لقد منَّ الله على المسار الإنساني منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الأرض وما عليها بكوكبة كبيرة جدا من الأعلام المتفردين عن أقرانهم في شتى المعارف والخصال؛ تارةً بأمر من الله مباشر وأخرى بتوفيق وبسداد منه غير مباشر، وكما قرأنا وعرفنا أنّ كوكبة كبيرة جدا من هذه الأعلام كانت قد اختصت في عدد محدود من هذه الخصال ما عدا الأنبياء والرُسل عليهم الصلاة والسلام. كما تعدّدت الفضاءات التي قدر الله أن تُولد وتنشأ وتترعرع فيها مثل هذه الأعلام.
الدكتور محمّد بشير بويجرة
وتشاء قدرة الله وفضله أن تكون الجزائر من ضمن هذه الفضاءات التي عرفت كثيرا من هذه الأعلام عبر تاريخها التليد والمجيد، وقد تفضل الله بكرمه في أن ينبت فيها عَلمًا قلّ نظيره في ما برز فيه من البشر العاديين، هذا العَلم هو «الأمير عبد القادر» الّذي سلخت من عمري في مدارسة مسارات حياته والتمعن في منجزاته ما يزيد عن عشرين سنة وما وفقت في وضع لقب يليق بِما أنجزه وبِما زين به مساره في شتّى الحقول والمعارف.
واختصارا لبلوغ شأو ما ابتغيت افترضت مجموعة من الفرضيات اللقبية مثل: هل الأمير مقاوم؟ أو هل الأمير باني دولة جزائرية حديثة، أم هل الأمير شاعر فقط؟، أو هل الأمير صوفي؟ أو هل الأمير أديب؟ أو هل الأمير عسكري اِستراتيجي؟ أو هل الأمير دبلوماسي؟ أو هل الأمير إنساني؟ أو هل الأمير عالم في الطبيعيات؟ أو هل الأمير وهب نفسه لحقوق الإنسان سلوكًا وليس شِعارا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا تنتهي حين نتعمق في التقرب من مساراته المعيشية إن في ساحات الوغى أو في السجن، وإن في ما أنجزه من تصرفات وسلوكات حتّى مع الأعداء أو في ما تركه من منتوج أدبي وصوفي وشِعري.
ومِمّا يزيد ما ذكرت توهجًا وقوّةً وبروزا توقفنا، اِختصارا، على النقاط التالية: أوّلا: المنبت والتنشئة؛ لقد قدر أهل الاِختصاص، في دراستهم لأسباب تفوق عبقري ما عن أقرانه وفي بيئته، أنّها تعود إلى منبته وإلى البيئة التي ولد ونشأ وتربى فيها هذا العبقري، وقد أرجعت مجمل تلك الدراسات إلى أنّه بقدر ما يكون المنبت والبيئة حضريان وبقدر ما يتوفران عليه من شروط التحصيل العلمي وبِمَّا يتوفران عليه من مكونين ومن مدونات تتعلق بميدان العبقرية وبِما يغدقه القيمين على الشأن العام فيهما على العبقري منذ الولادة ومرورا بالشباب وإلى بقية المراحل من تكفل وعناية. وحين العودة إلى حال الأمير نجد خلاف ذلك كله، حيث وجدناه ولد ونشأ وتكوّن في البادية وفي الريف المعروفين بقلة مواردهما المعيشية وعلى صعوبة الحياة فيهما مِمَّا يجعل المولود والشاب بعيداً عن التحصيل العلمي وغريبًا عن التمرس في شؤون لا تتصل باِحتياجات يوميّاته.
ورغم كلّ ذلك نجد أنّ الأمير كان قد تفرد بعبقرية أدهشت العالم في مقاومته لأكبر قوّة عسكرية قَادَتَها متخرجون من أعلى المؤسسات ومن المدارس العسكرية الفرنسية، نعم أدهشهم وأفزعهم بجيشٍ كلّ أفراده من شباب البادية والأرياف أصبح بعضهم قادة في أقل مدة مُمكنة وبأسلحة تليدة ومهترئة، شباب عبثوا بشرف المؤسسات العسكرية الأكاديمية الباريسية.
