أحمد الغوالمي في ذكرى وفاته الخامسة والعشرين
ولد أحمد الغوالمي واسمه الحقيقي أحمد بن علي بن بوساحة بن حمو بن محمد في بادية جنوب غرب مدينة ميلة سنة 1920م. من أسرة متواضعة تمتهن الفلاحة، فنشأ نشأة أبناء الريف الجزائري. بدأ تعليمه في مدينة ميلة أين حفظ القرآن الكريم في كُتابها على يد الشيخ الشريف مصباح وهو أحد أقاربه، ثم التحق بحلقات الدروس التي كان يلقيها مؤرخ الجزائر العلّامة مبارك الميلي (1889م ـ 1945م). فأخذ عنه مبادئ اللغة وعلومها وكذا مبادئ العلوم الشرعية كالفقه بالإضافة إلى علم التاريخ.
سنة 1934م؛ أي ببلوغه الرابعة عشرة من العمر خرج الغوالمي من ميلة متجها إلى مدينة قسنطينة التي كانت محضن العمل الإصلاحي في الجزائر في ذلك الوقت، فالتحق بدروس الإمام عبد الحميد بن باديس (1889م ـ 1940م) التي كان يلقيها في الجامع الأخضر بقسنطينة واستمر في ملازمته له طيلة ثلاث سنوات. ومن يتابع نشاطه فيما بعد وحتى كتاباته الشعرية يجد أثر الحركة الإصلاحية ظاهرا في ذلك، وهذا مما يدل على تأثره الكبير بالشيخين: الميلي وابن باديس اللذين تتلمذ عليهما في صباه، بعد ذلك كان لزاما عليه إكمال المسار الدراسي الذي كانت تتمته يومها بالنسبة للجزائريين من أبناء الحركة الإصلاحية في تونس وفي جامعها الأعظم (= جامع الزيتونة)، فاتجه إلى تونس ليلتحق بهذا الجامع العامر وكان ذلك سنة 1937م لإكمال دراسته وتيسر له ذلك، حيث سجل في العام الدراسي (1938م/1939م) ورقم دفتره (20911)، وفي تونس أقام أحمد الطالب المنتسب الجديد للزيتونة في وكالة رحبة الغنم، واستمر انتسابه إلى الزيتونة حوالي أربع سنوات حتى سنة 1941م وهي السنة التي تحصل فيها على شهادة التحصيل من جامع الزيتونة.
في ميدان التعليم
بعد حصوله على الشهادة عاد أحمد الغوالمي إلى الجزائر، ولم تتح له فرصة إكمال المسار الدراسي ما بعد الشهادة الزيتونية بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية في ذلك الوقت. بعد عودته إلى الجزائر التحق بسلك التعليم كما هو شأن منتسبي الحركة الإصلاحية فشيخهم ابن باديس كان يقول:« إني شغلت بالتعليم فلا شغل لي سواه» ، اشتغل أحمد الغوالمي بالتعليم في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لأنه رفض التوظيف في المؤسسات النظامية العامة التي كانت تشرف عليها الإدارة الاستعمارية.ولما تحصلت الجزائر على استقلالها سنة 1962م انخرط الغوالمي في سلك التعليم العام الذي صار تحت إشراف الجزائر المستقلة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات أستاذا للغة العربية في الطور المتوسط، في مدينة قسنطينة. إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1983م وهو يتابع الشأن التعليمي ويدافع عنه ويشيد به ففي حفل تقاعده ارتجل قصيدة في هذا الشأن مما جاء فيها:
إلى العلم يا قومي فشدوا دعائما
بغير علــوم لا تشــد الدعائـــم
فما ظالم العـــرفان إلا كمــــارد
سيرجمه نجم من الحق راجــم
قسنطينــة تيهي بتــاج مرصـــع
من العلم والعرفان ثغرك باسم
بمدرســة التعليم عصرك زاهــر
وفكرك يقظــان وبالـك ناعـــم
الغوالمي والصحافة
الفضاء الصحفي المتاح في ذلك الوقت هو الصحافة المكتوبة والتي انخرط فيها أحمد الغوالمي في فجر شبابه في مطلع الأربعينيات؛ إذ بدأ ينشر في الجرائد التونسية حينما كان طالبا في تونس وبعد ذلك، ومن الجرائد التونسية التي كانت تنشر أشعاره: جريدة الأسبوع، جريدة الصريح، جريدة البيان، ولما عاد إلى الجزائر تعامل مع الصحافة الإصلاحية ونشر في جريدة الشعلة التي أسسها الأديب الشهير أحمد رضا حوحو، وجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
في عهد الاستقلال برز أحمد الغوالمي كقلم إعلامي من خلال انخراطه في الكتابة الصحفية في جريدة النصر، بعد تعريبها عام 1972م. والتي أتاحت له كتابة مقالات علمية وثقافية بعضها صار معتمدا في الدراسات النقدية لدى المهتمين بالنقد الأدبي. خاصة مقالاته عن الشعر الحر التي عنونها بـ:« رشحات على الشعر الحافي الخالي من الأوزان والقوافي». بعدها انتدب الغوالمي للتنشيط الثقافي في مديرية التربية بولاية قسنطينة، حتى إحالته على المعاش سنة 1983م.
