غبار الصّحراء الجزائرية يصل إلى غاية الأمازون والقطب الشمالي
يؤكد الباحث العمري نعيجة من مخبر التلوث ومعالجة المياه التابع لجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة أن الجزائر آخر دولة في العالم ما زالت تستعمل البنزين الذي يحتوي على الرصاص رغم أنه من المواد الملوثة والمسببة للسرطان، حيث تحدث عن غياب إستراتيجية وعدم وجود وعي بالمخاطر الصحية المترتبة عن انبعاث الغازات المحترقة من السيارات والمنازل، موضحا أن الجزائر ليست في منأى عن مشكلة التلوث رغم أنها ليست من الدول المصنعة، فضلا عن المخاطر الطبيعية التي تواجهها بسبب موقعها الجغرافي.
حــاوره: سامي حباطي
النصر حاورت الأستاذ العمري نعيجة على هامش الملتقى الدولي المنظم من طرف مخبر البيولوجيا والبيئة بجامعة الإخوة منتوري، حول “البيئة وعلم السّموم”.
نسبة التلوث في الجزائر عالية أيضا
_ النصر:علام يقوم بحثكم الأخير الذي تجرونه في مخبر التلوث ومعالجة المياه؟
الأستاذ نعيجة: البحث الذي أقوم به يُركز على التلوث الجوي، ونحن نهتم بالخصوص بمصادر انبعاث الغازات الناجمة عن حركة المركبات. والبحث الأخير يتمحور حول توزيع مصادر الانبعاثات الجزيئية، وقد وضعنا لذلك جهاز رصد فوق بناية كلية علوم الأرض بنقطة الدوران بزواغي على الطريق الوطني رقم 79، لنكون على مقربة من مركز التلوث، لأن ذلك الموقع يعرف حركية كثيفة للسيارات، حيث جمعنا 120 عينة على مدى عام كامل، وسنقوم بتحليلها، لأنها تسمح لنا بمعرفة مساهمة مصادر الانبعاث، لنكشف المصدر الأهم بينها.
_ النصر: وما هي المعادن الثقيلة التي ترون بأنها الأكثـر حضورا في هذه الانبعاثات؟
_الأستاذ نعيجة: المعادن التي نجدها بكثرة هي التي تسبب الإصابة بأمراض السرطان وهي مضرة جدا بصحة الإنسان بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى المحيط على غرار النبات والحيوانات الأخرى. وهذا الجانب هو ما يعطي الأهمية لأبحاثنا حول التلوث البيئي الناجم عن الهواء، لكن للأسف لا يوجد اهتمام أو وعي بهذه المخاطر.
حظيرة السيارات الكبيرة هي مصدر التلوث في قسنطينة
_النصر: وهل هناك إستراتيجية متخذة من طرف السلطات العمومية للحد من هذا النوع من التلوث؟
_الأستاذ نعيجة: لا توجد حاليا إجراءات متخذة من السلطات العمومية لمواجهة المشكلة، بسبب عدم الإلمام بمضار هذا التلوث أو نتيجة استصغار الأمر، رغم أن الأبحاث في البلدان المتقدّمة أثبتت أن تلوث الهواء قد يؤدي إلى الإصابة بالعديد من الأمراض القلبية والسرطانات وغيرها من المشاكل الصحية.
_النصر: وهل ترون أن نسبة التلوث في الجزائر تضاهي ما هو موجود في البلدان المتقدمة؟
_الأستاذ نعيجة: يعتقد كثيرون أن نسبة التلوث في الجزائر منخفضة مقارنة بما هو في البلدان المتقدمة مثل أوروبا، لكنهم على خطأ، فهي عالية في بلادنا أيضا. وقد كشف تقرير من البنك الدولي أعد مؤخرا أن الجزائر هي البلد الوحيد الذي ما زال يعتمد على البنزين الذي يحتوي على الرصاص، بالإضافة إلى الكبريت ومعادن أخرى.
