حجزت منطقة العليق، ببلدية ولتام جنوب ولاية المسيلة خلال السنوات الأخيرة، مكانا لها في قائمة المواقع السياحية التي تزخر بها المنطقة، بعدما تحولت إلى وجهة بارزة يقصدها الزوار الذين يأتونها من داخل المسيلة ومن خارجها، وحتى الأجانب ضمن وفود سياحية تستهويها رؤية مياه منبع عين طكوكة ونظام سقي البساتين وما تبقى من مباني القصر القديم المهدد بالاندثار.
روبورتاج: فارس قريشي
منطقة تحفظها ذاكرة السينما الجزائرية
تعرف غالبية الجزائريين منطقة العليق، بل و تحفظ تفاصيلها وشكل مبانيها، ويمكن لجولة في خرائط الذاكرة أن تأخذك إلى أبعد شوارعها، ذلك لأن المنطقة شكلت أستوديو مفتوح لتصوير فيلم "كرنفال في دشرة" الشهير للفنان عثمان عريوات.
مع ذلك ظل النسيان يطمر جمال المنطقة لعقود من الزمن ويحجبها عن الأنظار، قبل أن يجتهد شباب مثقف بمعية المجلس البلدي السابق، في إعادة بعث المنطقة سياحيا لتتجسد الفكرة فعليا، ويتحول الحلم إلى حقيقة بانتعاش الحركية على مستوى البلدية، التي تقطف اليوم الثمار بعدما صارت مقصدا سياحيا بامتياز.
وقد تم لأجل هذا المسعى رصد مبلغ مالي في إطار المخطط البلدي للتنمية ، و جرى العمل على تأهيل المحيط المجاور لمنبع طكوكة والقصر القديم للعلي، وشملت الأشغال الترميم المنبع من الداخل والخارج، مع إنجاز الإنارة العمومية بالطاقة الشمسية المتجددة لكامل الحي وتهيئة الشوارع بالحجارة الطبيعية، وإنجاز مداخل للقصر القديم اعتمادا على مسارات كانت متواجدة منذ القدم، فضلا هن إنجاز جداريات ونافورة، وإبراز معلم نظام السقي القديم.
عشرة قرون من الوجود
تم كذلك تركيب لافتات إرشادية بالعربية وبلغة أجنبية قصد تسهيل معرفة جوانب من تاريخ المنطقة، التي تعود النواة الأولى لتأسيسها إلى 10 قرون. كما تم ترميم المسجد العتيق الأول، وتؤكد بعض المصادر التاريخية أن تأسيس قرية العليق يعود إلى رجل قديم من الشرق، كان مطاردا من طرف البدارنة السليميين الذين حلوا حينها بجنوب الحضنة، بعد الحملة الثانية للهلاليين بدايات القرن السادس الهجري العام 11 ميلادي.
والعليق، شجرة معروفة في المنطقة، التي تمتاز بموقعها الخلاب، فهي محاطة بسلسلة من الجبال متوسطة الطول تنبت فيها أشجار العرعار والإكليل والحلفاء والجرتيل، وتمثل الواجهة الشمالية لغابة جبل أمساعد الساحرة المصنفة كأكبر غابة في ولاية المسيلة.
تحيط البساتين بالمكان منذ القدم، وقد عرف أهله العمران والتوطين مثل أهالي بوسعادة و الهامل المجاورتين، و لا يمكن أن تزور منطقة العليق ببلدية ولتام، دون أن يستوقفك منبع عين طكوكة ونظام سقي بساتين الفلاحين والوقوف عن قرب على آلية ذكية تقسم مياه العين على البساتين المحاذية للقصر وفق شبكة مدروسة يصعب استيعابها.
نظام الري القديم.. نبذة عن عبقرية المؤسسين
لا يزال البعض يتساءل في كل مرة عن طبيعة هذا النظام التقليدي الذي للسقي، وكيف ومتى بدأ العمل به، و هو في الحقيقة عبارة عن ساعة شمسية ذات متغيرين الشمس وظل الخشبة المنعكس عنها، وثابتين وهما الخشبة والحفر التي يمسحها هذا الظل.
