كشف باحثون جزائريون في مجال التلوّث عن تأثير التغيّرات الصناعية وحركة المرور على جودة الهواء في منطقة ديدوش مراد بقسنطينة، حيث نُشرت لهم خلال الأسبوع المنقضي ورقة علمية جديدة في مجلة دولية مرموقة حول الدراسة التي أجريت على امتداد 15 سنة، ما يجعلها الأولى من نوعها على المستوى الوطني والإفريقي من حيث المدة التي استغرقتها عملية جمع المعطيات.
سامي حباطي
وعرضت منصة “ساينس دايركت” ملخصا عن الدراسة العلمية المنشورة في مجلة Journal of hazardous materials (مجلة المواد الخطيرة) التي يبلغ معامل تأثيرها 12.2، تحت عنوان «تأثير التغيرات الصناعية والمرورية على الغبار الجوي وترسب العناصر النزرة في ديدوش مراد، الجزائر» Impact of industrial and traffic" changes on atmospheric dust and trace element deposition "in Didouche Mourad, Algeria، حيث بيّنت التغيرات المسجلة في ترسب الغبار والمعادن الثقيلة في هواء منطقة ديدوش مراد بين 2002-2003 و2017-2018.
تسجيل تحسن كبير في جودة الهواء بمنطقة ديدوش مراد
واستهدف معدو الدراسة الكشف عن مستوى ترسب الغبار ومعادن الكوبالت والكادميوم والرصاص والمنغنيز والنيكل والكروم في الهواء، حيث اعتمدوا على تحليل بيانات جمعت من عشرة مواقع مختلفة في منطقة ديدوش مراد خلال الفترتين المذكورتين، وزعت على نقاط مختلفة، مثل المواقع الصناعية ومواقع الحركية المرورية والمواقع الحضرية والمواقع الريفية، إذ توصلوا إلى أن الغبار الكلي انخفض بنسبة 61 بالمئة والكروم انخفض بنسبة 50 بالمئة والنيكل تراجع بنسبة 51 بالمئة، بالإضافة المنغنيز الذي انخفض بنسبة 76 بالمئة والرصاص بنسبة 90 بالمئة، بينما بلغت نسبة تراجع الكادميوم إلى 97 بالمئة والكوبالت إلى نسبة 98 بالمئة.
وعزت الدراسة تحسن جودة الهواء بين الفترتين المذكورتين إلى الإجراءات البيئية والاقتصادية المتخذة خلال السنوات الماضية، حيث تعود بحسب ما جاء في الملخص إلى إنشاء طرق جديدة لتقليل الازدحام المروري على الطريق الوطني رقم 3، بعد دخول الطريق السيار شرق غرب الذي يمر عبر بلدية ديدوش مراد حيز الخدمة، ما أدى إلى تحويل حركة المرور بعيدا عن التجمع العمراني وقلل من الانبعاث المترتب عن السيارات التي كانت تعتبر مصدرا رئيسيا للتلوث في الفترة الأولى من الدراسة، بالإضافة إلى تحسين أنظمة الترشيح في مصنع الإسمنت في المنطقة الصناعية عيسى بن حميدة بديدوش مراد عام 2011، ما انعكس في انخفاض ملحوظ في انبعاث الغبار والجسيمات الدقيقة مفضيا إلى تقليل مستويات المعادن الثقيلة في الهواء، وذلك بعدما كان المصدر الرئيسي للملوثات في الفترة الأولى من الدراسة.
وسجلت الدراسة أيضا تحولات موسمية في التلوث، حيث كان الترسب أكثر كثافة في الصيف والخريف خلال الفترة الأولى 2002-2003، بينما أصبح أكثر تجليا في الصيف والشتاء خلال 2017-2018، ما يمثل بحسب الباحثين انعكاسا للتغيرات المناخية والأنشطة البشرية. وقد اعتبر الباحثون أن الدراسة تقدم دليلا علميا قويا على فعالية السياسات البيئية في تقليل التلوث وتوفر نموذجا قابلا للتطبيق في مناطق أخرى ذات بيئات حضرية وصناعية متغيرة.
والتقت النصر بالدكتور العمري نعيجة من مركز البحث في العلوم الصيدلانية بقسنطينة والبروفيسور حسين علي خوجة، المنتمي لفرقة تحليل نوعية الهواء بقسم الكيمياء لجامعة الإخوة منتوري. وحدثنا البروفيسور علي خوجة عن الدراسة، حيث قال إنها تقوم على حملتي قياس من فترتين زمنيتين مختلفين، مشيرا إلى أن عملية القياس الأولى أجريت من جوان 2002 إلى جوان 2003، بينما امتدت الثانية من ديسمبر 2017 إلى ديسمبر 2018.
