الثلاثاء 5 نوفمبر 2024 الموافق لـ 3 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

خبازون يحتفظون بأسرارها ومواطنون يتنقلون لأجلها: الحنين يشعل أفران الحجارة مجددا في مخابز قسنطينة

تنتعش ذاكرة الكثيرين مع اقتراب العيد، و تعود إلى أذهانهم صور الطفولة التي ترتبط برحلة الذهاب والعودة من وإلى المخابز أين تطهى الحلويات التقليدية، داخل أفران حجرية قديمة، تفضلها السيدات على  أفران الكهرباء الحديثة، لأجل جودة مخبوزاتها التي ترعاها أيادي خبازين يحتفظون بأسرار و حيل تضمن وحدها الحصول على نتيجة مثالية سواء تعلق الأمر بقالب «المقرود الذهبي» أو صينية «البقلاوة مشمشية اللون»، ولعل هذا الحنين إلى الزمن الجميل هو ما أعاد الكثير من المواطنين إلى هذه المخابز قبيل العيد، بعدما كان رماد أفرانها قد انطفأ لسنوات، ساد خلالها الاعتماد على الأجهزة المنزلية.
هدى طابي
موضة الطهي على الفحم تحيي الاهتمام بأفران المخابز
 يندر جدا أن لا تتوفر بيوت أهل المدينة، على فرن غاز أو كهرباء كبير أو صغير، مع ذلك تعرف الشوارع والأزقة قبيل عيد الفطر،نشاطا متزايدا لحركة سيدات و مراهقين و حتى أطفال، يحملون بين أيديهم صواني و قوالب الحلويات التقليدية القسنطينية، فتحضيرات العيد  و أجواؤه عموما لا تكتمل في نظر هؤلاء، إلا بإعداد صنف حلوى معين في قالب كبير بطول متر على الأقل، للحصول على كمية تكفي سكان البيت و زواره خلال العيد، وقد جرت العادة أن يطهى القالب داخل أفران المخابز، خصوصا الحجرية لأنها  تحافظ على الرائحة و على هشاشة الحلوى كما أنها أكبر وأقدر على استيعاب حجمه.
وبالرغم من أن عادة الطهي في المخبزة تراجعت نوعا ما لأسباب عديدة بينها توفر التكنولوجيا وضعف القدرة الشرائية للمواطن، إلا أن الكثير من القسنطينيين عادوا مؤخرا إلى الاهتمام بأفران الحجارة القديمة وذلك مع عودة موضة الطهي على الفحم في كثير من المطاعم، حيث يروج عبر فيسبوك و انستغرام، لكل ما يطهى في أفران الحجارة و يقدم على أنه ألذ و أكثر نضجا، حتى أن هناك ملاك مطاعم اهتدوا إلى تغليف أفران الغاز الكبيرة و المدمجة في الجدران، بالأجر الأحمر الصغير للحصول على نفس النتائج من حيث الرائحة والنضج.
السر في تقنية البناء