وقد احتفت به هذه الجريدة بأن أجرت معه حوارا مهما في عددها الصادر في 07 أكتوبر 1991م كان بعنوان: سياب الجزائر عائد على سفينة الشعر. وأحسب أن ذلك آخر عهد له بالجريدة وبالعمل الصحفي. وبقي بقسنطينة إلى أن توفي ودفن بها يوم 06 ديسمبر سنة 1996م.
آثـــاره
خلال هذا المسار ترك لنا أحمد الغوالمي أعمالا أدبية وفكرية تتمثل أساسا في:
1ـ ديوان شعري، يتضمّن 111 قصيدة، يتنازعها الإطاران العمودي والحر، وفي هذا المجال الشعري قال عنه الأديب الجزائري واسيني الأعرج بأنه أحد أهم الأصوات الشعرية، كما اعتبره رائدا من رواد الشعر الحر. يتوزع إنتاجه الشعري على النمطين العمودي والحر وذلك بنسبتين متفاوتتين جدًّا؛ حيث بلغ عدد القصائد العمودية 109 قصائد مقابل قصيدتين اثنتين حرّتين، إحداهما بعنوان: أنين و رجيع ، وهي قصيدة نالت حظا وافرا من اهتمامات النقاد، من الذين خصوها بذلك واسيني لعرج ففي دراسة له بعنوان: الشعر العربي في الربع الأخير من القرن العشري، قال بأن هذه القصيدة قيمتها تاريخية أكثر مما هي فنية مما يدل على تسخيره لملكته الشعرية لخدمة الوطن وقضايا الإصلاح عموما.
وهذه النسب تعكس- بوضوح- ما صرّح به الشاعر حين أعلن في إحدى مقالاته ميله إلى الشكل الأول؛ أي الشعر العمودي. وهذا ما جعل الدكتور يوسف وغليسي في مقال له يصفه بالكلاسيكي المتجدد والحداثي المرتد.
وهذا الديوان صدر في طبعة مزدوجة اللغة (الأصل العربي مع الترجمة الفرنسية) يحمل عنواناً فرنسياً: (قصائد من الجزائر) نشرته دار pub lisud بباريس عام 1999م. يتشكل هذا الديوان من قصائد كتبت في فترات زمنية مختلفة في الجزائر وتونس وتمتد على مسيرة أربعة عقود من الزمن بدأها في شبابه بتونس واستمرت حتى عقد الثمانينيات.
2ـ سلسلة مقالات: بدأها في جريدة البصائر خلال عقد الخمسينيات، وفي الاستقلال أكمل مسيرة الكتابة في جريدة النصر خاصة خلال عقد السبعينيات، والمتصفح لمقالاته يجدها لم تشذ عن خط الكتابة الإصلاحية التي انتسب إلى مدرستها في شبابه من ذلك مقالاته اللغوية مثل:
ـ حول حرف الاستفهام جريدة البصائر سنة 1955م
ـ تنوير التفكير وتجديد التعبير هدفان لتزويد العربية بالإثراء والتطوير.
ـ رشحات على الشعر الحافي الخالي من الأوزان والقوافي. جريدة النصر
وله في الكتابة الفلسفية مقالان اثنان هما:
ــ ما هي الفلسفة؟.
ــ الصحيفة البيضاء.
بالإضافة إلى هذا له سلسلة مقالات حول أعلام الإصلاح في الجزائر من شيوخه وزملائه وهي:
ـ مبارك الميلي وتآليفه القيمة، مقال في حلقتين.
ـ رأي الميلي في الوحدة العربية.
ـ ابن باديس في ذكرى رحيله.
ـ ابن باديس السياسي المتفائل.
ـ البشير الإبراهيمي أمير البيان العربي بلا منازع، مقال من خمس حلقات.
