تحوّلت زاوية سيدي بلقاسم بوحجر، بمنطقة الثلاث ببلدية سيقوس، ولاية أم البواقي، إلى أطلال بعد أن كانت طيلة ما يقارب القرنين، منارة علمية لحفظة القرآن ومختلف علوم الدين. الزاوية كانت قبلة لطلاب العلوم من كل ولايات الشرق الجزائري، الذين درسّهم شيوخ يشهد لهم بالعلم، من خريجي جامعة الأزهر، بعد المرور بجامع الزيتونة، و أشهرهم العلامة سيدي صالح بن مهنا القسنطيني، الذي أعارته الزاوية للإمامة في المسجد الكبير في قسنطينة، و قال عنها ضابط فرنسي في رحلته الاستخباراتية، و هو إدوارد دو نوفو 1809 – 1871 في كتابه عن "الإخوان " و يقصد الطرقيين، "سيدي بلقاسم بوحجر، أهم وأشهر مرابطي قسنطينة ينتمي إلى طريقة حنصالة ".
سيدي بلقاسم بوحجر تخرج منها أجيال على مدار حوالي قرن ونصف قرن من الزمن ، واصلت مهمتها إلى غاية الاستقلال، أين تراجع الإقبال على الدراسة فيها ليقتصر فيما بعد على أبناء المنطقة، مع استمرار نشاط المسجد، الذي توّقف بدوره بداية الثمانينيات، بعد أن تقاعد آخر أئمته، و لم يتم تعيين بديلا له لاحقا. ومع بداية العشرية الحمراء، هجرها أبناء العائلة مجبرين، تحت تهديد الخطر الإرهابي، لتتحوّل إلى أطلال بعد ذلك، حسب الأستاذ عبد الغاني بوحجر، المتقاعد من التعليم الثانوي، الذي التقته النصر مؤخرا في زيارتها للزاوية، والذي يحرص على تفقدها يوميا، قادما من بلدية أولاد رحمون، لرعايتها متطوّعا نيابة عن أفراد العائلة الذين انتشروا في أرجاء الولاية ، كل و ظروفه الخاصة، و يزورونها بين الحين والآخر.
عبد الغاني يقول أنه منذ سنوات، طالب بإعادة تعيين إمام خاص بمسجد الزاوية، وكذا بترميمها حفاظا عليها معتبرا إياها إرثا ثقافيا وطنيا ، يجب الحفاظ عليه، بعد أن حافظت على رموز الشخصية الوطنية خلال ليالي الاستعمار الطويلة السوداء، في شكاوى كثيرة إلى كل السلطات المحلية و الولائية، وكذا مدير الشؤون الدينية بولاية أم البواقي، وهي طلبات لم تجد بعد آذانا صاغية .
زيارتنا للمكان تزامنت و أشغال تعبيد طريق، يربطها بقرية الثلاث، هذه الأخيرة تبعد عن مقر البلدية سيقوس بأكثر من 5 كيلومترات، محدثنا أحالنا على ابن عمه غزالي بوحجر لمعرفة تاريخ الزاوية وحياة مؤسسها، باعتباره أنجز بحثا حول الموضوع.
بلقاسم بوحجر اشتغل في النسيج قبل أن يتفرغ للعلم
الزاوية تأسست، حسب الأستاذ غزالي بوحجر، الصحفي السابق في جريدة النصر ومفتش التعليم الثانوي حاليا، على يد جده الأول الولي الصالح سيدي بلقاسم بوحجر بن أحمد بن عبد المالك، الإدريسي نسبا، المالكي مذهبا، الأشعري عقيدة، ، الحنصالي طريقة، قدم أبوه من المغرب الأقصى في أواخر القرن العاشر الهجري ، أبوه كان معلم قرآن، و رأى ابنه بلقاسم النور في بلدة بني بلعيد ولاية جيجل حوالي سنة 1179 هجري، الموافق ل 1762 ، و حطّ رحاله بعدها بقسنطينة التي ترعرع فيها ابنه سيدي بلقاسم، الذي سرعان ما كسب ثقة محيطه، بأخلاقه و خصاله الحميدة وجديته و إخلاصه في العمل.
