عبّر مسؤولون سياسيون وعسكريون في منظمة حلف شمال الأطلسي «ناتو» عن رغبة كبيرة لدى الحلف لتعزيز الشراكة والتعاون مع الجزائر في مجال الحوار السياسي ومجال عمليات حفظ الأمن، و مكافحة الإرهاب و الهجرة غير الشرعية في حوض المتوسط، وكذلك في مجال البحث العلمي . وأقر هؤلاء بالخطأ الذي ارتكبته المنظمة عند تدخلها عسكريا في ليبيا للإطاحة بالزعيم الراحل معمر القذافي قبل خمس سنوات، واعتبروا ذلك درسا مهما للحلف.
مبعوث النصر إلى بروكسيل : إلياس بوملطة
ووصف هؤلاء في لقاء جمعهم على مدي يومين بصحفيين وأساتذة و أكاديميين جزائريين بمقر «الناتو» ببروكسيل الجزائر «بالشريك النشط»، و قالوا أنهم ينتظرون منها مزيدا من العمل و المقترحات في إطار الحوار المتوسطي، و هم على استعداد للسماع لآرائها في هذا المجال، بل أن هناك منهم من اقترح تعيين مبعوث خاص للناتو إلى دول الضفة الجنوبية للمتوسط، وضرورة أخذ الحوار السياسي مع بلدان هذه الجهة بجدية أكبر، ووضع استراتيجية خاصة للحوار والتعاون مع دول الجنوب، وهي المهمة التي ستتكفل بها هياكل الحلف مستقبلا.
مساع لتلميع صورة الحلف
لكن استقبال مسؤولي الناتو لوفد إعلامي و جامعي جزائري في مقره بالعاصمة البلجيكية كان الهدف الأساسي منه تحسين وتلميع صورة «الناتو» لدى الرأي العام الجزائري، بعد الكارثة التي ارتكبها في ليبيا والتي اعترف كثير من المسؤولين فيه بذلك بشكل صريح.
و بدون لف ولا دوران قال الناطق الرسمي للحلف ديلان وايت في حصة جمعته بالوفد الجزائري أن ما يقوم به رفقة فريقه الإعلامي المكون من 30 شخصا في مكتب الأمين العام للحلف ليس من أجل الرد على ما يكتب عن المنظمة يوميا فقط، لكن من أجل نشر الرؤية الصحيحة لما يقوم به هذا الأخير-على حد تعبيره.
و للوقوف على مدى الأهمية التي يوليها الحلف لصورته يضيف المتحدث أنه وفريقه يراقبون كل ما يقال ويكتب على الناتو في وسائل الإعلام العالمية، وتحدث عن التعامل مع 2000 طلب للاستفسار من جهات إعلامية مختلفة، ونظم 200 مقابلة صحفية واستمع وفريقه إلى أكثر من 50 ساعة تسجيل، وهذا خلال قمة قادة الحلف في وارسو في جويلية الماضي، فضلا عن رعاية صفحة الناتو على الأنترنيت ووضع موظف لمراقبة كل ما يكتب على مدار الـ 24 ساعة، والرد عليها وتحليلها، و قال أن الناتو لديه القدرة على إجراء المراقبة بكل اللغات التي تتكلم بها الدول الأعضاء، وتلك التي تنطق بها الدول الشريكة.
وتحدث الناطق الرسمي للناتو في هذا السياق أيضا عن 300 شخص تدفع لهم أجورا ليكتبوا أشياء غير صحيحة عن الناتو -حسبه، ويركز على الدعاية المتأتية من روسيا على حد قوله، لكنه يقر بأن العالم يتغير، ولذلك على الناتو أن يتحاور ويتأقلم مع الظرف الجديد.
و اعترف مسؤول آخر في الحلف بأن هذا الأخير يواجه اليوم مشكل صورة- أي صورة الحلف لدى الرأي العام العالمي وبخاصة لدى الرأي العام في الضفة الجنوبية للمتوسط، ويقول « هناك سوء فهم وصورة سلبية عن الناتو»، ومن هذا المنطلق أراد مسؤولو الحلف السماع بشكل أكثر ومستمر للآراء التي تأتي من دول جنوب المتوسط، وبخاصة من الجزائر باعتبارها شريكا نشطا في إطار الحوار المتوسطي، وكذا بالنظر لموقعها وثقلها الإقليمي، وهم في هذا الجانب يلحون على التفرقة بين الناتو كمنظمة وتصرفات أعضائه الفردية، في إشارة إلى غزو العراق والتدخل في أفغانستان وغيرها، الشيء الذي حاول بعض المسؤولين إيجاد تبرير له.