ـ أحمد رضا حوحو والأدب الساخر في الجزائر، مقال من ثلاث حلقات.
ـ الطيب العقبي : كاتبا وشاعرا وصحفيا. مقال من عشر حلقات.
ـ العربي التبسي: شهيد الثورة الجزائرية. مقال من سبع حلقات.
ما يلاحظ على إنتاجه الأدبي أنه قليل إذا ما قورن ببعض معاصريه وهذا أمر أشار إليه الدكتور محمد ناصر حينما تحدث عن قلة الإنتاج عنده فقال: مردها حاجة الجزائر الإدارية للمعربين فانشغلوا بالوظيفة على حساب الإبداع.
ورغم هذا الحضور الهادئ ورغم هذه المساهمات النوعية وهذه الشعرية الطافحة مازال أحمد الغوالمي لم يعرف به كما يجب ولذا قال عنه عبد الله حمادي:«الصوت الشعري المنسي في ديوان الشعر الجزائري». و قال يوسف وغليسي: «وهو فعلا كذلك أو ربّما أسوأَ حالا، ولا أدلّ على ذلك من الكتب الكبيرة في تاريخ الشعر الجزائري، الخالية من مجرّد ذكر اسمه.
ولكنني أحسب في المدة الأخيرة بدأ الاهتمام به وأهم ما يدل على ذلك اعتناء الدكتور عبد الله حمادي بتحقيق ديوانه، كما أنجزت حوله رسالة جامعية بجامعة قسنطينة بعنوان: « المتخيل الشعري عند أحمد الغوالمي».
وقد توج هذا الرصيد الشعري بتكريم خاص من ولاية قسنطينة سنة 1970م إذ نال جائزة عن قصيدته «مدينة فوق طود شامخ»، فيها إشادة بمدينة قسنطينة التي احتضنته متعلما ومعلما وصار بعد ذلك من ساكنيها إلى أن مات ودفن فيها يوم 06 ديسمبر سنة 1996م.
نماذج من شعره الإصلاحي:
العمل الإصلاحي في الجزائر ارتبط بثلاثة مجالات أساسية: الإسلام والعربية والجزائر وهي الثلاثية التي حملها شعار جمعية العلماء التي انتسب إليها الغوالمي وتحرك تحت مظلته الإصلاحية وبما انه صوت شعري فقد سخر شعره لخدمة هذه الفضاءات ففي قصيدته « يا شعر» يقول:
يا شعر خض لججا طما وعبابا
واكشف عن أدب الشمال نقابا
واهزز رواكـــد أنفس كسلانــة
ولهى تذوق من الدخيل عذابا
فكان شعره على ارتباط بهذه الثلاثية، فللجزائر غنى الغوالمي كثيرا من ذلك قصائده: أبطال الجزائر، نوفمبر، وحدة الوطن، هنيئا بالاستقلال هذا نهاره، ومنها أيضا قصيدته الرائعة بلادي كوثر الثوار التي غنى فيها للثورة الجزائرية قائلا:
بـلادي كـوثرُ الثـوار بُشـــــــــــــرى
لنـا بـالكـوثر الثـوريّ بشــــــــــــرى
فإن تكُ جّنـــةُ الـدنـيـا بـــــــــــــلادي
فـمـن إرمٍ لعـادٍ صنـــــــــــــــتُ ذكرا
ولا تعجـبْ لخــــــــــــــــارقةٍ بشعبٍ
إذا أسبـابـهـا تـــــزداد جهــــــــــــــرا
ولا تـنفِ الخـوارقَ عـن بـــــــــــلادٍ
إذا ربحتْ حـيـاةً بعـــــــــــــــد أخرى
تَفجّرَ مـن مـنـابعهـا مَســـــــــــــــيلٌ
مـن الأنهـار حتى عـاد بحــــــــــــــرا
أغار عـلى النُّذول الـبـيضِ هَجْــــــاً
فـمـا أبقى لهـــــــــــــــم مــدّاً وجَــزْرا
يحـاصرهـم بـغابـــــــــــــاتٍ وشُعبٍ
وبـالأريـاف والـبـلــــــــــــدان حَصْرا
بـلادي يـا بــلادي أنـتِ نـــــــــــــورٌ
ونـارٌ تتـرك الـدخـلاءَ جـمـــــــــــــرا
بثـورتكِ الفتـيّةِ صُنـتِ شعبـــــــــــــاً
عـريـقـاً فـي عـــــــــــــــروبته وُحّـرا