ويتبع هذا النظام على مدار السنة دورة من 08 أيام بمعدل 24 ساعة كل يوم، لكل يوم اسم خاص أي يقوم النظام على ثمانية أسماء مرتبة، وقد قسم الأوائل الحصص على نحو التالي: أولا النوبة، و يبدأ توقيتها من الغروب إلى الفجر، ثم العصر، و قد يغطي أربع ساعات صيفا ويتناقص في الشتاء وهنالك العصران ونصف العصر، والثلث والربع والسدس وذلك بالنسبة للبساتين التي تقع في الشرق، أي القبلة والغرب "الظهرة ".
أما البساتين الواقعة في الوسط و المحاذية للوادي، فلها قيمة مضافة، ولذلك تمنح إلى جانب جزء من مياه طكوكة، نسبة من الماء المتدفق من ينابيع الوادي المعروف عند سكان المنطقة بـ " النز الظهراوي
هناك أيضا " الجز "، وهو ما تبقى من ماء الوادي عند غروب الشمس، سواء كان النابع من عين طكوكة أو الينابيع القريبة، وتعتبر الساقية في هذه العملية المصدر الأول لتزويد المنطقة بالمياه والبساتين أو الأحواض.
توظيف التاريخ والجغرافيا لخدمة السياحة
وقد سعى من قاموا على بعث السياحة الداخلية في منطقة العليق، بالتعاون مع المجلس الشعبي البلدي السابق، برئاسة المهندس ياسين رقيعة، إلى استخدام القيمة التاريخية للنسيج العمراني لأغراض ثقافية وسياحية، بهدف ربط المجتمع المحلي ببيئته الأصلية، وتعريف العالم بالخصوصية الثقافية للمنطقة وسكانها من خلال إنجاز دراسات علمية وتقديمها في شكل مشاريع لتجسيدها ميدانيا.
كما برزت بعض المشاريع الفردية في إطار الاستثمار الخاص على غرار دار الضياف بمنطقة العليق، وهي إطلالة جديدة أخذت في الامتداد في منطقة بوسعادة، تستضيف المجموعات السياحية والعائلات للسفر بهم إلى الماضي الجميل حيث يمتاز المنزل بخدمات متنوعة و استقبال مميز. ويقول المهندس المعماري ياسين رقيعة، الذي كان له الفضل في بعث المنطقة سياحيا حين كان رئيسا لبلدية ولتام، إن مشروعه تضمن في مرحلته الثانية بعد ترميم منبع عين طكوكة، وتهيئة الشوارع بالحجارة الطبيعية وإنجاز لافتات إرشادية، ترميم سكنات القصر القديم قصد الحفاظ على الموروث المادي والتاريخي الذي يمتاز به قصر العليق بعد أن بات مهددا بالاندثار بسبب مختلف العوامل الطبيعية.
مشروع لترميم القصر القديم
موضحا، أنه يمكن إحياء القصر القديم من خلال تخصيص مشروع لإعادة التأهيل، بما يضمن لاحقا موارد مالية للبلدية ولسكان المنطقة بفضل السياحة، ناهيك عن الحفاظ على التراث المادي والتاريخي للبنايات، حيث تم حسبه، إجراء إحصاء شامل لجميع سكنات القصر وتحديد الحالة الفيزيائية لكل منزل وهنا وجب كما قال، التنويه بإحصاء 48 بناية معنية بإعادة التأهيل، إلا أن المشروع توقف بسبب بعض المشاكل المرتبطة بالميراث.
ويتأسف محدثنا، لتعطل المشروع رغم قيام البلدية سنة 2018، بدراسات كافية وتحضير دفاتر شروط ومخططات تقنية خاصة بأشغال الترميم تتماشى والخصوصية التاريخية والعمارة الإسلامية للقصر.