اشتغل بالنسيج قبل أن يتفرّغ للعلم والعبادة، ومن أقرب أصدقائه الولي الصالح شيخ الطريقة الحنصالية، سيدي الشيخ الزواوي، دفين الجبل الذي يحمل اسمه و تتواجد زاويته بابن زياد " الروفاك " قريبا من جبل شطابة، و هو أحد أقارب سيدي محمد الغراب. إضافة إلى الشيخ العلامة أحمد بن المبارك بن العطار القسنطيني، مفتي المالكية، ودفين جبل سيدي الشيخ و له مؤلفات كثيرة منها "تاريخ قسنطينة»، و "نصيحة الإخوان» التي تضم أوراد الطريقة الحنصالية، و شرحها بعد ذلك المصلح العلامة الشيخ صالح بن مهنا في كتابه الموسوم، بـ» فتح الرحيم الرحمن لشرح نصيحة الإخوان " والذي ألفه بزاوية الشيخ سيدي بلقاسم بوحجر الذي عرف بكثرة تنقلاته بين مراكز العلم في ذلك الوقت، من الروفاك إلى وادي سقان، ثم أقام في كدية سيدي عاتي، بالقرب من المقبرة المركزية وسط قسنطينة، أين دفن ابنه أحمد الذي يعد أول دفين بهذه المقبرة.
كان يختلي بمكان في منطقة عين النحاس بالقرب من الخروب، للذّكر والعبادة ، وتعرف المغارة حاليا ، باسم خلوة سيدي بوحجر، وهي قريبة من ضريح ماسينيسا قال بشأنها الأستاذ الباحث الأنثروبولوجي فوزي مجماج، بأنها كهف يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، و يشبه إلى حد بعيد خلوة ابن خلدون ببجاية ، التي ألف فيها المقدمة ، وتضم داخلها رسوما صخرية بارزة، تعود إلى أحقاب غابرة في عمق التاريخ، ثم انتقل إلى أولاد صخر و منها إلى تيجرارين، مكان الزاوية حاليا.
سيدي بلقاسم كانت له مواقف شجاعة ومشرفة ، نابعة من إيمانه العميق بتعاليم الدين الإسلامي، و منها مواقفه من حكام قسنطينة صالح و أحمد باي، في ما يخص سلوكاتهما و مواقفهما اتجاه عامة الشعب.
بقايا مجمع مدرسي إقامي
الزاوية ، التي تضم عدة مرافق، يغطيها قرميد قرمزي اللون دلالة على عراقة المكان، الذي يعود إلى العهد العثماني قبل حوالي قرنين من الزمن، اتخذت شكلها الحالي على يد نجله الشيخ علي بوحجر سنة 1871، كانت في أول عهدها بناء بسيطا هشا، حسب الأستاذ غزالي، بناها بعض المشايخ الفضلاء، لقراءة القرآن ودراسة العلوم الشرعية واللغوية ، و أول من درس فيها الشيخ بروال، المدفون بجانب مؤسس الزاوية، سيدي بلقاسم بوحجر المتوفي سنة 1852 ميلادي الموافق لـ1269 هجري، عن عمر ناهز 90 سنة ، كما هو مدون في قوس خشبي، أول ما يصادف الداخل إلى مدفنه، شعاره الوصية للعائلة، " في الاتحاد قوة وفي التفرقة ضعف وذل ".