النصر، تنقلت بين عدد من المخابز بقسنطينة وأحياء مجاورة للوقوف على التحضيرات الخاصة بالعيد، وقد لمسنا إقبالا متزايدا على المخابز ولدى سؤالنا البعض، قالوا بأنهم اشتاقوا لأجواء العيد و لذكريات الزمن الجميل، حيث أخبرنا الهادي، موظف بالخزينة العمومية، التقيناه قبالة مخبزة   « جنان الزيتون»، بذات الحي المعروف بكوحيل لخضر، بأنه يستمتع بكل تفصيل يخص تحضير حلوى « المقرود» في البيت، و ينتظر سنويا لحظة نقل القالب إلى المخبزة مساء، و الحصول على تلك القصاصة الصغيرة التي تحمل رقم تسجيل، لأن كل هذه التفاصيل على بساطتها تذكره بوالدته وبطفولته بحي سيدي مبروك و « بكوشة بوجمعة»، أما  بوزيد، الذي قابلناه  بمخبزة  عمي الهادي في « الشارع» قبالة زاوية عبد الرحمان بشتارزي، بوسط المدينة فقال، بأنه طلق هذه العادة منذ سنوات وكان يترك لزوجته مهمة تحضير الحلوى في المنزل، لكنه قرر هذا الموسم العودة إلى أجواء العيد القديمة و أصر على نقل صينية « البقلاوة» إلى المخبزة ليشتم عبق الأصالة و يعيش مجددا تجربة الطفولة والمراهقة، مواطنون آخرون ذكرونا بمخابز عديدة تميزها الأفران الحجرية على غرار « كوشة عمي علي  طيار»  بلاري دو شوفالي و  كوشة «بوغريدة « و « بوفنارة» بالحي القديم.
دخلنا مخبزة جنان الزيتون، و قد شد انتباهنا العدد الكبير لقوالب و صواني الحلويات من « مقرود وكروكي و بقلاوة و قطايف»، كانت موضوعة فوق بعضها و كل قالب محدد بقصاصة عليها رقم معين، أما الحرارة فيصعب جدا تحملها، والسبب هو لهيب الفرن الحجري القديم المغطى بالآجر الأحمر و الذي يزيد عمره عن 63سنة، كما أخبرنا عمي محمد ساحلي، وهو أقدم خباز فيها ، قال بأن ما بقي موجودا من هذه الأفران في قسنطينة، قليل جدا ولذلك فإن مخبزته تعد قبلة أولى لكل محبي الأصالة، ممن يدركون الفرق في جودة الطهي بينها وبين أجهزة الغاز والكهرباء، فسرها يكمن كما أوضح، في هندستها وطريقة بنائها التي تعتمد على تقنيات بناء الأهرامات المصرية، أي استخدام أسلوب الدعم بواسطة الرمل ومن ثم التفريغ الخارجي وهو تحديدا ما يساعد على ضمان توزيع مثالي للحرارة داخل الفرن، بشكل يسمح بنضج المخبوزات في وقت وجيز و بطريقة أفضل، يمكن معها أن تستمر هشاشة الحلوى مثلا لمدة طويلة، في حين تتصلب الحلويات التي تطهى في الأفران الحديثة سريعا.
 محدثنا قال، بأن هذه الأفران التي تسع أحيانا لقرابة 30 قالبا، أصبحت نادرة جدا لأن من يجيدون بنائها يعدون على أصابع اليد، كما أن أغلبها جهزت بالغاز ولم تعد تعمل على الفحم كما في السابق،  علما أن الطهي فيها عملية تتطلب الكثير من الحرص والمتابعة و لا يمكن أن تتم إلا على يد خبير متمرس.
أسرار متوارثة و حيل وليدة الخبرة
الخباز، قال بأن الطهي في فرن الحجارة، يحتكم لبعض القوانين و يستوجب دراية ببعض الحيل، وهي خبرة يكتسبها الخباز مع مرور السنوات، فيصبح بذلك قادرا على تمييز أنواع الدقيق أو الفرينة من خلال سمك قطعة الحلوى و تماسكها ، ويعرف أية درجة مناسبة لطهي المقرود للحصول إما على لون ذهبي أو مائل للاحمرار، أما البقلاوة فيفضلها الكثيرون بلون مشمشي ذهبي كما عبر، وطهيها دقيق و يعتمد على التقدير الجيد لعدد طبقات العجين و مدى حاجتها للبقاء أطول في الفرن، كما يجب أن يعرف الخباز كذلك، إن كانت نسبة السمن فيها كبيرة، ليحدد الطريقة الأنسب لطهيها  فقد يكون من الضروري أحيانا تغليف الصينية بورق الجرائد كي لا تحترق الحلوى من الأعلى قبل أن تنضج من الأسفل.
أما تحديد نسبة العسل المناسبة لتحلية البقلاوة، فيرجع للخبرة كما قال محدثنا، مشيرا إلى أنه تعلم أصول الحرفة على يد صانع حلويات محترف، فالبقلاوة كثيرة السمن لا تشفط كثيرا من العسل، حيث يتطلب كل كيلو ونصف من السمن نفس القدر من العسل، علما أن الحشو الذي يكثر فيه الفول السوداني، لا يستهلك كمية عسل كبيرة، عكس الحشو المكون من اللوز و الجوز.
 وعن أسعار الطهي، قال عمي بو الودنين، وهو خباز آخر، بأنها تتراوح بين 100دج إلى600دج ، حسب حجم القالب و نوع الحلوى، مضيفا أن هناك عودة للاهتمام بخدمات المخابز هذه السنة مقارنة بالسنوات الماضية، التي غابت خلالها هذه العادة لدرجة أن أفرانا كثيرة أهملت و تخلى عنها ملاكها بعدما جهزوا مخابزهم بأفران حديثة أكثر سرعة وأقل جهدا.    
الترحيلات لم تقض  على عادات العيد في المدينة
زرنا خلال جولتنا فرنا آخر يقصده الكثيرون و يشتهر بقدمه و بجودة مخبوزاته، وهو فرن «مخبزة سعد الله» بحي الأمير عبد القادر، وهناك أخبرنا عمي  الشريف، بأن له زبائن أوفياء لم يطلقوا عادة طهي حلوياتهم في فرنه منذ سنوات عديد تمتد إلى غاية 1968، مؤكدا بأن الترحيلات المكثفة التي شهدها الحي طيلة السنوات الماضية لم تسرق منه زبائنه رغم تراجع عددهم، فكثير من الأوفياء يقصدونه من الضواحي على غرار علي منجلي و ماسينيسا، لأن فرحة العيد لا تكتمل حسبهم إلا بزيارته وبحمل قوالب الحلوى إلى مخبزته، أين تطهى بطريقتين إما في فرن كهربائي حديث، أو في الفرن الحجري القديم، الذي صادف أن وجدناه مغلقا يوم زيارتنا.
 سألنا عمي الشريف عن سبب توقيفه، فقال بأنه اضطر إلى ذلك كونه أصبح غير قادر على العمل عليه، بالمقابل يفتقر الخبازون الشباب للخبرة في تشغيله، كما أن إشعاله يستوجب تجميع عدد معين من قوالب وصواني الحلوى قد يزيد  أحيانا عن 35 قالبا، و ذلك لأن سد الفراغات يضمن نضجا أفضل للمخبوزات، و لأن الطلب تراجع مؤخرا و عدد الزبائن قل، فقد أصبح من النادر جدا استخدامه، كما أخبرنا، مؤكدا، بأن هذا لا ينفي اهتمام الكثيرين به، حتى أن بعض من يزورون مخبزته في فترات الأعياد يصرون على طهي حلوياتهم داخله.
 وعن أسرار نجاح عملية الطهي في الفرن الحجري و سر تلك الألوان المدروسة التي تكتسيها الحلويات بعد طهيها فيه، قال محدثنا، بأن للأمر علاقة بالخبرة، وبمعرفة درجات الحرارة المناسبة لكل نوع من الحلوى فالغريبية مثلا تنضج سريعا وعلى حرارة منخفضة، أما طهي البقلاوة فيتطلب حرارة متوسطة، وكذلك المقرود و الكروكي وهما أكثر صنفين يحضرهما الزبائن نظرا لضعف تكلفتهما مقارنة بالأصناف كثيرة المكسرات.            هدى طابي

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com