مضيفا، أن مبلغا رصد من ميزانية البلدية حينها، للتهيئة الخارجية باستعمال مواد البناء المحلية والتقليدية إلا أن المشروع وئد بسبب العدد الكبير للورثة، الأمر الذي يترك البنايات القديمة للقصر عرضة للتدخلات غير المتخصصة ما يزيد من تدهور وضعها، ويهدد بضياع شواهد على ثقافة وحضارة الأمم السابقة.
ومن هذا المنطلق سلط المهندس ياسين رقيعة، الضوء على بعض العمليات العمرانية التي من شأنها إعادة الاعتبار لمناطق يمكن الحفاظ عليها والاستفادة منها باستعمال أنجع السبل، كون الحفاظ عليها مهم جدا لإظهار عراقة أي شعب وموقعه التراثي بين الأمم، خصوصا وأن هذه المناطق تعتبر جزءا من الثروة الوطنية من الناحية الاقتصادية ولاسيما في المجال السياحي.
خصوصية ثقافية وعمرانية
وأوضحت عينات دراسة أجريت على أرضية المساكن في القصر كما قال، أنها غير منتظمة الشكل، لذا كان الحوش أي الفناء منتظم الشكل يصمم في وسط أو أحد جوانب الأرضية حسبه، وعلى أساسه يتم تصميم بقية الفراغات التي يمكن على أساسها زيادة كفاءة التصميم كالتوجيه الصحيح للفراغات تبعا لزوايا سقوط الشمس والرياح السائدة والاستغلال الأمثل لإمكانيات المواقع الجغرافية والطبوغرافية.
وتعتبر الواجهات العمرانية انعكاسا حقيقيا للتخطيط العمراني في القصر، كما أوضح، حيث جاءت في شكل فتحات عالية وضيقة لا تتجاوز نسبة الخارجية منها 12 بالمائة من المساحة الكلية للواجهات، وهذا لانفتاح المساكن على الداخل حيث تأتي منسجمة إلى حد بعيد مع قياس الإنسان وتبدو الفتحات مرتفعة لمنع الرؤية نحو الداخل، و تكون الأبواب منخفضة وهذا من أجل ضمان حرمة المسكن.
ولا تفتح الأبواب مقابلة لبعضها البعض مراعاة لحرمة الجار حسبه، أما الواجهات المطلة على الطريق الرئيسي فهي واجهات تجارية، كما يشتمل بعضها على دعامات تلعب دور الأعمدة.
وتستعمل في معظم البنايات التقليدية مواد بناء ذات مصدر محلي، تكون متوفرة في المنطقة نظرا لطبيعتها وموقعها الجغرافي، وهي مواد بناء مشتقة من نفس التربة وتحفظ الحرارة، كما أن ألوانها تمتص أشعة الشمس ولا تعكسها بشدة.
ومواد البناء المستخدمة في القصر كانت كما أوضح المهندس، دائما نابعة من البيئة وذات ديمومة عالية كالطين و الحجر والأخشاب وسعف النخيل، الذي يمكن أن يعمر مئات السنين بدليل بقائه لعدة قرون رغم أنه لم يجدد، فضلا عن الخواص الحرارية والفيزيائية لمواد البناء التي ساعدت على أن تكون جدران المبنى صديقة للإنسان والبيئة الخارجية. محدثنا، أوضح أن 28 سكنا تضررت كليا، مقابل صمود 12 سكنا، لا تزال قابلة للترميم، مع ذلك فإن صعوبة الاتصال بأصحابها من أجل إنجاز توكيل لأحد الورثة ليتسنى للإدارة التعامل معه مباشرة، أثرت على مجريات المشروع.
وبقيت التدخلات مقتصرة على المحيط الخارجي من خلال إنجاز الأبواب الثلاثة القديمة للقصر،وهي باب الأغواط، وباب بسكرة، وباب بوسعادة، مع إنجاز سور خارجي بارتفاع ثلاثة أمتار، من أجل إبراز القصر وتهيئة ساحة حمايد الكرة، التي تعتبر من المنافذ الرئيسية للحي.