أوسع مرافق الزاوية المسجد، المؤثث بكل اللوازم، تلتصق به غرفة تضم قبر مؤسس الزاوية، و أخرى تضم قبرين، إضافة إلى غرفة المخطوطات، و تسمى بقاعة النخبة، بجوارها مرقد الطلاب، و مكان تعليمهم، كل ذلك يتوّسطه صحن واسع، وغير بعيد منها تم تشييد مبان أخرى تضم مخزن مؤونة الزاوية ، وغرف استقبال ، و إقامة خاصة بالضيوف والزوار تحتوي على 4 غرف، هذا وتوجد في ساحتها الخارجية مقبرة تضم أكبر شيوخ العائلة وعلمائها من أل بوحجر.
لم تشذ الزاوية عن القاعدة في نشاطاتها، و أعمالها عما كانت و مازالت عليه الزوايا القائمة، التي هي مركز إشعاع حضاري وفكري ونضالي، بالإضافة إلى اضطلاعها بمهمة الدفاع عن الدين واللغة، وتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم اللغوية والشريعة، في عقيدة الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك، إضافة إلى التكفل باليتامى والمساكين والمحتاجين، و الأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة، وكذا لم شمل العائلات والجماعات وفض النزاعات، والصلح بين المتخاصمين.
و اعتمدت تحفيظ القرآن وتدريسه، وتعليم العلوم الشرعية واللغوية، على غرار جميع الزوايا، و المنهاج الموّحد لجامعي القرويين والزيتونة، الذي يعتمد الأجرومية في اللغة العربية، ثم قطر الندى وبلّ الصدى، فألفية بن مالك بالتدرج ، وابن هاشم، و في الفقه تدرّس، ابن عاشر و رسالة ابن أبي زيد القيرواني وأخيرا مختصر سيدي خليل، و في التوحيد و العقيدة الجوهرة و الخريدة البهية لسيدي أبي البركات الدرديري، و درّس الطاهر قربوع علم الحساب معتمدا على المتن.
شخصيات علمية مرّت على الزاوية
وقد مرّ على الزاوية العلامة المصلح صالح بن مهنا القسنطيني، الذي حطّ بها الرحال بعد عودته من مصر مباشرة، وأقام بها لمدة طويلة وتزوج وألف كتبه فيها ، بعضها مازالت فيها مخطوطة، و هو من العلماء الذين تحدث عنهم مالك بن نبي، و خص له الأستاذ سليمان الصيد كتابا يحمل عنوان، صالح بن مهنا حياته وأعمال سنة 1984 صدر عن دار البعث، و قال عنه أنه كان يحرص على صلاة العيدين، والاستسقاء في زاوية بوحجر ويترك إمامة المسجد الكبير بقسنطينة، لتلميذه الشيخ يوسف بن بروال، و بقي على هذا الحال إلى وفاته. ومن الذين تأثروا بأفكاره الاصلاحية الشيخ عبد الرحمن بوحجر، الذي هاجر إلى المشرق وتوفي هناك. ثم الشيخ الفاضل العلامة محمد الطاهر قربوع الذي عاشت في وقته الزاوية عصرها الذهبي ، قبل أن ينتقل بدوره إلى الإمامة في مسجد الخروب العتيق ، وعوضه الشيخ الصالح عمار مهري والد عبد الحميد مهري، الذي انتقل إلى وادي الزناتي، صاحب قصيدة طويلة يرثي فيها الشيخ سيدي الصغير بوحجر، أصغر أبناء مؤسس الزاوية، و كذا العلامة الورع سيدي أحمد بسطاجي، الذي عوّض الشيخ الطاهر قربوع، دفين الزاوية و أخيرا الشيخ السعيد بوحجر حفيد سيدي بلقاسم وتلميذ الشيخ عمار مهري.
و من العلماء الذين كانت تربطهم بالزاوية علاقات وطيدة، بالإضافة إلى أحمد بن العطار، الشيخ محمود بن محمد الشاذلي البوزيدي، و ابن الموهوب والشيخ عمار مهري ونجله المولود وشيخ مسجد عين عبيد العربي لعلاوي والشيخ محمد الكبلوتي الملقب شنيتي.
