الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

عائلات إفريقية ممّزقة بين الخوف من الترحيل و الحنين إلى الوطن


تحول المجمع الثقافي القديم بوسط مدينة الخروب بقسنطينة، مطلع الأسبوع الجاري إلى ملجأ لـ 16 عائلة إفريقية نازحة من النيجر و نيجيريا، حيث أعيدت تهيئته
 و تجهيزه بشبكتي الكهرباء و الغاز، ليأوي أسرا شردها الجوع، و دفعت بها الحرب إلى مغادرة ديارها بطريقة غير شرعية، و اللجوء لشوارع مدن جزائرية، فافترشوا أرصفتها لأزيد من ستة أشهر ،قبل أن يتم تحويلهم نحو مركز الرعاية الاجتماعية،استعداد لترحيلهم نهائيا نحو بلدانهم الأصلية.
 تنقلنا إلى المركز الذي ظل مهجورا لسنوات، قبل أن تقرر لجنة الخدمات الاجتماعية لبلدية الخروب إعادة استغلاله لإيواء النازحين، هناك وقفنا على واقع مرير لعائلات بأكملها، مكونة من  حوالي 65 فردا،من بينهم أطفال و نساء يتقاسمون غرفتين منفصلتين، فيما يتشارك العزاب في غرفتين ، و قد تمت تهيئتها و ربطها بشبكتي الغاز و الكهرباء، و جهزت ببعض الأفرشة.
 كان أول ما شدنا و نحن ننزل السلالم لأول مرة ،باتجاه الغرف أين تقيم العائلات، هو غياب شبه تام للنازحين الأفارقة، سألنا حارس البوابة فأخبرنا بأن الجميع في الخارج، لا يوجد سوى شخصين بالمكان، مهمتهما حراسته إلى غاية عودة الآخرين، واصلنا السير نزولا باتجاه غرف النوم ،و  كان المنظر في الخارج مثيرا للاشمئزاز ، كلاب و قاذورات، ملابس بالية تغطي الجدران و النوافذ، و روائح كريهة تختلط برائحة المطر.
بمجرد أن  دفعنا باب الغرفة رقم واحد، فوجئنا بوجود حوالي 8 خيام كشفية، موزعة على امتداد المكان الذي يبلغ طوله حوالي 8 أمتار، و عرضه في حدود 4 أمتار تقريبا،و كل خيمة مخصصة لأسرة مكونة من أربعة أفراد، « راشدين اثنين ، و طفلين» ، يتقاسمونها ليلا.  كانت موزعة بصورة منظمة وسط كل تلك الفوضى التي تغمر المكان، المجهز بموقد للطبخ و بعض الأواني و القدور تعج ببقايا، معجنات و بقوليات ، إضافة إلى جهاز تدفئة كهربائي صغير.

عائلات خروبية آوت مرشدين أفارقة في بيوتها

 حسب ما أخبرنا أحدهم، فإن هناك عائلات من الخروب،كانت تصر على استقبال بعض الأفارقة في بيوتها خلال فترة الاضطرابات الجوية الأخيرة، كما أن هنالك أطباء تطوعوا بترك أرقام هواتفهم، لدى البعض للاتصال بهم في حال إصابة أحدهم بمرض.
كما أكد لنا ، محدثنا،  بأنه و من معه و منذ تواجدهم بقسنطينة، و قبل ذلك بمدن أخرى، لم يتعرضوا لأية مضايقات، أو اعتداءات رغم مبيتهم في الشارع، كما لم يتوقف المحسنون عن التبرع لهم بالطعام و اللباس بشكل يومي.
وقد لا حظنا بأن بعضهم يلجأ إلى التخلص من بعض قطع الملابس التي لا تتناسب مع مقاساتهم بشكل عشوائي رغم حالتها الجيدة.
أما عن مصدر خيامهم، فأوضح، بأنهم يحصلون عليها مجانا من متبرعين، أو يشترونها من أشخاص يعرضونها عليهم بأسعار تتراوح بين3000 و 5000دج حسب حجمها.

