مدن مهجورة وحياة معلقة إلى ما بعد الصيف
لم تعد مشاهد المدن الخالية خلال فترة الظهيرة مقتصرة على المناطق الواقعة في أقصى الجنوب وحدها، بل أن هذه المظاهر امتدت إلى ولايات أخرى أكثر مقربة من الهضاب العليا والتل، فالشوارع الخالية والأسواق المغلقة والنشاط التجاري المعطل أصبح سمة تطبع يوميات مدينة بسكرة عروس الزيبان، في وقت تعرف البرك المائية احتلالا من قبل أطفال ومراهقين بحثا عن الراحة، سيما وأن بسكرة تشهد حرارة لم تعرفها منذ حوالي 10 سنوات.
النصر ومن خلال جولة ببعض الأسواق الشعبية بالمدينة وعدد من القرى والشوارع الكبيرة، نقلت بعضا من معاناة سكان بوابة الصحراء خلال فصل الصيف، وأهم العادات التي ألفوا القيام بها في محاولة للاستمرار وتحدي الطبيعة القاسية.
بسكرة التي ارتقت إلى مصاف الولايات خلال التقسيم الإداري لسنة 1984 ظهرت لأول مرة على الخريطة الإدارية كبلدية بموجب قرار سنه المستعمر الفرنسي في ماي 1878، أما أصل تسميتها فقد كان محل اختلاف كبير بين المؤرخين، فبعضهم ينسبه إلى أصله الروماني وتحديدا في كلمة «فيسيرا» أو «فيسكيرا» والتي تعني المحطة أو المقر التجاري، وذلك لكونها منطقة التقاء تجار منطقة التل بتجار الصحراء، أين تتم المبادلات في السلع كما أنها كانت منطقة للعبور، بينما يرى البعض الآخر أن كلمة بسكرة تعني السكرة وترمز إلى حلاوة تمورها وعذوبة مياهها، بينما يلخصها فريق ثالث في تسمية "أدييسيينام" وهي كلمة رومانية تعني المنبع.
وإن اختلفت التسميات إلا أن الأكيد في كل هذا أن كل من مروا بهذه المدينة قديما سحروا بطبيعتها وما تزخر به من مؤهلات طبيعية ومواردها الهائلة، حتى أن هذه المدينة شهدت قبل بلوغ الفاتحين حروبا كبيرة وتنافسا منقطع النظير من طرف عديد الدول من أجل التمركز بها فتارة احتلها الرومان، ثم حاول الوندال مرة أخرى قبل أن يستعيدها الرومان مرة ثانية، وبقيت على هذا الحال حتى وصلها جيش الصحابي عقبة بن نافع واستقر بها إلى أن توفي بها، إلى جانب عدد من مرافقيه على غرار أبو المهاجر دينار والذي يرقد في ضريحه بمدينة سيدي عقبة.
ويرى الكثير من سكان الولاية أن هذا التنافس الكبير من قبل الحضارات السابقة من أجل السيطرة على عروس الزيبان لم يكن أمرا اعتباطيا بل له دوافع كثيرة، أهمها توفرها على الكثير من الإمكانات والمؤهلات الطبيعية، إلى جانب موقعها الاستراتيجي كبوابة للصحراء العميقة، وهي نفس المؤهلات التي لا تزال تتوفر عليها حاليا، إلا أن الواقع المعاش في الوقت الحالي لا يعكس ما ينتظره السكان، خصوصا خلال فصل الصيف الذي شهد هذه السنة ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة ما زاد من معاناتهم، فيما دفعت الحرارة الكبيرة البعض الآخر إلى البحث عن «بدائل» من أجل المقاومة والاستمرار.
التسوق في الساعات الأولى للصباح
ولا يختلف نهار المواطن البسكري عن يوميات أي مواطن آخر يسكن الصحراء الكبرى، فاليوم يبدأ مبكرا هنا، إذ يباشر التجار وبعض أصحاب المهن الشاقة على غرار البناء والمخابز يومهم في ساعات الفجر الأولى، على أن يتواصل العمل إلى غاية منتصف النهار، حين يعمد الكثير من التجار إلى التوقف عن العمل إلى غاية المساء، ليتم استئناف النشاط قبيل صلاة المغرب، إلى ساعات الفجر الأولى، تزامنا مع انخفاض درجات الحرارة نسبيا مقارنة مع النهار.