وأضاف المتحدث أن العميلة شملت في السنتين المذكورتين قياس كمية الغبار في المتر المربع، حيث كان المشاركون في الدراسة يحللون العينات بشكل شهري من عشرة مواقع لأخذ العينات؛ وزعت حول مصنع الإسمنت. ونبه المتحدث أن الدراسة أنجزت انطلاقا من ملاحظة انتشار الغبار في منازل السكان بمنطقة ديدوش مراد، «حتى لو كانت المنازل مغلقة»، مثلما قال، منبها أن البروتوكول العلمي نفسه طبق بين سنتي 2017-2018، سواء في طريقة استخراج المعادن أو غيرها حتى تكون المقارنة دقيقة وموثوقة. ولفت المتحدث إلى أن عملية المقارنة أخذت بعين الاعتبار استبدال أداة ترشيح الغبار الكهربائية القديمة في مصنع الإسمنت بأداة ترشيح كيسية، بعدما «كان المُرشِّح الكهربائي غير فعال، وهو ما كان يُلاحظ على المصنع بمجرد المرور من المكان»، مثلما قال.
فتح الطريق السيار خفّض انبعاثات المركبات بديدوش مراد
ولاحظ الباحثون في الفترة السابقة لتثبيت المرشح الكيسي الجديد في المصنع أن الغبار الذي كان يترتب عن المصنع يتجه مباشرة إلى مدينة قسنطينة لكون المنطقة تتعرض بشكل أكبر للرياح الشمالية الغربية، حيث أكد البروفيسور علي خوجة أن المستشفى الجامعي ابن باديس كان أكثر موقع تعرضا لغبار المصنع. وشرح المصدر نفسه أن نتائج دراسة أجريت في سنة 2005 لقياس حجم الغبار في 3 مواقع بمدينة قسنطينة قد فاجأت الباحثين حينها، حيث قيس ترسب الغبار في كل من المستشفى الجامعي ابن باديس ومقر مديرية الصحة ونقطة الدوران «برازيليا» في حي عبد السلام دقسي الذي كان يعتقد بأنه الأكثر تلوثا بسبب الازدحام المروري وكثافة مرور الحافلات، إلا أنها توصلت إلى أن نسبة تلوث الهواء في موقع المستشفى الجامعي يبلغ ضعفين ونصف نسبة التلوث في «برازيليا».
ونبه المتحدث أيضا أن التراجع المسجل في انبعاثات العناصر الملوثة في هواء منطقة ديدوش مراد لا يعود إلى تحسين نظام ترشيح الغبار فحسب، ولكنه يتضمن عوامل أخرى، مثل امتصاص الطريق السيار لحركة المرور الكثيفة التي كانت مسجلة في الطريق الوطني رقم 3، بالإضافة إلى توقف وحدة حرق النفايات في 2007 ومصنع الزجاج الذي توقف في 2017 قبل انطلاق الحملة الثانية لجمع المعطيات. وذكر المتحدث أيضا تعميم البنزين بدون رصاص الذي اعتبره عاملا حاسما أيضا في تقلص نسبة الرصاص في الهواء، لكنه ذكر أيضا توسّع بلدية حامة بوزيان نحو الشمال على حساب الكثير من الأراضي التي كانت تستغل في الفلاحة، مشيرا إلى أن النشاط الفلاحي مصدر لتلوث الهواء أيضا، خصوصا الكوبالت والكادميوم المستعملان بكثرة في الأسمدة والمبيدات.
ويدعم ملخص الدراسة المنشور على منصة «ساينس دايركت» تصريحات الباحث لنا، حيث يربط في الجزء المخصص للاستنتاجات بين مصادر التلوث المسجلة سابقا والمعادن الثقيلة المعنية بكل مصدر. وقد اعتبرت الدراسة أن تراجع الرصاص يعكس الاتجاهات العالمية بعد التخلص التدريجي من البنزين الذي يحتوي على الرصاص، بينما تُعزى انخفاضات الكوبالت والكادميوم إلى تراجع الانبعاثات الصناعية والزراعية، كما تتوافق انخفاضات الغبار مع تحسين الترشيح في مصنع الإسمنت.
