المنطـق التجاري شـوّه جمالـية المالـوف و أفقده أصالته
يتأسف الفنان أحمد عوابدية أحد عمالقة موسيقى المالوف بقسنطينة، لحال هذا الفن بعدما شوّهه منطق الربح السريع وأصبح تجارة في يد غير أهله، ما أضر بروحه و أفقده الكثير من ملامحه، خصوصا في ظل غياب مشايخه بسبب الموت أو النسيان كما قال للنصر، في حوار عاد خلاله أربع سنوات إلى الوراء للحديث عن تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية و كيف ضيعت المدينة فرصتها للنهوض بتراثها و بفنها الذي اعتبر بأن عصرنته لا تتنافى مع فكرة الحفاظ عليه، لكن وفق شروط.
أنا مع عصرنة المالوف و لكن بشروط
ـ كتبت النصر، مؤخرا بأن قسنطينة ما عادت تغني المالوف فهل توافق الرأي و ما سبب القطيعة في اعتقادك؟
ـ طالعت الموضوع و قد لمست فيه الكثير من الواقعية، لكن لابد من التوضيح، بأن وضع مدرسة قسنطينة لا يختلف كثيرا عن واقع مدرستي تلمسان و العاصمة، المشكل يكمن في هيمنة المنطق التجاري على عالم الفن، ما أثر سلبا على نوعية و مستوى الأداء و فتح الباب أمام أي كان للاتجار بالمالوف على حساب خصوصيته كموسيقى ضاربة في عمق التاريخ و جزء من هوية مدينة كاملة، فهذا الفن يحتكم لمعايير سامية أهمها ، الأخلاق، التي يجب على مؤديه أن يتسموا بها، كما أن تأديته تستوجب التحكم الجيد في اللغة العربية و إجادة مخارج الحروف و النطق الصحيح للكلمات دون أخطاء لغوية.
من جهة ثانية، يمكن القول، بأن المالوف عزل بعدما انهارت المدينة القديمة و غادر أبناؤها البررة، كما أن وفاة مشايخه و مرض و عزلة من لا يزالون أحياء أثر كثيرا على واقعه، خصوصا في ظل تغير الأذواق الفنية و رواج الأغنية الإيقاعية السريعة و الراقصة على حساب الفن الحقيقي و الكلمة، وهو وضع نأسف له و يتحمل جزءا من مسؤوليته الفنانون و المنتجون على حد سواء.
تهميش الكفاءات ضيّع على قسنطينة فرصة عاصمة الثقافة العربية
ـ منذ سنوات يردد الفنانون على مسامعنا قاموسا موحدا، فهل يطرح موضوع توفر الأرشيف الفني كمشكل بالنسبة إليكم؟
ـ بالعكس مشكل القصائد و النوبات لا يطرح أبدا في هذا الطابع الموسيقي الغني، فالموروث الفني الأندلسي جد ثري و هناك قاموس هام مكتوب و محفوظ لم يغنى إلى غاية الآن في نوبات الزيدان و السيكة و غير ذلك، الذي حدث هو أن الفنانين باتوا يفضلون الطقطوقة الخفيفة « شونسونات»، لسهولة أدائها و خفتها و اتساع جمهورها وهو ما قلص الاهتمام بالتراث عموما.
البحث العلمي لا يجب أن يستثني الموسيقى
ـ في كل مرة يثار الجدل حول أصل المالوف ينسبه البعض إلى اليهود، ألا تعتقد بأن الدراسة الأكاديمية يجب أن تعنى أيضا بالبحث في تاريخ الفن ؟
ـ حاليا لا يوجد اهتمام أكاديمي بالفن و تاريخه، لكن يهمنا نحن كأهل صنعة و كغيورين على هذا الموروث أن يلتفت إليه الباحثون في الموسيقى و حتى التاريخ و علم الاجتماع، لأن المالوف بموسيقاه و بكلماته يعد مرآة عاكسة لعادات وتقاليد المجتمع المحلي و يمكن من خلال دراسة قصائده الوقوف على العديد من الأمور بما في ذلك طبيعة الحياة في مراحل تاريخية معينة من عمر المدينة.