_ النصر: وكيف تكون نسبة التلوث مرتفعة في الجزائر رغم أنها ليست من البلدان المصنعة؟
_الأستاذ نعيجة: هذه هي المغالطة التي لا يجب الوقوع فيها، فإذا تحدثنا عن الصين مثلا، سنجد أنها من البلدان الصناعية الأولى في العالم وتحتل نفس المراتب في التلويث، لذلك فهي معنية بالدرجة الأولى بالقضية البيئية، لكن هناك بلدان من العالم الثالث مثل الهند، تساهمُ في التلويث دون أن تكون لها الإستراتيجيات والوسائل لخفض نسبة التلوث التي تتسبب بها. وإذا قارنّا هذين البلدين مع الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول الأوروبية، سنجد أن الأخيرة تعتمد على قوانين تنظيمية تفرضها على المصنعين ومسببي التلوث ما يجعلها تخفف من حدة المشكلة.
لا يوجد في الجزائر جردٌ لحجم انبعاث الغازات المحترقة
أما في الجزائر فإن هذه المسألة غير مطروحة بتاتا للأسف، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن الرقابة التقنية المفروضة على السيارات لا تأخذ بعين الاعتبار مدة صلاحية المحرك فيما يخص التلوث، في حين يتم منع السيارة من العمل في بلدان أخرى استنادا إلى هذا المعيار.
_ النصر: وبكم يقدر المختصون مدة صلاحية محرك المركبة للسير ؟
_الأستاذ نعيجة: مدة الصلاحية تحدد بحسب نوعية المحرك ونوعية الوقود الذي يستعمله، فانبعاث الغازات المحترقة يختلف بين البنزين والمازوت، وهذه النقاط لا تؤخذ بعين الاعتبار بتاتا، فالرصاص يضاف إلى البنزين من أجل امتصاص الفرقعة، لكن هذه التقنية استبدلت بمُركّبات عضوية قابلة للاحتراق وتتحول بعد ذلك إلى ثاني أكسيد الكربون زائد ماء، بينما يُنتج البنزين المزود بالرصاص جزيئات الرصاص بعد الاحتراق وهو يعتبر من المعادن الثقيلة المسرطنة.
_ النصر: وهل يمكننا اعتبار قسنطينة ولاية ملوثة ؟
_الأستاذ نعيجة: قسنطينة ليست مدينة صناعية مقارنة بولايات أخرى، لكن حظيرة السيارات فيها كبيرة جدا على المستوى الوطني بعد الجزائر العاصمة.
تلوث الهواء بالرصاص يؤثر على الجهاز العصبي والغدد
_ النصر: وبكم تقدرون حجم حظيرة السيارات في قسنطينة ؟
_الأستاذ نعيجة: لا يمكننا أن نعلم عدد المركبات، لأننا في الحقيقة لا نستطيع الاعتماد على أرقام الديوان الوطني للإحصاء، فهم يقومون بذلك بطريقة رقمية بسيطة تحصي عدد البطاقات الرمادية لكنها لا تمثل حجم الحظيرة السائرة في الواقع، لا يمكن استعمالها في دراسات علمية. ولحد الآن لم تجر الجزائر جردا للانبعاث، وللقيام بهذا الأمر يجب جمع قائمة حظيرة السيارات في قسنطينة مثلا، ثم تحديد كمية ونوعية الغازات المنبعثة من كل مركبة وما تضمه من جزيئات المعادن، بالإضافة إلى كميات الغازات المنبعثة من المصانع والمساكن وغيرها، ليصبح لدينا في النهاية جرد دقيق بحجم الانبعاث والتلوث.
أما في أوروبا فيجري إحصاء المركبات وحجمها والمحرك ونوعيته ونسبة الانبعاث الناجم عنها، ففي فرنسا مثلا يقومون برفع قيمة الضريبة المفروضة على صاحب السيارة بحسب عُمر المحرك، كما يرفعونها عندما يتعلق الأمر باستخدام المازوت، الذي سيتم استبداله نهائيا في ألمانيا في غضون سنوات قليلة مقبلة، ولذلك يميل المواطن الفرنسي إلى اقتناء سيارة جديدة دائما وإن كان سعرها أكبر.