ومن خلال جولة بمدينة بسكرة صباحا وبالتحديد بالسوق الأسبوعي «زقاق رمضان» والذي يعرف توافدا كبيرا من المواطنين من أجل قضاء حاجياتهم اليومية، حيث تنتشر بهذا المكان المحال المتخصصة في بيع التوابل والمواد الغذائية والخضر والفواكه إلى جانب توفره على بعض المطاعم التقليدية والتي تقدم أطباقا مشهورة على غرار «الدوبارة البسكرية» إحدى أشهر الأطباق المعروفة محليا.
ويعرف السوق في الساعات الأولى من الصبيحة توافد المئات من المواطنين والذين يحجون بشكل يومي من كل بلديات الولاية تقريبا، وذلك على اعتباره أحد الأسواق التقليدية المشهورة، حيث يتجولون بين محلاته والأروقة، من أجل التبضع، ولا تكاد أن تجد مكانا خاليا خلال هذه الفترة، فالكل هنا يسابق الزمن التاجر من أجل تسويق بضاعته، والمتجول من أجل اقتناء حاجاته، حيث تبدأ هذه المظاهر بداية الساعة الخامسة فجرا، ليبلغ السوق ذروته بين 9 و 10 العاشرة صباحا، وتأخذ الحركة في الانخفاض نسبيا قبل أن تصبح محدودة عند منصف النهار ثم تنقطع نهائيا عند موعد صلاة الظهر، وبعد هذه المرحلة تختفي الحركة نهائيا لدرجة أن أي غريب عن المنطقة لن يستوعب أن «زقاق رمضان» كان في ساعات الصبيحة الأولى من أكثر المناطق حركية.
بعد جولة في وسط المدينة عدنا حوالي الساعة الواحدة بعد الزوال إلى زقاق رمضان من أجل الوقوف على الحركية هناك، إلا أن دهشتنا كانت كبيرة عندما وجدنا السوق شبه خال من رواده، عدا تاجرين تخلفا عن موعد إغلاقهما المعتاد وجدناهما بصدد المغادرة، بينما كان خياط ينام على الأرض ويستظل تحت أحد الأزقة الضيقة، بينما كان هناك مطعم وحيد مختص في بيع طبق الدوبارة لا يزال فاتحا أبوابه، وقد وجدنا زبونا واحدا فقط كان يتناول أكله، وبالمقابل كان كل شيء مغلقا، ولم نسجل أي مؤشر واحد للحياة سوى الأكياس البلاستيكية التي يتقاذفها الهواء الساخن هنا وهناك.
توقفنا لوقت قصير بالقرب من تاجر يهم بالمغادرة وحاولنا تجاذب أطراف الحديث معه عن طبيعة العمل خلال فصل الصيف فقال: «في الصيف يختلف الأمر كثيرا عن باقي أيام السنة العادية، في هذا الوقت نباشر عملنا مبكرا، حيث يأتي الزبائن من كل مكان لاقتناء مستلزماتهم، ومع اقتراب منتصف النهار تقل الحركة تدريجيا لتنعدم عند بلوغ صلاة الظهر، كما ترون الكل أغلق هنا، فلا جدوى من البقاء، قد تظل إلى الليل ولا تبيع بدينار واحد، فالناس تلزم منازلها هروبا من الحرارة، وإن وجدت محلا فاتحا أبوابه فهذا لأنه يملك مبردا أو له عمل آخر كتوظيب المحل وإعادة ترتيب السلع».
محلات تغلق عند منتصف النهار
غادرنا زقاق رمضان وغير بعيد منه يتواجد سوق آخر مختص في بيع الألبسة وتنتشر به بعض محال بيع التوابل، وهناك لم يختلف الأمر كثيرا فباستثناء محال قليلة لا تزال تفتح أبوابها هنا وهناك، غادر غالبية التجار إلى منازلهم وأغلقوا محالهما، وحتى الباعة الذين يملكون طاولات ومربعات عمدوا إلى المغادرة وقاموا بتغطية السلع بواسطة قطع قماش كبيرة، أما الأمر المثير للغرابة فإن بعض التجار تركوا ما يدل على طبيعة نشاط المحال المغلوقة.
وقد كانت دهشتنا كبيرة ونحن نجد متجرا أبوابه موصدة بينما لا تزال دميتان على طرفيه وعليهما ألبسة، في البداية ظننا أن صاحبها قد نساها، إلا أننا ومع توغلنا في سوق الدلالة أكثر فأكثر وجدنا أن الكثير من التجار قد قاموا بنفس الخطوة، فأحدهم ترك سلعا تدل على أن الأمر يتعلق بمحل لبيع التوابل، وآخر وضع سلسلة طويلة علق عليها أوشحة نسائية، ولدى حديثنا مع أحد المارة قال لنا أن هذه العملية عادية بالنسبة للمارة والسكان عموما، والجميل في الأمر أن السلع تظل في مكانها دون أن يقترب منها أحد، إلى أن يعود أصحابها في المساء بعد انخفاض درجات الحرارة أين يستأنف عدد من التجار نشاطهم إلى غاية الليل.