رحلة الألف ميل تنتهي بهم في الشارع

داخل إحدى الخيام التقينا بـحسين مادوغو 43 سنة، وصل إلى الخروب قبل ثلاثة أشهر، قادما من بلدة « كيرغي»، جنوب النيجر، استقبلنا بابتسامة تحمل الكثير من الحيرة، فقد تفاجأ بزيارتنا و رفض بلكنة فرنسية، السماح لنا بالبقاء في الغرفة، شرحنا له بأننا نحاول فقط معرفة قصته، و ما إذا كان يجد هذا الملجأ مريحا له و لعائلته، فاختصر إجابته بأنه أفضل من برد الشارع، خصوصا وأن الرعاية الصحية مضمونة ، و الوجبات الساخنة متوفرة باستمرار.
أوضح لنا بأنه كان يعيش رفقة عائلته المكونة من أربعة أفراد، بالإضافة إلى 15 عائلة أخرى،  داخل هيكل بناية قيد الإنشاء ،قرب محطة المسافرين بالخروب، مشيرا إلى أن من كانوا يشاركونه المكان، و كانوا يبيتون على مدخل المساجد، أغلبهم من نيجيريا فروا إلى الجزائر ،هربا من بطش مجموعة «بوكو حرام»، معلقا : « مساكين هناك في نيجيريا ،لم يكونوا يجدون مكانا آمنا ينصبون فيه خيامهم».
خلال سرد حسين لقصته، عاد نازحون أفارقة آخرون إلى المركز، بعضهم أفراد من عائلته و آخرون يقاسمونه السكن و المعاناة. موسى و زينات، زوجان من نيجيريا، أما آدم و يعقوب فمن النيجر.
 كان بعضهم يحمل أكياسا تضم خبزا طازجا، و علب بسكويت، و قد أوضحوا لنا بأنهم عادوا من أجل تناول وجبة الغداء و أداء صلاة الظهر،و كانوا  يتحدثون بلهجتهم الصحراوية « الهاوصة» ، إضافة إلى الفرنسية بطلاقة، و العربية بشكل متقطع، فحسب موسى، أغلبية الأفارقة تلقوا تعليمهم بالفرنسية و العربية  في مدارس بلدانهم.
انضموا إلينا ، وواصل  حسين حكايته:» قبل حوالي ستة أشهر ، قررت الهجرة  إلى الجزائر، كما فعل كثيرون من قريتي، في النهاية لم تعد الزراعة تسد جوعنا، ركبت رفقة زوجتي و أطفالي الثلاثة،في شاحنة صغيرة فأوصلتنا إلى الحدود، مكثنا هناك قرابة شهر متخفين ،هربا من سلطات بلدنا، لأن هجرتنا غير شرعية و مصيرنا السجن في حال ضبطنا خلال محاولة عبور الحدود». يتوقف عن الكلام لبرهة من الزمن ثم يضيف: «الكثيرون حاولوا الهجرة مثلنا ،و هم الآن في السجون، و قد أصبح مؤخرا  دخول الجزائر مستحيلا ،بعدما شددت السلطات الرقابة على الحدود، فمنذ حوالي شهرين تقريبا لم يتمكن أي نازح من دخول الجزائر.»
 و يستطرد قائلا « بعد حوالي شهر تمكننا من دخول عين قزام، مكثنا هناك شهرين قبل أن أجد صاحب شاحنة ،يقبل أن ينقلنا نحو تمنراست مجانا، فلم أكن أملك نقودا ،بعدما أنفقت ما أملكه طيلة تواجدي بعين قزام، علما أن أجرة النقل التي يفرضها أصحاب الشحنات في الصحراء تتراوح بين 4000 إلى 6000دج. وصلنا تمنراست بعد رحلة شاقة  تحت أشعة الشمس الحارقة، و فوق حمولة الإسمنت المعبأة على ظهر الشاحنة.و بعد وصولنا توجهنا إلى مكتب قنصلية النيجر هناك، و منحتنا السلطات بطاقات هوية تسمح لنا بالتنقل و العمل في الجزائر، غير أنني عانيت هناك أنا و أسرتي لنأكل و نعيش،و اضطررنا للتسول لكن الأمر كان صعبا، فعدد الأفارقة في تمنراست كبير جدا. بعدها قررنا الانتقال إلى غرداية، مكثنا بها أياما، غير أن الأوضاع الأمنية هناك ،أجبرتنا على مغادرتها باتجاه العاصمة ثم قالمة ، فقسنطينة وصولا إلى الخروب». 