ورجح المتحدث أن نوعية الهواء بمحيط المستشفى الجامعي ابن باديس أيضا تكون قد تحسنت بعد تغيير مرشح الغبار في مصنع الإسمنت، الذي كان يمثل ما قبل 2011 مصدر تلوث الهواء في المكان بحسب الدراسة التي أجريت في 2005. وأضاف محدثنا أن الدراسة الخاصة بمنطقة ديدوش مراد اعتمدت على منهجية إحصائية لتثبت أن التراجع في تركز الغبار والمعادن الثقيلة في الهواء لم يحدث صدفة، وإنما يعود إلى التدخل على مستوى البنية التحتية من خلال إنجاز الطريق السيار الذي أوضح بأن الانبعاث المترتب عن المركبات فيه لا يؤثر على التجمعات السكنية بسبب وقوعه في الجهة الشرقية من ديدوش مراد، بعيدا عن مسار الرياح السائدة القادمة من الشمال والشمال الغربي. ويمكن أن نستخلص من الدراسة، بحسب ما يؤكده البروفيسور علي خوجة، أن تحسين جودة الهواء قابل للتجسيد من خلال التعامل مع مصادر التلوث.
وأكد البروفيسور علي خوجة أن هذه الدراسة فريدة من نوعها على المستوى الإفريقي والوطني، حيث شرح لنا أن الدراسات المماثلة لا تمتد على مدة طويلة تصل إلى 15 سنة، مشيرا إلى أنه مشروع طويل المدى، فيما أوضح ردا على سؤالنا حول نشر نتائج التحليل المنجز بين سنتي 2002 و2003 من قبل، بالتأكيد على أن جزءا منها نشر في ورقة علمية عام 2007 بناء على المعطيات التي جمعت من موقع واحد من بين المواقع العشرة المعنية، لافتا إلا أنهم ثبتوا جهازا لاقتطاع الهواء المحيط Ambient Air إلى جانب مقياس المعادن الثقيلة في الموقع المعني، مشيرا إلى أن هذه الدراسة سمحت بتحديد كمية الغبار الذي يمتصه الإنسان عبر الجلد والرئتين والجهاز الهضمي لدى البالغين والأطفال.
دراسة بجامعة قسنطينة 1 حول تأثير غبار الصحراء على الصحة
وأضاف المتحدث أن هذه التقنية مكملة لمقياس المعادن الثقيلة والغبار في الهواء، حيث أوضح أن امتصاص الغبار الملوث من خلال الجهاز الهضمي يعتبر الأخطر على صحة الإنسان، إذ تنتقل المعادن الثقيلة إلى الجسم ما قد يسبب أضرارا خطيرة مثل الإصابة بالسرطان نتيجة التعرض لبعض المعادن الثقيلة، على غرار النيكل والكروم، فيما نبه بأن الدراسة التي أجريت في عام 2007 سمحت بالتوصل إلى أن ترسبات الغبار في تلك الفترة كانت تتجاوز معايير منظمة الصحة العالمية.
من جهة أخرى، أوضح البروفيسور علي خوجة أن باحثة في مرحلة إعداد الدكتوراه في فرقة تحليل نوعية الهواء تعمل على دراسة تأثير الغبار الصحراوي على الصحة العمومية بقسنطينة، حيث نبه بأنها قائمة على قياس الغبار انطلاقا من بناية قطب البحث في شعبة الرصاص بجامعة الإخوة منتوري، فيما تعمل هذه الدراسة على إيجاد الرابط الإحصائي بين ترسب غبار الصحراء مع حالات الأمراض الصدرية المسجلة بالمستشفى الجامعي ابن باديس من خلال أرشيف الحالات.
ويذكر أن الورقة العلمية الخاصة بجودة الهواء في منطقة ديدوش مراد أنجزت من قبل البروفيسور حسين علي خوجة من فرقة تحليل نوعية الهواء بجامعة الإخوة منتوري والدكتور العمري نعيجة من مركز البحث في العلوم الصيدلانية بقسنطينة والدكتور أحمد طروش من جامعة عباس لغرور بخنشلة والباحث هوانغ تشونغ وي من المختبر الرئيسي لتغير المناخ في المناطق شبه القاحلة التابع لوزارة التربية والتعليم، بكلية علوم الغلاف الجوي بجامعة لانتشو في الصين والدكتور مختار بوزيان من كلية التكنولوجيا بجامعة محمد بوضياف بولاية مسيلة.
س.ح