وبالمقابل كانت لا تزال في سوق الدلالة فئة قليلة من التجار يفتحون أبواب محلاتهم رغم أنه لم يكن هنالك من متسوقين عدانا، إلا أنهم آثروا فتح المتاجر، غير أن الجميع كان مستلق، فقد مررنا بتاجر مختص في بيع الأفرشة الخاصة بالمنازل، وقد كان مستلقيا فوق زربية، بينما يمسك بين يديه هاتفه النقال، كما وقفنا على تاجر آخر يبيع الألبسة الرجالية نائما فوق كرسي بحر، فيما يشغل مكيف الهواء، وقد أكد لنا هذا الأخير أن الغرض من الاستمرار في التواجد بالسوق ليس تجاريا بقدر ما هو محاولة لمقاومة الحر فالتواجد بحسبه في المنزل ليس أكثر راحة من المتجر، وبالتالي هو يفضل التواجد بالسوق على أمل أن يتمكن من بيع ولو قطعة واحدة من الألبسة.
الفترة المسائية أكثر حركية
لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لباقي أحياء مدينة بسكرة وقراها عدا استثناء وحيدا يخص وسط المدينة، حيث ظلت أكثر حركية عن باقي المناطق، خاصة بالقرب من بعض الإدارات والهيئات العامة على غرار مركز البريد وكذا مؤسسة اتصالات الجزائر، فضلا على البنوك وبعض المصالح الأخرى التي تواصل فتح أبوابها من الدوام المعمول به، حيث ظلت نسبة تواجد المواطنين في الشوارع ضئيلة جدا، ولا تكاد تحتسب ببعض المناطق على غرار مدينة سيدي عقبة والقرى المحيطة بها على غرار قرية السعد، فضلا على بعض المناطق مثل طريق مشونش مرورا بمنطقة الدروع وبلدية شتمة، حيث كانت شبه خالية من ساكنيها بسبب الارتفاع المحسوس لدرجات الحرارة.
غير أن الوضع أخذ في التغير تدريجيا مع تحسن درجات الحرارة وانخفاضها إلى ما دون 35 درجة عند غروب الشمس تقريبا، ما دفع بأعداد كبيرة من العائلات والشبان إلى التواجد في الشارع، وذلك إلى غاية ساعة متأخرة من اليل، كما شهدت الطرقات تدفقا لا بأس به للسيارات بعد أن كانت شبه خالية في الظهيرة، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت نسبة كبيرة من السائقين وإلى ما بعد منتصف الليل يستخدمون مكيفات الهواء، وذلك بفعل تواصل الحرارة وهبوب هواء حار، إلا أن هذا الجو لم يمنع البسكريين من التجوال في هدوء.
ومن خلال جولة ببعض الأحياء، لاحظنا قيام شبان بالتجمع حول طاولات صغيرة، وغالبيتهم يرتدون الأقمصة، بعضهم يتجاذبون أطراف الحديث والبعض الآخر يلعبون الأوراق أو الدومينو، مع تناول الشاي، إقتربنا من مجموعة من الأشخاص وأخذنا في تجاذب أطراف الحديث مع أحدهم، حيث تبين أنه يعمل كحارس ليلي في حظيرة للسيارات، ولدى سؤالنا له عن طريقة حياتهم في ظل الارتفاع النسبي لدرجة الحرارة رد محدثنا وعلامات الاستغراب بادية على وجه: «من أي مدينة أنتم؟» قبل أن يرد وقد رسم على وجهه ابتسامة لطيفة: «اليوم الجو منعش جدا، أنظر يا صديقي الحمد لله لم ننعم بمثل هذا الجو منذ أسابيع طويلة، بعد أن بلغت درجات الحرارة معدلات كبيرة جدا، وقد لامست خلال أوقات الظهيرة عتبة 50 درجة مئوية».