وحين أصل إلى ذلك يبدو لي كأنّ المُنتصر هنا، زيادة على الأمير وجيشه الشاب، هو البادية والريف والعلوم الدينية وكلّ مكونات الهوية الجزائرية التي كانت فرنسا تذمها وتُقلل من شأنها، مُقابل شعارات المدنية والتحضر والتكنولوجيا التي كانت فرنسا والغرب يتبجح بخصالها.
ثانيًا: الموهبة، العزيمة والتفرد: حين نقول بأنّ البادية والريف ساهمتا في شحذ شخصية الأمير حين جعلاه شابًا يافعًا ومتميزاً منذ نعومة أظافره، فإنّ الضرورة الوجودية تقتضي أن نقر بأنّ هذا الفضاء كان بالضرورة يحتوي على شباب آخر غير الأمير يأكل ويشرب ويعيش بنفس الظروف التي يأتيها الأمير في مسرودات يوميّاته. وذلك ما يفيد بأنّ تفوق الأمير عن أقرانه كان راجعًا إلى موهبة وفطنة وهبهما الله له دون سواه، تلك المندوحات الوهبية ساعدته كثيراً على توظيف ما يعايشه لصالح رؤاه بقصد التغلب على مكرهات ما يُلاقيه في ما يبتغيه من سلوك ومن تصورات ومن مبادئ.
ويظهر كلّ ذلك، بدءً، في مقتضيات الإستراتيجية الحربية التي كان يضعها في محاربته للعدو، تلك الإستراتيجية التي أفزعت العدو وكلفته خسران مئات الآلاف من الجنود والمئات من الضباط السامين، زيادةً على أوسمة العار التي كانت تلحقه بعد كلّ هزيمة. وقد ذكرت المصادر التاريخية أنّ الأمير ما كان ليخسر المقاومة لولا الخيانات ولولا المُؤامرات التي أدت إلى سقوط «الزمالة» أوّلاً وإلى الوقوع أسيرا بعد حصاره بالجيش المغربي غربًا وبالجيوش الفرنسية شرقًا وشمالاً وجنوبًا أخيرا.
للفرنسيين؛ أيّهما أفضل الأمير حيًا أم ميتًا؟. يبدو لي أنّ عملية توقيف الأمير وتكبيله ثمّ ترحيله إلى سجن أمبواز، كانت تحت ضغط صراع نفسي مرير كان يُعاني منه الحُكام الفرنسيون وقادتهم مفاده؛ أنّهم كانوا يتمنون رؤية الأمير جثة هامدة مضرجة بالدماء في إحدى المعارك وانتهى أمره، وبذلك يُطوى ملفه نهائيًا، لكنّهم مع الأسف أنّ أملهم هذا لم يتحقّق مِمَّا جعل اِنتصارهم عليه يتحوّل إلى خزي وحزن مكبوتين، ومِمَّا يُؤكد، في تصوري، هذه الرغبة المكبوتة والمدسوسة في أذهان الفرنسيين إصرارهم على نقل الأمير إلى سجن «أمبواز» خلاف اِتفاقهم معه في معاهدة توقيف الحرب التي تنصّ على أن ينقل الأمير إلى الشرق العربي. وفي السجن يستطيع الأمير أن يتجلى في شخصية جديدة، وكأنّ هناك أمراً إلهيًا أو شيء ما قدر للأمير أن يُنقل إلى فرنسا وإلى سجن «أمبواز» كي يُلقي عنه لباس الحرب والمعارك والنِزال بالسلاح، ويتدثر بلباس المعرفة والحجاج والنقاش ونمذجة الإنسان السوي والراقي معرفيًا وحضاريًا لنتعرف على نوع آخر من النزال فرضه الأمير على فرنسا من داخل أسوار سجنها وفق الفواصل التالية: - تكثيف الزيارات وتعدّدها على الأمير داخل السجن، زيارات كان يقوم بها بعض رجال الأمن والإعلاميين والمفكرين ليحاوروه ويجادلونه في بعض القضايا بغية الكشف عن عُمق شخصيته ومخبآتها أوّلاً، ثمّ ثنيه وتشكيكه في مقاصده الدّينيّة الإسلامية حتّى يزعزعوا هويته ثانيًا، ولكنّهم كانوا يكتشفون في كلّ مرّة شخصية للأمير غير تلك الشخصية التي رسمها الرسميون الفرنسيون عنه.