الغاز المستخدم في السيارات والمنازل لا يقل تلويثا عن أنواع الوقود الأخرى
وتجب الإشارة إلى أن الضرائب المفروضة على المحركات القديمة والمازوت من أسباب الحراك الاجتماعي المسمى بالسترات الصفراء، ففرنسا اعتمدت إستراتيجية لدفع المواطنين إلى استعمال وقود مختلف، كما يتم تشجيع السيارات الكهربائية. وقد كشفت تقارير جديدة أن الصين ستحتل الريادة في مجال السيارات الكهربائية الصديقة للبيئة خلال عقدين من الزّمن.
_ النصر: بعد ارتفاع أسعار البنزين والمازوت في الجزائر، لاحظنا إقبالا كبيرا على استعمال الغاز في السيارات، هل ترون أن الانبعاث الناجم عن استعمال الغاز أقل تلويثا من أنواع الوقود الأخرى؟
_الأستاذ نعيجة: هذا الأمر لا يختلف كثيرا، فالغاز من الطاقات الأحفورية. وحتى الغاز الطبيعي المستعمل للطهي والتدفئة في المنازل، غني بالمعادن الثقيلة الملوثة، فقد أجرى مخبر التلوث ومعالجة المياه العام الماضي دراسةً على مستوى منقطة وادي الحجر بديدوش مراد المعروفة بقلة حركة السيارات بشكل كبير، لكن النتائج أظهرت نسبة مرتفعة من الرصاص، ما يعني أن المصدر الوحيد سيكون من المدافيء، خصوصا وأن الدراسة أنجزت خلال فصل الشتاء. ولمعدن الرصاص المتصاعد مع الغازات المحترقة تأثيرات خطيرة على الصحة الإنسانية، فقد يؤدي إلى الإصابة بأمراض الحساسية والسرطانات، فضلا عن تأثيره على الغدد والجهاز العصبي.
الرقابة التقنية في الجزائر لا تشمل عمر المحرك وعامل التلوث
_ النصر: وهل لمستم تجاوبا من السلطات العمومية مع نتائج الدراسات التي تجرونها ؟
_الأستاذ نعيجة: في الوقت الحالي لا، كما أننا نواجه صعوبات إدارية في كثير من الأحيان من أجل تنصيب أجهزة الرصد والمصافي الخاصة بنا، فضلا عن نقص التمويل الذي يمثل مشكلة كبيرة في وجه الباحث الجزائري. وقد وصل بنا الأمر إلى الاعتماد على علاقاتنا الشخصية من أجل تسهيل إجراء أبحاثنا، فوضع أجهزة الرصد يتطلب مكانا مؤمنا مثل البنايات الإدارية أو الجامعات أو المدارس.
ومع ذلك فإن مجموعة من الهيئات تضع لنا تسهيلات للقيام بالبحوث، على غرار الدراسة التي نقوم بها منذ 15 شهرا في ديدوش مراد في الفترة الأخيرة لتقييم حجم التلوث الناجم عن مصنع الإسمنت، فقد وجدنا تسهيلات من إدارات، على غرار إدارة مصنع الإسمنت نفسه.
الجزائر آخرُ دولةٍ في العالم تستعمل البنزين الذي يحتوي على الرّصاص
_ النصر: هل مصادر التلوث صناعية فقط، أم أنّها يمكن أن تكون طبيعية؟
_الأستاذ نعيجة: مصادر التلوث صناعية بفعل الإنسان وطبيعية أيضا، فعلى سبيل المثال، جعل الموقعُ الجغرافي الجزائر عرضة للغبار القادم من الصحراء، وهو يحمل معه مركبات معدنية، وهذا الغبار الصحراوي يمتد إلى غاية أمريكا الجنوبية وغابات الأمازون، أين سجلت مُركّبات من غبار الصحراء الكبرى بما فيها الجزء الجزائري منها، كما أنه يصل إلى غاية القطب الشمالي، لكن أوروبا في منأى منه لأن البحر المتوسط يمتصه قبل أن يصل إلى هناك. ويمكن ملاحظة هذا الأمر بشكل بسيط من طرف أي كان في الغبار الذي كثيرا ما يعلق بأحذيتنا عندما نمشي في الشارع.
س.ح