ويتابع: «الحمد لله خلال اليومين الأخيرين عرفت درجات الحرارة انخفاضا محسوسا، وهو ما جعل الناس تسترجع أنفاسها قليلا، لا نعلم إن كنا قادرين على الصمود أكثر لكن ما باليد حيلة، فهنا كل العائلات التي تقتصد طيلة السنة لتحاول توفير مبلغ من المال حتى تستعين به في فصل الصيف وتنتقل إلى مدن التل للعيش هناك» ويضيف: «الكثير من العائلات المقتدرة تؤجر منازل بمدن الميلية والعنصر بولاية جيجل، وكذا بلديات سيدي عمار والبوني بعنابة القل بولاية سكيكدة بنسبة أقل لتقضي أشهر جوان وجويلية وأوت هناك وذلك هربا من الحرارة الكبيرة وظروف العيش القاسية، على أن تكون العودة قبيل الدخول المدرسي، أما من لم يسعفه الحظ فهو مجبر على العيش هنا مهما كانت النتائج».
برك السقي.. «مسابح» محفوفة بالأخطار
تركنا مدينة بسكرة وتوجهنا شرقا نحو مدينة سيدي عقبة، والتي تبعد عن عاصمة الولاية بحوالي 18 كلم، في طريق تتوسط بساتين النخيل وبعض المستثمرات الفلاحية والصناعية، بينها أكبر مدينة مائية بإفريقيا، وبعد فترة مسير تجاوزت نصف ساعة بقليل قابلنا مدخل المدينة، وهي على شكل بوابة كتب أعلاها عبارة: «مرحبا بكم بمدينة الصحابي عقبة بن نافع» وما هي إلا أمتار قليلة حتى صادفنا على الجهة اليمنى من الطريق ثلاثة مراهقين يقفون على ما يشبه البئر ويرتدون لباس السباحة وأجسادهم مبلولة بالمياه، توقفنا مباشرة وتوجهنا صوبهم من أجل الوقوف على ما يفعلون، لنتفاجأ بأنهم يسبحون بحوض صغير تصب فيه المياه المتوجهة نحو بساتين النخيل.
صعدنا فوق الحوض، ولدى حديثنا معهم عن مدى شعورهم بالخطر من خلال تواجدهم داخل هذا الحوض وإمكانية توقيفهم من قبل السلطات أو المسؤولين في حال مرورهم، فرد أحدهم قائلا: «هنا الأمر طبيعي، ما عليك سوى التوجه نحو الطريق المؤدية نحو مسجد سيدي عقبة وسترى العشرات من الأطفال يسبحون في برك تشكل خطرا أكبر من هذا» قبل أن يتركنا وينزل إلى المياه الباردة بعد أن أحس بشيء من الحر، غير أن الشاب ولدى دخوله المياه استغرق وقتا طويلا من أجل العودة، وهنا سألناه عما كان يفعله فأجاب بكل برودة أعصاب: «أنا أصل إلى قعر الحوض بحوالي 4 أمتار ثم أتجه إلى داخل الخزان عبر فجوة بحوالي مترين لألج داخله ثم أعود، لقد تعودنا هنا على هذه المغامرة»، تركنا المراهقين الثلاثة يسبحون في الحوض وتوجهنا مباشرة نحو طريق مسجد سيدي عقبة مثلما دلونا على أمل أن نجد بركا مائية أخرى.
بعد أن تجاوزنا ساحة صغيرة بوسط المدينة تتواجد بها قبور عدد من الصحابة الذين كانوا ضمن جيش الصحابي الفاتح عقبة بن نافع، ثم المعهد الإسلامي وخلفه المسجد القديم سلكنا مباشرة طريقا ضيقة تشق بساتين النخيل، وما هي إلا أمتار قليلة حتى صادفنا طفلين يجلسان بالقرب من مصب مائي ويهم أحدهما بدخول حوض صغير لا يتجاوز طوله مترين ونصف وعرضه حوالي متر واحد، وقوفنا معهما لم يغير من الوضع شيئا فلم يهتما لأمرنا وضلا يستمتعان بالمياه الباردة مقارنة مع الجو الحار الذي كان يخيم على الأجواء، حيث كانت درجات الحرارة تشير إلى 44 درجة مئوية رغم أن عقارب الساعة كانت قد تجاوزت الخامسة مساء.
اقتربنا من أحد الطفلين المتواجدين وقد بدا لنا أنه لم يتجاوز 13 من العمر، أوضح لنا أنه يقطن بعيدا عن المنطقة وقد حضر هو وصديقه عبر الدراجة من أجل قضاء وقت الظهيرة في المياه الباردة، فمنزله لا يتوفر سوى على جهاز تكييف صغير وقديم وأصبح غير قادر على تغيير الجو داخل الغرفة التي وضع بها، خصوصا وأن التيار الكهربائي منخفض بحسبه، مضيفا: «أنه تعود على التواجد بهذا المكان رفقة أصدقائه من أجل قضاء فترة الظهيرة» مضيفا، أنه في بعض الأحيان لما تكون درجات الحرارة مرتفعة بشدة يكثر الضغط على البرك والأحواض ويصبح من الصعوبة إيجاد برك شاغرة، وهو ما يزيد من معاناتهم، في وقت لا وجود لمسابح قريبة في المنطقة.