توزيع جغرافي، امتهان للتسول و دوام عن طريق المناوبة  

سألنا حسين و معه، عن سبب اختيارهم لقسنطينة، و تحديدا الخروب ، و فاجأنا جوابهم، فقد رد موسى بأنهم يختارون المدينة التي يتواجد بها أفراد من قراهم الأصلية، أي معارف لهم.
محدثنا أسر لنا بأنهم عند وصولهم لعين قزام، يتصلون بأشخاص يعرفونهم هناك، و هؤلاء الأشخاص يوجهونهم بدورهم إلى أماكن تواجد أبناء بلدتهم،و هكذا يتم التنقل، فحيث يوجد معارف ،يوجد أمان أكثر، وفرصة أكبر للعمل، كما أكد حسين.
استفسرنا منهم، عن مدى صحة ما يروج عن وجود عصابات، أو مافيا مسؤولة عن تهريبهم نحو الجزائر، فأكدوا لنا بأن الأمر غير صحيح، بل هي هجرة غير شرعية، هناك من يحالفه الحظ ،و يصل إلى بر الأمان ،و هناك من ينتهي به الأمر في السجن أو ميتا.
عن سبيلهم للحصول على لقمة العيش، فقد شرح لنا محدثونا، بأنهم يقسمون المهام ، حسب قدرة كل فرد، فالنساء و الأطفال يمتهنون التسول، فيما يستعين الرجال ببطاقات الهوية التي تمنحها لهم القنصلية بتمنراست، للعمل في ورشات البناء بالمدينة الجديدة علي منجلي، مقابل أجر يومي يتراوح بين 1000 إلى 7000دج، حسب الورشة، و نوعية العمل.
كما أن توقيت الدوام يحدد بدوره حسب نظام خاص، فالجميع ينطلق عند الساعة الثامنة صباحا، باتجاه الشوارع،و المساجد، و محطات الحافلات، و نقاط أخرى للعمل، أو للتسول، ليبقى شخصان في الملجأ من أجل الحراسة، يخرجان بدورهما للعمل في اليوم الموالي، و يتناوب آخرون على الحراسة.
حاولنا إقحام زينات  زوجة  موسى في الحديث، حيث أنها كانت تلف رضيعها لتربطه بشكل لافت ،و تحمله على ظهرها بواسطة خرقة بالية، سألناها عن وضعها ووضع أطفالها، و إذا كانت تشعر براحة أكبر داخل المركز، لكنها رفضت الحديث إلينا، و اكتفت بالقول بأن كبير العائلة هو فقط من يتحدث، في إشارة إلى زوجها.