أما في ما يخص الحديث عن أصله، فأوافقكم الطرح، طبعا البحث في تاريخ الفن سينهي أي جدل بخصوص أصوله و تفاصيل أخرى، مع ذلك يبقى المعروف هو أن المالوف عربي قسنطيني دخل إلى المدينة مع القادمين من الأندلس أين ولدت المدارس الموسيقية الثلاث، و توشح ثقافة المنطقة و تطبع بخصائصها، هو ليس يهوديا و لم يكن كذلك يوما، الحقيقة هي أن اليهود أدوه بوصفهم جزء من المجتمع المحلي القسنطيني وليس لأنهم أصحابه.
المالوف ليس يهوديا بل هو فن عربي قسنطيني
ـ كثيرا ما يثير الحديث عن عصرنة الطبوع الموسيقية الأصيلة الجدل بين الجيلين القديم و الحديث من الفنانين ما موقفك من الأمر؟
ـ أنا لا أعارض فكرة عصرنة المالوف أو الشعبي أو أي موروث موسيقي آخر، لأن الزمن يتغير و التطور الطبيعي للإنسان يفرض ضرورة مواكبة التغيرات المجتمعية بما في ذلك اختلاف الأذواق، لكن فكرة العصرنة هنا يجب أن تكون مدروسة جيدا، و أن تفعل وفق شروط أهمها عدم المساس بجوهر الموسيقى و روحها ، بمعنى أننا إن أرادنا تخفيف الإيقاعات مثلا، فيجب أن نعيد ضبط الأوتار بالاعتماد على توجيهات مختصين في الموسيقى و أساتذة و فنانين متمكنين، وليس عن طريق إدخال آلات موسيقية جديدة لا تتماشى مع طبيعة هذا الفن مثل آلة « السانتي تيزور» و غيرها.
العصرنة في منظوري قد تكون من خلال المزج بين موسيقى المالوف و فنون أخرى كالسينما و الأوبرات و غير ذلك، لإعطائها مساحة أكبر للانتشار و إكسابها جمهورا أوسع و التعريف بها بشكل أفضل خصوصا و أننا نملك في قاموسنا الموسيقي القسنطيني قصائد جميلة يمكنها أن تتحول إلى ملاحم مثل «البوغي «.
ـ « البوغي» أنتجت كفيلم خلال عاصمة الثقافة العربية و كأوبرات منذ مدة، ما تقييمك لهذه الأعمال؟
ـ لن أقدم تقييما سلبيا او ايجابيا، ففكرة الاستثمار في الموسيقى و القصيد بهذا الشكل مشجعة في حد ذاتها، لكن أقول أن الاقتباس لابد وأن يكون أعمق و أشمل و أن يتناول كل جوانب العمل و يخدمه، بعيدا عن التقزيم او اختزال قصيدة وصفية بأبعادها الاجتماعية و التاريخية في قصة حب بسيطة.
الأعمال الفنية التي استندت إلى قصة البوغي تفتقر للعمق
ـ لنعد أربع سنوات إلى الوراء للحديث عن تأثير عاصمة الثقافة العربية على موسيقى المدينة و فنها بالعموم، هل خدمت هذه التظاهرة قسنطينة فعلا؟
ـ سأجيب كمواطن و ليس كفنان، التظاهرة لم تخدم المدينة بالشكل المطلوب، يمكن القول بأنها كانت فرصة كبيرة و ضاعت منا، ربما السبب الرئيسي يكمن في تهميش الكفاءات الحقيقية لصالح أشخاص غير مؤهلين أو بتعبير أدق من خارج الاختصاص، وهو الحال بالنسبة للموسيقى فمن غير المعقول أن نتحدث عن فن قسنطينة و ننسى أو نتناسى أو نتعمد تهميش مشايخ المالوف الكبار من أمثال الشيخ قدور الدرسوني و رشيد بوخويط.
عاصمة الثقافة العربية سقطت في مواضع عدة، يكفي أن هناك اليوم ونحن نتحدث عن تظاهرة عمرها أربع سنوات، عن أشخاص شاركوا في إعداد بعض كتب دائرة الموسيقى ولم يتاحوا مستحقاتهم المالية بعد. هدى طابي