباب»
ودلفنا من شارع 19 جوان إلى رحبة الصوف عبر زنقة مقايص، التي مازالت تحافظ على النشاطات القديمة لمحلات بيع الحلي الذهبية والمجوهرات، مع تحولات كبيرة في طبيعة النشاطات والأفراد بمحيطها، حيث لم نجد موقع مقهى قديم يعود تاريخ فتحه إلى بدايات القرن العشرين إلا بصعوبة، بعد تحويل جداره الخارجي إلى مكان لعرض سلع الباعة، بينما بالكاد تعرفنا على موقع «قهوة الجزوة» المحاذية لها، فضلا عن تفاجئنا من أن بعض المراهقين الذين سألناهم عن موقعها، لم يسمعوا عنها من قبل رغم أنهم يقطنون بالمدينة القديمة. وذكر لنا أحد كهل أنه زار رحبة الصوف ذات يوم بحثا عن منزل جده القديم، لكنه لم يجد بابه؛ حيث اعتقد في البداية أنه أخطأ الشارع ليكتشف أنه تحول إلى بازار ومحلات.
أما التجار في الحي، فقد لمسنا في حديثهم أنهم يرون بأن التغييرات عادية وتتكيف مع الزمن وتغير اختيارات الزبائن، حيث تمثل رحبة الصوف والأزقة المتفرعة منها مقصدا للسيدات الراغبات باقتناء سلع محددة، على غرار منتجات الطرز والقماش وبعض أنواع الملابس والحلي، بينما أكدوا لنا أن نشاطات أخرى أصبحت تنقرض الواحدة تلو الأخرى من المدينة القديمة، مثل تصليح الساعات القديمة ونشاط محلات القصابة في الجزارين، لكن محدثينا بدوا متفائلين بعودة تدفق الحركية إلى المكان بعد إعادة تشغيل المصاعد الهوائية. وقد تزامن تواجدنا في محل لبيع الديكورات القديمة مع قدوم شخص يبحث عن معالج تقليدي لعرق النسا، حيث أخبرنا صاحب المحل أنه ورث هذه الطريقة في العلاج عن والده.
ورغم بعض التفاؤل الذي أبداه من تحدثنا إليهم ، إلا أن أغلب سكان المدينة القديمة والتجار الذين تحدثنا إليهم يشتكون من فقدان المكان لمعالمه ومكانته كمركز استقطاب حضري، حيث يتجسد ذلك بحسبهم في تراجع كثافة النشاط التجاري وتناقص عدد السكان بعد عمليات الترحيل المتعددة التي استفادت منها العائلات، فيما تتوافق الأرقام الرسمية لعدد السكان مع ما يرددونه، فقد تراجع عدد سكان مندوبية سيدي راشد المتربعة على مساحة 5.5 كيلومترا بنسبة تقارب 72 بالمئة، حيث كان عدد سكانها في 2016 يتجاوز 54 ألف نسمة ليتراجع في إحصائيات 2023 إلى أكثر من 15 ألف نسمة، وهو ما جعل من كثير من التجار ينقلون نشاطهم إلى المقاطعة الإدارية علي منجلي أو الأقطاب الحضرية الجديدة.
واطلعنا على دراسة جامعية منشورة في مجلة «دراسات» في عام 2021 حول «التواصلية المستديمة والاستقطاب بوسط مدينة قسنطينة»، حيث أنجزت من قبل باحثين بقسم تسيير المشاريع لكلية الهندسة والتعمير بجامعة صالح بوبنيدر، فيما تضم مخرجات استقصاء أنجز في 2016 حول الأماكن الأكثر زيارة في المدينة. وتأتي الإدارات العمومية في المرتبة الأولى بنسبة 72 بالمئة، تليها الأسواق الشعبية والمحلات بنسبة 45 بالمئة، بينما تمثل المقاهي والمطاعم نسبة 44 بالمئة، كما تشغل المساجد والمواقع السياحة نسبا تتراوح بين 31 و34 بالمئة، بالإضافة إلى الجسور والحدائق العمومية التي تمثل نسبة 28 بالمئة.
وينعكس ربط هذه الأرقام حول تردد المواطنين على وسط المدينة مع التراجع في عدد سكانها في اختفاء الحركية من المكان في فترة قصيرة من الأوقات المسائية، فبمجرد نهاية ساعات الدوام تتراجع حركة المواطنين بشكل كبير في غضون حوالي ساعتين، حيث لاحظنا قلة وسائل النقل ما بين الرابعة والسادسة مساء في محطة سيارات الأجرة بشارع زعبان، لكنها سرعان ما تصبح متوفرة بعد السادسة مساء، إلا أن هذا الأمر لا ينطبق نسبيا على المحطة الخاصة بخط المقاطعة الإدارية علي منجلي بسبب المسافة الطويلة، كما أن المدينة القديمة تصبح شبه خاوية من الحركة في الفترة المسائية بداية من وقت صلاة العصر.
س.ح