- بروز الأمير الكاتب: تحت وطأة السجن وبوهج نيران البُعد عن الوطن وعن الأحباب قرر الأمير مواصلة رسالة المقاومة في شقها الثاني الّذي اِرتآه الأمير في التدوين وفي الكتابة وفي الحجاج ليتغير مجرى مساره من المقاومة بالسلاح إلى المقاومة بالقلم فكتب أجمل مدونتين هما «المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد»، و«ذكرى العاقل وتنبيه الغافل»، وهما المدونتان اللتان أبانتا عن شخصية جديدة للأمير لم تكن معروفة من قبل لدى الفرنسيين، حين كشف فيهما عن عُمق معارفه الدّينيّة والتاريخية والعلمية والأخلاقية والأدبية وعن منهج علمي ناصع البرهان في المجادلة وفي النقاش. - نقل الأمير إلى الشام: لقد كتبَ المؤرخون بأنّ «نابليون الثالث» قرر نقل الأمير إلى المشرق العربي، واعتبر الفرنسيون ذلك وفاء بالعهد وبالمعاهدة التي وقعتها فرنسا معه. لكنّي أرى بأنّ نابليون وزمرته العسكرية قد تنبهوا إلى الخطأ الّذي وقعوا فيه حين قربوا الأمير من الفرنسيين بوضعه في السجن، كما كبرت تمنياتهم حول لو كان الأمير قد قُتِل في إحدى المعارك لتستريح فرنسا منه نهائيًا. ومعالجة لهذا الخطأ أوهموا بأنّ فرنسا وفت بعهدها تُجاه الأمير بنقله إلى الشرق بنفس الأمل في أن يُقتل في طريقه إلى هذا الشرق، لأنّي الآن أتساءل: لماذا لم يرسل «نابليون» الأمير إلى الشرق بواسطة السُفن البحرية لأنّها كانت أأمن على ذلك العهد وأرسله عن طريق البر حتّى يقتله العثمانيون الأتراك الذين كانوا يكنون له حقداً دفينًا من عهد أبيه «الشيخ محي الدين». نعم ليقتله العثمانيون لرفع شِعار مُسلم يقتل مُسلمًا أمام العالم وتخرج فرنسا مُنتصرة ومستريحة نهائيًا من وجع الرأس الّذي سببه لها الأمير؛ عسكريًا أثناء مقاومته ومعرفيًا وإنسانيًا وعقائديًا أثناء سجنه.
- فتنة الشام الكُبرى: في كثير من الأحيان نجد أنفسنا عاجزين عن تفسير بعض الظواهر التي نُعايشها أو التي تقع ضمن منظور تجاربنا المادية الوجودية، وأجد ما وقع للأمير، بعد نقله إلى الشام، من نصاعة جديدة لشخصه ولعبقريته تدخل ضمن كلّ ذلك، لأنّني أتصوّر لو لم يُنف الأمير إلى الشام ولو لم تقع الفتنة الكُبرى في تلك الفترة بالذات التي نقل فيها الأمير؛ هل كان يتصل ذِكر الأمير بها؟، بدون شك لا، لأنّها ربّما كانت ستُذكر من ضمن الوقائع التّاريخيّة التي عرفتها منطقة الشام. لكن بِمَا أنّها وقعت والأمير هناك قد أعطت صورة أخرى لهذه الشخصية الفذّة وللتعريف بوجهٍ آخر لها ربّما كان سيبقى مخفيًا إلى الأبد. أجل الصورة التي رسخت شخصية الأمير رائدة لمجال التراحم والتوادّد بين بني البشر بغض الطرف عن اِنتمائاتهم العقائدية وعن روافدهم العرقية. ذلك الترسيخ الّذي أبطل مقولات الفرنسيين عن الأمير وسفهت أفكارهم ونظراتهم إليه.
- المهندس الفعلي لحفر قناة السويس: أكد غير ما باحث في مسار الأمير على أنّ الفضل في حفر قناة السويس يعود إلى الأمير حين طلب منه «ديلسبيس» المُبادر الأوّل بحفر هذه القناة، أن يتوسط له عند «نابليون الثالث» بالسماح له بتحقيق هذا الإنجاز بعد أن كان نابليون قد رفض طلبه بسبب ما أُشيع عن «ديلسبيس» بأنّه إنسان مختل عقليًا وغير سوي في أفكاره وفي رؤيته لما يتطلبه الواقع. وقد ذكر «برونو إتيان» بأنّ الأمير قد شرح لـ«نابليون» أهمية هذا الإنجاز على الاِقتصاد وعلى التجارة العالمية وكأنّه عالم إستراتيجي في الاِقتصاد العالمي.