أما معلمو القرآن فأولهم الشيخ بروال، فسليمان بوحجر، و احمد الدراجي، محمد زرقين المعروف بـ»بلحاج» وآخرهم محي الدين بوحجر الذي كان إماما للزاوية ، ومعلما للقرآن، قبل أن يتقاعد و يهجر مع أهلها خلال العشرية السوداء المكان، والذي لا زال على قيد الحياة، وتخرّج من الزاوية العديد من حفظة القرآن والمعلمين، الذين منهم من واصل دراسته بقسنطينة والزاوية الحملاوية، أو بتونس والمغرب و منهم من تقلّد الإمامة وتعليم القرآن في بعض المناطق المجاورة ، منهم الشيخ الكبلوتي ، وعبد العزيز ورابح وكذا الصغير وحمادي، وعبد الرحمان الذي هاجر إلى الشرق، و طاف البلاد العربية، و استوطن جدة بالسعودية و مات بها، سنة 1358 هجري ودفن بها، من آثاره قصيدة " الدّر المختوم " و هو الذي اشتغل بتصحيح الكتب والاهتمام بآثار السلف ومراجعتها قبل طبعها، كما كان يفعل الشيخ رشيد رضا، و تتلمذ بها كذلك صالح شيروف رفيق الرئيس بومدين إلى مصر.
هذا وقال لنا عبد الغاني أن أسلافه حدّثوه، عن زيارة قام بها العلامة ابن باديس، على متن عربة يجرها حصان، وجلس معهم تحت شجرة الزيتون، و اطلع على طريقة التدريس فيها، وشجع على مواصلة عملها.
وتوجد بالمكان أثار رومانية، و ألواح صخرية، مكتوبة باليونانية تدل على أن المكان الذي اختاره سيدي بلقاسم لبناء الزاوية، يتصف بموقع ذا أهمية، بمائه وهوائه و توّسطه لولايتي قسنطينة وأم البواقي، و أكبر موقع أثري روماني في سيقوس أين تتواجد مدينة بأكملها، و الجدير بالذكر، أنه رافقنا في زيارتنا المكان الشيخ الزواوي، مدّرس القرآن بمسجد سيدي أحمد القروي، برحبة الجمال خلال السبعينيات، وهو أحد خريجي الزاوية في بداية الخمسينات، أين وقف و استوقف، وعادت به الذكريات إلى أيام الصبا، و حكا لنا عن معلميه وشيوخه، الذين مازال يذكرهم و لا ينسي أن يرفق أسماءهم، بلفظ التبجيل سيدي فلان وفلان.
محاولات عائلية فاشلة لبعث النشاط
حاول الشيخ عبد العزيز بوحجر إمام مسجد البيضاوي في باب القنطرة سابقا، و محمد بن إسماعيل بوحجر رئيس الغرفة الوطنية للفلاحة، وهذا بداية الثمانينيات ترميم الزاوية، حيث فكرا في تجميع كل أبناء العائلة لإعادة بعثها، و لكن الفكرة التي تبناها الثنائي، سطا عليها بعض أفراد الأسرة وميّعوها، فانسحب عبد العزيز ومحمد، وفشل مسعاهما، ثم تلتها محاولات أخرى و وجدت نفس النهاية، وتوجد حاليا جهود من مثقفي أبناء بوحجر يعملون على إعادة الاعتبار للزاوية وترميمها وتجديدها، اعتمادا على أنفسهم وعملا بوصايا جدهم.
مدير الشؤون الدينية، لولاية أم البواقي السيد محمد خلاف أوضح أنه لا يعلم بوجود الزاوية، منذ توليه المسؤولية منذ ثلاث سنوات، و لم يتصل به أفراد العائلة ولم يطرح عليه الانشغال، ولا يعلم حقيقة ملكيتها، وقال أنه على الملاك أن يعدوا ملفا كاملا عن المكان، ليتمكن كل من يستطيع تقديم المساعدة في إطار القوانين المعمول بها.
ص.رضوان