يفكرون في العودة وحدهم إلى النيجر

تطرقنا خلال حديثنا معهم إلى قرار ترحيلهم نحو بلدانهم الأصلية، نزولا عند طلب السلطات النيجيرية، فاكتشفنا بأن بعضهم غير مطلع على هذا القرار، بالمقابل أخبرنا آخرون بأنهم كانوا يفكرون في العودة وحدهم إلى النيجر، مؤكدين بأن عائلات كثيرة رحلت قبل شهرين إلى موطنها، بعدما عجزت عن تحسين و ضعها ،و تحمل العيش في الشارع لمدة أطول.
حسين إغرورقت عيناه بالدموع، حين سألناه عن رأيه ،حيث أخبرنا بأنه لا يملك الخيار فشخص في مثل وضعه مشيرا إلى الخيمة التي يقيم بها و هندامه، لا يحق له الاعتراض على الرحيل، إذا ما أمره عون أمن بحزم حقائبه للمغادرة.
 حاول الاستفسار منا عن كيفية الترحيل و تاريخيه، ثم انتهى إلى القول، بأنه سيغادر بمفرده بعد شهر من الآن،إذا  تحسنت أوضاعه، لكنه سيعود مجددا، إلى تمنراست، المدينة التي أحبها كثيرا، كما قال ، فهناك الكثير من الأفارقة من النيجر ،و  مالي و نيجيريا، و دول أخرى، يستأجرون منازل لائقة ، و يعيشون فيها بكرامة ،و  يمارسون التجارة و نشاطات أخرى دون حرج، زيادة على ذلك، فإن عادات و ثقافة سكان  تمنراست مشابهة جدا لثقافة بلاده بفعل التقارب الجغرافي.
أما النازحون الأفارقة الآخرون الذين حضروا إلى تلك  الغرفة و هم  موسى ،و يعقوب و آدم ،فاكتفوا بالابتسام تارة و الضحك تارة أخرى ،طيلة تواجدنا بالمركز، ثم أكدوا لنا بأنهم يحنون إلى قراهم و عائلاتهم ، لكنهم يخشون العودة ،خصوصا إلى نيجيريا ،بسبب غياب الأمن، بعدما ألفوا الاستقرار في الجزائر ،حتى و إن كان الشارع مسكنهم الوحيد.
تركنا المركز و انطلقنا بحثا عن باقي النازحين، فكانت وجهتنا الثانية محطة الحافلات، هناك التقينا بسبعة أطفال يتسولون، كانوا يدقون أبواب السيارات و يتشبثون بالنوافذ، و يلحون على أصحابها لمساعدتهم، غير آبهين بخطر الطريق.
واصلنا سيرنا و على بعد أمتار قليلة، توقفنا أمام هيكل البناية التي كانت تأويهم  قبل توجيههم نحو المركز، هناك كان المشهد كارثيا ملابس رثة و متسخة، بقايا طعام ، أفرشة و بطانيات متناثرة ،هنا و هناك، تركوها بعد مغادرتهم المكان.
كما التقينا هناك بزوجين من النيجر، حاولنا التقرب منهما ،لنسأل عن سبب عودتهما إلى تلك البناية لكنهما رفضا الحديث إلينا، و انسحبا بسرعة.
مصالح بلدية الخروب، الجهة المشرفة على عملية إيواء النازحين الأفارقة، أوضحت بأن المبادرة جاءت تزامنا مع بداية موجة التقلبات الجوية، حيث تم الاتفاق على إعادة استغلال المركز المهجور، من أجل توفير  ملجأ دافئ و آمن لهؤلاء الأشخاص، خصوصا وأن قرابة نصفهم هم أطفال و نساء، وذلك إلى غاية تحديد التاريخ الرسمي لترحيلهم نحو بلدانهم، الخطوة التي ستكون مسبوقة، قبل 48 ساعة على الأقل، بنقلهم نحو مركز الإيواء المؤقت بدار الطفولة المسعفة بحي الزيادية بقسنطينة.
أكدت رئيسة مصلحة الشؤون الاجتماعية ببلدية الخروب، بأن المركز قد هيأ في ظرف وجيز، لاستيعاب حوالي 100 نازح ،كانوا يحتمون من البرد داخل بناية قيد الانجاز ،وسط مدينة الخروب، كما تم التنسيق مع مصالح الحماية المدنية و الهلال الأحمر الجزائري بغرض التكفل بهم بشكل تام، و ضمان متابعة صحية مستمرة  لهم ،بداية بتلقيح الأطفال و التأكد من سلامتهم من أي أمراض محتملة.
ذات المسؤولة ناشدت المحسنين التبرع بالألبسة الشتوية لهؤلاء النازحين، خصوصا فئة الأطفال ،كونهم يعدون أكثر عرضة للإصابة بالمرض.
استطلاع: نور الهدى طابي * تصوير: الشريف قليب

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com