وفي هذه اللحظة اقترب منا رجل في الخمسينيات ، وقال: «الأطفال هنا في خطر كبير، فإما أنهم مهددون بالحرارة المرتفعة خصوصا في الظهيرة، أم الغرق في مياه الأحواض سيما الطينية منها، أو اللسع العقربي، والكثير من العائلات لا تملك الإمكانات لنقلهم نحو المسابح فهنا بسيدي عقبة لا يوجد مسبح والقريب منها تشهد اكتظاظا كبيرا ، أما ما هو متواجد بعاصمة الولاية فهي للطبقة الميسورة وغير موجهة لعامة المواطنين، فالأسعار مرتفعة وشخصيا لا يمكنني أن أصطحب أبنائي إليها ولا حتى مرة واحدة في الشهر، لأنني سأكون مجبرا على دفع ما يزيد عن 5 آلاف دينار لأطفالي الثلاثة، وهذا المبلغ كبير جدا بالنسبة لي وللكثيرين أمثالي، لذلك نحن مجبرون على السماح لهم بالسباحة في مثل هذه الأماكن».
النخيل يتهددها العطش وفلاحون يستغيثون
غادرنا مدينة سيدي عقبة وتوغلنا أكثر نحو القرى المتناثرة حولها، وبالضبط توجهنا نحو قرية السعد، وبين بساتين النخيل توقفنا بالقرب من بركة أخرى عرفت تجمع عدد من الأطفال يقومون بالسباحة وبالقرب منهم أنبوب مائي ذا قطر كبير يصب مياهه نحو بركة صغيرة حولها الأطفال إلى مسبح فيما يجلس رجل في الجهة المقابلة من الطريق الضيقة يراقبهم، وبمجرد توقفنا اقترب منا الرجل ومن دون أن نسأله أي سؤال أو نعرفه بهويتنا قابلنا بالحديث: «كما ترون لا مكان لهؤلاء الأبرياء غير انتظار مياه السقي».
محدثنا لم ينتظر سوى ثوان قليلة حتى عرفنا بنفسه على أنه فلاح ويملك عددا من أشجار النخيل، ليوضح أنه يريد منا أن نسلط الضوء على مشكلة مياه السقي التي تهدد الفلاحين وأصحاب أشجار النخيل، إذ لا يجد المهنيون ما يسقون به حدائقهم سوى من مياه الينابيع التابعة للخواص مقابل أموال باهظة، وإلا فإن الغلة مصيرها الموت، مصرحا: «هذه المياه التي امامكم تسقي الآن بستان النخيل الذي أملكه وكما ترون أنا أدفع مبلغ 300 دج للساعة الواحدة، ويجب علي أن أترك المياه تجري حوالي 10 ساعات وهذا مكلف إذ أنني مجبر على هذا في كل مرة تحتاج النخيل إلى المياه، وحالي ربما أهون من باقي زملائي فمنهم من يستأجر المياه لمدة تصل لحوالي 24 ساعة حتى تصل المياه إلى نخيله البعيدة نسبيا من هنا، في وقت يضطر البعض إلى حفر تجويفات حول الشجرة من أجل سقيها، في وقت لم تتحرك مصالح مديرية الفلاحة لإيجاد حل».
وتابع محدثنا: «كل من يعيش في الصحراء يعاني، حتى الأشجار لها نصيبها من المعاناة والماشية أيضا، هناك من الموالين من يضطر لاقتناء صهريج حتى تشرب الغنم والأبقار بشكل يومي، وفي الأخير يلوموننا على ارتفاع الأسعار، إذا أرادت الدولة أسعار منخفضة للسلع التي ننتجها فيجب أن تدعمنا بالأمور الأساسية».
غادرنا المنطقة وتركنا الفلاح قد استقر على نفس الحال التي وجدناه عليها قبل الحديث إليه وتوجهنا وهو يراقب مياه السقي، وعدنا أدراجنا إلى مدينة بسكرة والنهار يعد دقائقه الأخيرة، ليفسح المجال للظلام الذي بدأ يخيم على الأرجاء بينما ظلت الحرارة القاسم المشترك بينهما.
روبورتاج: عبد الله بودبابة