نسـيـمُكِ أنعـشَ الأرواحَ طـيبــــــــــــاً
وجـوُّك عَبَّقَ الأرجـــــــــــــــــاءَ عِطرا
وفي المجال الديني الاجتماعي نجده يقف عند مسألة التعليم وطلب العلم وهي المسألة التي تعني الشباب بالدرجة الأولى فكتب قصائد في ذلك هي: يا شباب، لا تحفل بغير العلم زادا، مع التركيز على قضية تعليم المرأة فكتب: بنت المغارب، بنت الجزائر، اهتم الغوالمي بقضية المرأة شأنه في ذلك شأن غيره من المصلحين مثل ابن باديس ومحمد الصالح خبشاش وغيرهما فقال في قضية تعليم المرأة
تركـــوك خاملــة ورهن تــوهم
فجنوا عليك بواهم وتريـك
تركوك في حالة الجهالة أعصرا
تتخبطين تخبـط المأفـــوك
حسبوك زهرة لهوهم ومجونهم
يا و يحهم من ظنهم خذلوك
وعن ثقته في أصالة المرأة الجزائرية وصمودها قال:
عبثا يحاول شانئ متمرد
يرغو ويزيد في احتدام شكوك
تبت يــدا متفرنج أو جاحد
أو زارع التفتيـــن والتأفيــــك
من جهة أخرى شكلت اللغة العربية قضية من القضايا التي انشغل بها الخطاب الإصلاحي عموما وكان أحمد الغوالمي أحد الذين سجلوا حضورهم في معالجة هذا الموضوع بقصائد عديدة مثل: ناصر الضاد والجزائر، أعد للضاد بهجتها ومثل قصيدة : لغة الضاد أُمّ كل صعود. التي يقول فيها:
حَـيِّ يـا شعـرُ مـوكبَ العـرفـــــــــانِ
تحَيّه بـالجَنـان قبـل اللســــــــــــــانِ
حـيِّ روضـاً بـالـمـنجزات أريضــاً
وارفَ الظلّ بـاسقَ الأفـنـــــــــــــــان
حـيِّ جـمعـاً بروحــه عـربـيــــــــــــاً
وطنـيّاً محقّقـــــاً للأمـانـــــــــــــــــي
وحـمـاسـاً مُنغَّمَ اللـــــــــــحنِ شَهْـــداً
ذائبــــاً فـي القـلـــــــــــــوب والآذان
يـنـتقـي طـالـبُ الجزائرِ مــــــــــــنه
دُررَ اللفـظِ للـمعـانـي الـحِســــــــــان
حـيِّ شمسـاً بأفق «سـيرتــــــا» تَجلّتْ
ونجـومـاً وهّاجةَ اللـمعــــــــــــــــان
إن «سـيرتـا» مـنـارةُ العـلـمِ قِدْمــــــاً
وشعـاعـاتُ دولةِ القــــــــــــــــــرآن
قـد تحـــــــــــــــــلّتْ «بجّايةٌ» بحُلاه
و«تِلـمْسـانُ» فـي بنــــــــي «زيّان»
وبعبـد الرحـمـنِ تـاهت «تـيـهـــرتُ»
مـن «بنـي رُستـمٍ» عـلى الـبـلـــــدان
فـاقتبسْ مـن مـنـاره خـــــــــــيرَ هديٍ
واروِ مـن وِرْده صدى الظــــــــــمآن
وانـتشقْ مـن شَذاته فهـــــــــــــي بَرْدٌ
وسلامٌ عـلى حـمـــاة الـبـيـــــــــــــان
واسكبِ النـورَ فـي حنـايـا ضلـــــوعٍ
وقـلــــــوب حثـيثةِ الخـفقــــــــــــــــان
لقد كان السجل الشعري لأحمد الغوالمي نوعيا يستوقف القارئ المتذوق لجمال العربية، ويستوقف المؤرخ الذي يجد فيه مادة تاريخية كما يستوقف المفكر المصلح من الذين انشغلوا بالإصلاح الديني من جيله ومن كل جيل، وبالتالي يعد من مجددي الخطاب الشعري في التاريخ المعاصر وهذا الذي جعل الشيخ مبارك الميلي يقول عنه:» فقد شعر شعراؤنا بحياة جديدة فنفضوا أيديهم من ذلك الأدب البالي المشوه بلغة التأليف ونفذوا إلى الأدب الغض واستمدوا منه شعورهم الرقيق الطاهر وعلى أمثال هؤلاء الشباب نعلق آمالنا في تجديد الأدب الجزائري ورفع مستواه».