تحتضن جدران قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة بقسنطينة، إلى غاية 18 من ماي، معرضا فنيا متنوعا يشارك فيه فنانون من داخل الولاية وخارجها، بغية إحياء فعاليات عيد المدينة السنوي، تحت شعار « الريشة ترسم ذاكرة المدينة» .
وتقول الفنانة التشكيلية سامية فيلالي، وهي منشطة ثقافية بدار الثقافة مالك حداد، أن الأعمال الفنية المعروضة لطلبة وأساتذة تحاكي في الواقع تاريخ بلد المليون، فالبعض منها يؤرخ تقاليد قسنطينة القديمة، وأخرى تُبرِز من خلال ألوانها وظلالها المتراقصة عادات ظلت راسخة بمخيلة كل فرد، ما دفع بكثير من العائلات الجزائرية عبر مختلف ربوع الوطن إلى المحافظة عليها وإحيائها، حتى تظل تقليدا راسخا يتوارثه الأجيال.
وتؤكد المتحدثة، أن توثيق التاريخ لا يكون فقط من خلال الكتب والمخطوطات القديمة، بل حتى بالاعتماد على اللوحات الفنية التوثيقية التي تؤرخ لمعلومات وتفاصيل مهمة في غاية الدقة والإتقان، والتي يظهر من خلالها عادات وتقاليد كانت وما زالت من تفاصيل الحياة اليومية والموسمية للجزائريين، رغم كل الشائعات التي طالت أجزاء منها على غرار الحلي والملابس التقليدية ونسبها إلى دولة أخرى.
وأضافت المتحدثة أيضا، أن فكرة المعرض تقوم على توثيق عدد من العادات والتقاليد المميزة لعاصمة الشرق الجزائري، على غرار موسم تقطير الزهر والورد الذي يقام ربيع كل سنة، مع التذكير كذلك بالصناعات التقليدية التي تشتهر بها المدينة إلى يومنا هذا نذكر منها حرفة النحاسين وصياغة الذهب، وكذا الملابس النسوية التقليدية خصوصا قندورة القطيفة القسنطينية والحايك والملاية ولعجار.
و تروي اللوحات الفنية المعروضة بأروقة القصر، من خلال تفاصيل خطوطها الهندسية المضبوطة من المثلث والدائرة والمعين، الحلي التقليدية التي لطالما تزينت بها المرأة الجزائرية وجملت بها جبينها وعنقها ومعصمها وكاحلها، على غرار « الخلالة» التي بدت من خلال ريشة الفنانات الشابات باللونين الرمادي والأصفر دلالة على معدني الفضة والذهب، كما نقش لبها بزخارف وأشكال مختلفة تنبع من ثقافات متنوعة، فكل رمز منها له دلالة معينة بحسب المنطقة التي ينتسب إليها.
كما ارتأى فنانون آخرون، أن تخط أناملهم تفاصيل الزي التقليدي القسنطيني العريق الذي اندثر بعضه كالحايك والملاية ولعجار، حيث اختار المشاركون اللونين الأسود والأبيض لرسم هذه القطع ، معتمدين في ذلك على تقنيتي التظليل والإضاءة لإبراز معالم القماش وتفاصيله، مع اختيار الزوايا المناسبة لتسليط الضوء بغية إبراز تجاعيد القماش التي تعطي حركية وحيوية للوحة، فيما بقيت أزياء أخرى تقاوم رياح العصرنة وخطوط الموضة على غرار قندورة القطيفة والملحفة الشاوية والقبايلي، أين راعت الفنانة التشكيلة ومصممة الأزياء أن تظهر من خلال أعمالها أدق التفاصيل التي تميز اللباس التقليدي، من استخدام ألوان وحركات ريشة متعمدة لإبراز نوع القماش الحريري أو المخملي، إذ يمكن التمييز بينهما بالعين المجردة بسبب حنكة الرسامة في اختيار التقنية المناسبة، مع إضفاء زخارف ذهبية براقة شبيهة بالفتلة والمجبود.
وعرف المعرض من جهة أخرى، مجموعة من الأعمال الفنية التي اقتبست من الواقع المعيش وهذا بالاستعانة بصور فوتوغرافية التقطتها عدسات الكاميرا في أزمنة مختلفة، حيث ارتأت أستاذة الرسم فيلالي، أن تشارك بتوليفة من اللوحات الفنية الواقعية، بعد إعادة رسمها لصور من ثمانينيات القرن الماضي، تظهر فيها ملامح النسوة باللونين الأسود والأبيض، لتعيد هي بدورها بث الحياة فيها من خلال استعمال ألوان زيتية زاهية في رسم الملامح والتفاصيل على القماش، مع اعتمادها لألوان أنثوية في تلوين « المحرمة» التي لطالما استعملتها المرأة في القديم من أجل لف رأسها مع إظهار خصلات من الشعر المنسدل أو المظفور، وتقول المتحدثة، أن كل تفصيلة تم اعتمادها في لوحاتها، ليست عشوائية اعتباطية، وإنما تم وضعها بشكل مدروس، حتى تسلط الضوء على تسريحات الشعر، وتتوجه أعين الناظرين نحوها للتمعن في تفاصيلها.
فيما أعاد الأستاذ سفيان محي الدين، رسم لوحة لصورة فوتوغرافية التقطت لباب خشبي قديم باللون الأزرق، محاولا من خلال لمساته الفنية أن يحافظ على معالم الباب القديم بالوقوف على أدق التفاصيل التي تبرز مدى قدم هذا الباب الذي اهترأت أجزاء منه، مع رسم قبضة اليد الحديدية والحجارة البنية التي تحيط به، كون الصورة الملتقطة تعود في الأصل لإحدى «ديار عرب» القديمة التي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، كما أضفى الفنان على اللوحة خلفية بألوان باردة امتزجت بين اللونين البنفسجي والأزرق وذلك الاعتماد على تقنية المنمنمات، ما أعطى للعمل الفني صبغة مميزة.
و استحوذت لوحة الفنان الهاوي، أيمن عكلوش، المحاكية لمختلف الموروثات الثقافية التي تكتنزها ولايات الجزائر بين طياتها، على اهتمام الزوار من النساء والرجال لما لها من جاذبية خاصة تسحر الناظرين، كونها تجمع بين طبوع متنوعة من الفن التشكيلي، إذ استعمل الفنان تقنيات مختلفة من الرسم بقلم الرصاص إلى استخدام ألوان الباستال في تلوين الأقمشة والبشرة وغيرها من التفاصيل، وما أعطى للوحة رمزية خاصة هي بقع الألوان المائية التي أحاطت بالتفاصيل والبياض الذي توزع على حواف الرسمة، كي يخيل للناظر إليها أنها غمامة مضببة تغوص بالمتمعن فيها إلى عمق التراث الجزائري المتنوع.
رميساء جبيل