- مزج النهج الصوفي بالممارسة اليوميّة: الكل يقر بأنّ موضوعة «التصوّف» ذات أهمية قصوى في الحضارة وفي الفكر الإسلاميين وبخاصة في الفضاء الجزائري، هذه الموضوعة التي كانت تعتبر زينة السلوك المُتزن الراغب في عفو الله وفي نيل رحماته بعيداً عن التلوث بمثبطات المعيش وبمكدرات الحياة، مِمَّا جعل الكثيرين من الخيرين الذين اِختاروا هذا النهج سبيلاً في يوميّاتهم يعتمدون التقية والعزلة عن المجتمع والاِبتعاد عن معلقات الحياة ومُتعها واللجوء إلى البوادي وإلى القفار وإلى الجبال لبناء أكواخ واكتساب الرزق البسيط وتوفير المُؤن المُتواضعة جداً بعيداً عن كلّ تعامل مع رعية القوم غير الورعين والمفتونين بمباهج الحياة.
ولكنّنا عندما نعرج على هذه الموضوعة عند الأمير نجده قد وضع الاِستثناء في هذه المسألة، بحيث لبس بردة التصوّف الأصيل المُقتبس من أستاذ هذا المنهج «محي الدين بن عربي» ودبجها بيواقيت الطريقة القادرية المشهود لها بالمكانة وبالمصداقية عبر ربوع كلّ الوطنين العربي والإسلامي، ناهيك عمّا كرعته من معين خصال الشعب الجزائري ومِمَّا وهبه الله لهذا الوطن العزيز من طبيعة إنسانيًا وجغرافيًا، حتّى بات النهج الصوفي على يديه وتحت مجهر سلوكاته وأخلاقه منهجًا نيراً ومفيداً وفعّالاً في تقريب الإنسان من ربه بفضل تلاقحه مع النبت الخيّر في مجتمعه. وقد تمثل كلّ ذلك لدى الأمير سلوكًا ومُمارسةً حتّى مع أعدائه عبر كلّ مساره وتدوينًا وإبداعًا في مدونة «المواقف».
- ضيف شرف حفل اِفتتاح قناة السويس: حقًا، يبدو لي أنّ الله جلّ وعلا وهب هذا الرجل مكارم كثيرة لا حصر لها ولا عد ولا حدود، نتيجة لمكانته العقائدية وبسبب تمكنه من آليات التمرس المعيشي وفق مقتضيات الحال وتحت واعية الإفراط في حب الإنسان الّذي كرمه الله على بقية خلقه. ولعلّ مساهمة الأمير في تحقيق وإنجاز حفر قناة «السويس» وحضوره ضيف شرف في اِفتتاحها يُعد أبلغ هذا الوهب في مرأى العالم وعلى مسامعه. ويبدو لي أنّ مثل كلّ ذلك يعطي صفعة قوية لكلّ مُبالغ في تعنته مثل فرنسا وغيرها مِمَن يفسدون في الأرض بغير وجه حق، لأنّي أجد العبرة في أنّ «الأمير ذلك النابت من البادية ومن الريف المُشبع بالهوية العربية الإسلامية، التي كانت محتقرة ومازالت من طرف العديدين يُكرم ويُستدعى كضيف شرف في حفل عالمي كهذا يحضره الملوك والأمراء وكبار عُلماء التكنولوجيا والتقنيات ليس بالأمر الهين، كما أنّ دعوة حضور هذا الحفل لم تكن مجانية أو تحيزية بل كانت عن جدارة واستحقاق لذلك الرجل النابت من طينة «القيطنة» التي قد لا يعرف مكانها الغالبية الساحقة من شبابنا اليوم فما بالك بالغرباء.
ووسط هذا اليّم من الخصال ومن المحامد التي اِستوفته شخصية الأمير عبد القادر يبدو من الصعب جداً إطلاق أي لقب عليه أو تصنيفه ضمن حقل علمي مُحدّد، إذا كلّ من ذاك الفيض الغامر الّذي أدهش العدو قبل الصديق.