أخطأنا في ليبيا والجزائر كانت على حق
وقد فرضت الأزمة الليبية نفسها بقوة في اللقاءات التي جمعت الوفد الجزائري بمسؤولين من الناتو، السياسيين منهم والعسكريين، واعترف هؤلاء صراحة بالخطأ الذي ارتكبه الناتو هناك، رغم محاولة تبرير التدخل العسكري من قبل البعض منهم بحجة أنهم حصلوا على شرعية إقليمية من الجامعة العربية وغيرها، وكذا محاولتهم التركيز على أن ما يحدث في ليبيا مسؤولية المجتمع الدولي ككل.
« هذا درس لنا.. ولابد من حوار طويل معكم لمعرفة رؤيتكم حول المنطقة» بهذه العبارة الصريحة عبر مسؤول سياسي في الحلف عن الكارثة التي خلفها التدخل العسكري للناتو في ليبيا سنة 2011، و أضاف في هذا السياق يقول «لابد لنا أن نتشاور مع شركائنا قبل أي عمل»، و قال أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي هو من أطلق الحملة، و الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة لم تكونان متحمستان لها.
و أضاف أن الراحل معمر القذافي «كان اسمنتا بالنسبة لليبيا في مجال ضمان أمن حدودها وتحقيق التوازن بين مكونات مجتمعها»، وكمثال عن الأخطاء التي يرتكبها الناتو قال ذات المتحدث -الذي لم يرغب في ذكر اسمه لأن النظام الداخلي للمنظمة لا يسمح لأحد بالتصريح إلا للناطق الرسمي والأمين العام أو من يفوضه هذا الأخير- أن «الناتو أطلق حملة على أفغانستان ولم يكن يعرف شيئا عن المكونات الإثنية لهذا البلد».
و يعترف مسؤولو الناتو بأن الجزائر كانت على حق عندما حذرت من التدخل العسكري في ليبيا و بأنهم لم يقرأوا جيدا ما كانت تقوله الجزائر في ذلك الوقت، واليوم يقفون على وضع يصفونه بالكارثي في هذا البلد، ويقولون بأن العالم تخلى عن الشعب الليبي ولم يقدم له المساعدة اللازمة.
لكن الاعتراف بالخطأ غير كافٍ لأن العملية قد تتكرر مستقبلا في أي بلد آخر، لذلك طرح أعضاء الوفد الجزائري على مسؤولي الناتو ما إذا كان بإمكان هذا الأخير التكيف مع المعطيات العالمية الجديدة، و إجراء تعديل في الميكانيزمات والآليات التي تحكم اتخاذ القرار داخل هياكله وبين بلدانه الـ 28 بحيث يعتمد في المستقبل آلية التشاور مع الدول الشريكة، أو إشراكها أيضا في اتخاذ أي قرار، خاصة إذا كان قرارا خطيرا مثل التدخل العسكري، لتجنب حدوث كوارث في المستقبل، وكذا عدم اللجوء إلى دول الجنوب في وقت الشدة فقط، وتوسيع مجالات التعاون والشراكة إلى الجانب الاقتصادي وغيره.
لكن إجابات مسؤولي الحلف لم تكن إيجابية، وقالوا أن هذا الأخير يملك في الوقت الحالي آليات لاتخاذ القرار ولا يمكن، لأي قرار أن يعتمد ما لن يوافق عليه كل الأعضاء الـ 28 ، مستبعدين بشكل ضمني إشراك شركائهم خارج المنظمة في اتخاذ القرار، وهو لا يتدخل في الجانب الاقتصادي.
وعن تعاملهم في الوقت الحاضر مع الأزمة الليبية يقول ذات المصدر أن «ما يحدث هناك أمر معقد» لكن يجب مساعدة ليبيا، والحلف يتعامل فقط مع الطلبات التي تأتي من الحكومة الليبية في مجال تعزيز قدرات قوات الأمن الليبية وتدريبها فقط، وبالنسبة لسوريا يوضح أن الناتو يتابع عن كثب ما يحدث هناك، لكن ليس له أي وجود في هذا البلد، وذلك لا يعني حسبه عدم محاربة التنظيم الإرهابي «داعش» بل أن الحلف يحارب هذا الأخير في العراق وله دور في محاربته في هذا البلد، و أن كل أعضاء الحلف و افقوا على دور له في العراق، ويخلص إلى أنه ليس من السهل إعطاء صورة إيجابية عن أي عمل عسكري يقوم به الناتو، لذلك فإن أمينه العام وكل المسؤولين يضعون أنفسهم تحت تصرف وسائل الإعلام.
وعن رد فعل الناتو عما يحدث في البلدان العربية منذ سنوات أو ما يسمى بالربيع العربي، أوضح مسؤول في حلف الناتو، أن هذا الأخير يتابع ما يحدث في هذه البلدان دون التدخل في شؤونها الداخلية، وهو كما قال مبدأ يطبق على الدول الأعضاء وسواها، مضيفا أن «الناتو يحاول فهم ما يحدث في الدول العربية، وقد قورن ذلك بما حدث قبل عقود في دول أوربا الشرقية والوسطى لكن سرعان ما استنتجنا انه لم يكن كذلك»، وهم اليوم ينظرون إلى ما يحدث في كل بلد على حدا، لأن لكل بلد مميزات خاصة به.
الجزائر شريك مهم في حوض المتوسط
لكن ماذا يريد الناتو صراحة من الجزائر؟ يصف مسؤولوه الجزائر «بالشريك النشط» في إطار الحوار المتوسطي سياسيا من خلال مشاركتها في اللقاءات الدورية التي تقام بين
مختلف ممثلي الحكومة وممثلي الوزارات والقطاعات المعنية بالتعاون، وكذا بالنسبة للحوار الثنائي على مستوى السفراء، كما للجزائر علاقات على مستوى الخبراء في القطاعات التي يقدمها الحلف على مستوى البرامج الفردية، وفي ميدان الدفاع السيبراني والتعاون العسكري، وتسيير الأزمات والكوارث الطبيعية، والأمن الطاقوي، ومحاربة الإرهاب، والبيئة، وكذا بالنظر للزيارات التي يقوم بها المسؤولون الكبار للناتو إلى الجزائر، ومشاركة الجزائر في اجتماعات رؤساء أركان الحلف والدول الشريكة.
الجزائر التي انضمت بصفة رسمية للحوار المتوسطي في سنة 2000 ينظر لها أعضاء الناتو على أنها شريك مهم بالنظر لمكانتها في حوض المتوسط، و يكشف مسؤول العمليات العسكرية في الحلف أن الجزائر شاركت بين سنتي 2015 و 2016 في 48 نشاطا عسكريا للناتو في ميدان الدفاع السيبراني وغيرها، وقد تقدمت باقتراحات في مجال مكافحة الإرهاب، و في مجال الطب العسكري، فضلا عن تبادل الزيارات بين الطرفين، وفي 17 أكتوبر الماضي فقط رست في ميناء الجزائر فرقاطة تابعة للناتو مضادة للألغام، وقد تم تنظيم تمرين مع البحرية الجزائرية.
في خطابهم السياسي يقول مسؤولو الناتو أن التهديدات التي تحدق بالجزائر هي أيضا تهديدات لهم، ومشاكلهم هي أيضا مشاكل الجزائريين والتونسيين والمغاربة، وللتغلب عليها يجب إقامة «تعاون وثيق» و أي «تعاون بين الناتو والأمم المتحدة لن يؤدي إلى أي نتيجة دون شركاء المتوسط لأنهم الأقرب إلى مصادر انشغالاتهم الأساسية ولأنهم أول الضحايا، و هم أيضا المفاتيح التي تنقذنا».
لكن بالمقابل يعترف مسؤولو الناتو بأن كل هذا لن يؤدي إلى النتيجة المرجوة ما لم يكن مبنيا على الثقة، وينصحون الجزائر بأن تكون نشطة بقوة في إطار هذا التقارب مع الحلف"..كي تحصلوا على وسائل الناتو عليكم أن تطرقوا بقوة على أبوابنا" يقول مسؤول سياسي في بروكسيل، «يجب أن تكون الجزائر نشطة بقوة في اتجاه تعميق التعاون مع الناتو، والمشاكل الثنائية لا يمكن أن تمنعنا من إقامة تعاون استراتيجي براغماتي» يضيف ذات المتحدث.
ومن هذا المنطلق يواصل القول» لابد أن نأخذ بعين الاعتبار آراء دول المنطقة، يجب أن نكون ناطقين باسمكم و أكثر نشاطا وقناعة، يجب أن نكون محاميكم هنا، لكن لا يمكن أن نقوم بذلك دون عمل نشط منكم»، ويشدد على أن آراء دول الجنوب مهمة جدا وأساسية، وأنهم بحاجة اليوم بشكل استعجالي لرؤية استراتيجية لمشاكل الجنوب، و يعترف بأنه لا توجد استراتيجية خاصة بالتعاون مع دول الجنوب، والحلف لا يخصص سوى 01 بالمائة فقط من ميزانيته للشراكة، و ما ينفقه الناتو من اجل أوكرانيا أكثر مما ينفق على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا برمتها.
وهو لذلك يدعو إلى تسمية مبعوث خاص للناتو إلى المنطقة و أخذ الحوار السياسي مع دول الجنوب بجدية أكبر، وهذه الإستراتيجية هي التي سيعمل الناتو عليها من هنا إلى القمة المقبلة، مبرزين أن الشراكة عملية مستمرة.
ويقترح الحلف أيضا تعاونا مهما في الجانب العلمي، والأبحاث، مثل التربصات والأبحاث المتقدمة، وهو ما ناقشه أساتذة جامعيون من جامعات سطيف، بسكرة وتلمسان كانوا ضمن الوفد، الذين تساءلوا عن كيفية الاستفادة من الدعم الذي يقدمه الحلف في مجال البحث العلمي، وطلبوا تفسيرات في هذا الجانب.