يفتح الموسيقار القدير نوبلي فاضل الذي عانقت ألحانه كبار الفنانين في الوطن العربي قلبه النصر، ويتحدث عن العديد من المحطات في حياته ومشواره المهني، حتى ولو كان ذلك بشق الأنفس، على اعتبار أن أول ملحن جزائري يتحصل على شهادة تأليف موسيقي كانت ذاكرته تحضر وتغيب عند الرد على أسئلتنا، ما اضطرنا في الكثير من الأحيان للاستعانة بشقيقه صلاح الدين الذي كان إلى جانبه، كونه يعد وكيل أعماله وساعده الأيمن، حيث كان يستحضر أفكار فاضل في كل مرة، سيما عندما لا يستطيع الأخير تذكر الأحداث التي جرت معه، على اعتبار أنه يعاني من مرض « الزهايمر» الذي و رغم صعوبته لم يتمكن من سلبه حب الفن والموسيقى التي تزال تأسر قلبه، وحياته ككل.
(يشرع في استحضار أفكاره بمساعدة شقيقه، ويشرع في الرد على سؤالنا بعدها مباشرة)... أولا يجب أن أوضح أمرا لمحبي نوبلي فاضل، ويتعلق بمكان ميلادي، أنا من مواليد تونس العاصمة، وليس عنابة كما هو موثق في وثائقي الرسمية، لقد ولدت في تونس سنة 1951، وبعدها انتقلت رفقة أفراد عائلتي إلى مدينة عنابة، وبمنطقة المحاضر بالتحديد، حيث فضل والدي العودة بنا إلى الجزائر بعد الاستقلال، خاصة وأنه تم تعيينه بالحكومة المؤقتة آنذاك. والدي كان من المثقفين، حيث درس بجامع الزيتونة، ما جعلني أتأثر به إلى درجة كبيرة، حيث تعلمت منه معنى حب الوطن، علما وأن عائلتنا تنحدر من منطقة واد سوف، ولكن انشغالات والدي ومواصلة دراسته العليا جعلتنا نضطر للعيش في تونس في فترة من الفترات.
(يصمت بعدها واضطررنا مرة أخرى لانتظاره، إلى غاية أن تدخل شقيقه، وساعده مرة ثانية للرد على تساؤلنا)... أجل بدايتي مع الفن انطلقت من تونس العاصمة، خاصة بعد أن أدخلني والدي رحمه الله إلى الكشافة الإسلامية، لأدرس بعدها بجامع مبارك الميلي بعنابة، حيث تعلمت الأغاني الوطنية هناك، ما جعلني أتعلق بوطني أكثر وأكثر، لقد كان لتلك التجربة الأثر الإيجابي في مشواري المهني فيما بعد، خاصة وأنني حرصت بعد عودتي إلى أرض الوطن رفقة العائلة للالتحاق بأحد الفرق الموسيقية من أجل تنمية موهبتي.
التحاقي بأول فرقة موسيقية كان في سن 16، وكان ذلك بمنطقة المشرية، حيث اخترت العزف على العود، إلى جانب إصراري على إكمال دراستي، سيما وأنني كنت في المرحلة الثانوية آنذاك، لقد تأثرت في بداياتي بالأغاني المغربية والوهرانية بشدة، على اعتبار أنها الشائعة بتلك المنطقة، ولكن الأمور تغيرت معي بعد أن تحصلت على شهادة البكالوريا، حيث التحقت بالعاصمة للدراسة بالجامعة، ونجحت في الحصول على شهادة ليسانس في علم النفس.
يتنهد ويجيب بنبرة حزينة...أترحم على والدي الغالي لأنه لم يبخل علينا بشيء، وبفضله تعلقت ببلدي الجزائر إلى درجة كبيرة، لقد كان إنسان ثوري ومثقف، ونجح في تربيتي رفقة أشقائي، لقد كان يعارض في البداية دخولي عالم الفن، إلى درجة أنه كاد يحرمني من إكمال دراستي بمصر، حيث طلب مني عدم التنقل، وجعل الفن هواية فقط، وليس عملا، ولكن إصراري على دخول عالم الفن جعلني استعمل كل الطرق والحيل، إلى درجة أنني تحدث مع بعض أصدقاء والدي آنذاك، وهم من أقنعوه بأن إمتهان الفن ليس عيبا، وأن فاضل بصدد تقديم رسالة نبيلة إلى الشعب الجزائري.
والدي كان لا يرغب في رؤيتي أعمل في الفن، ولكن إصراري جعلني أنجح في إقناعه، خاصة بعد أن سمع أغنية « يا حنانا» للفنان القسنطيني رشيد منير، حيث تفاجأ لما علم بأنها من تلحيني، وبعدها وافق والدي على طلبي، وأصبح مشجعا لي، وسمح لي بالانتقال إلى مصر بعدها لإكمال دراستي في مجال الفن والموسيقى، كم أود أن أخبركم بأمر جديد يخص أغنية «يا حنانا».
أغنية «يا حنانا» التي تعتبر أول عمل لي سوف تعاد عن قريب، ولكن عن طريق أحد الفنانين العرب الموهوبين، ويتعلق الأمر بالفنان اللبناني الواعد زياد برجي، لقد اتفقنا معه منذ شهرين على جميع التفاصيل، حيث أجرى عليها بعض التغييرات، وسيصور لها «كليب» رائع بالجزائر، وبمنطقتي عنابة وقسنطينة بالتحديد، نحن في اتصالات مستمرة معه عن طريق شقيقي صلاح الدين، ولكننا ننتظر الحصول على التسهيلات من وزارة الثقافة، التي لم تمنحنا الموافقة إلى حد الساعة.
(يتوقف عن الإجابة مرة أخرى، ويحاول أن يستذكر تلك المحطة من حياته، أين وجد إلى جانبه شقيقه صلاح الدين الذي فاجأنا بتتبع خطوات فاضل بدقة كبيرة، وكأن شقيقه الأكبر من يتحدث عن حياته)...لقد تعلمت الكثير في مصر، حيث كانت هذه التجربة مهمة في حياتي، كونها جعلتني أعود إلى الجزائر مشبعا بالفن، كيف لا ولقد مكنتني من الدراسة إلى جانب فنانين كبار، ورموز في الساحة الفنية العربية الآن، في صورة محمد الحلو، وأبناء وديع الصافي، خاصة السيد جورج، والفنان اليمني أحمد فتحي، والنجمة سوزان عطية، وغيرهم من الأسماء التي أخذت منهم وأخذوا مني الكثير، لقد درست في مصر خمس سنوات، ونجحت في تكوين علاقات فنية كبيرة ساعدتني في عملي الفني فيما بعد.
بعد أن أنهيت دراستي بمصر قررت العودة إلى أرض الوطن حتى أخدم بلدي، وأقدم له شيئا مما تعلمته طيلة مسيرتي، لقد تساءل الكثيرون عن سبب عودتي، ولكن الأمور واضحة، وهو أنني لم أكن متحمسا للبقاء أكثر في القاهرة، سيما وأنها كانت تعج بالفنانين، والملحنين في تلك الفترة، وتواجدي إلى جانبهم لن يضيف شيء، علما وأنه قد عرض عليّ العمل بالفرقة الماسية في مصر، ولكنني أصريت على العودة، خاصة وأن بلدي كانت في أمس الحاجة إليّ في المجال الفني.
لما عدت إلى الجزائر تم تعييني كموسيقار في الإذاعة الوطنية ثم قائدا للأوركسترا، كما تم عرض العديد من المناصب عليّ، ولكنني لم أكن متحمسا لها، كوني كنت مركزا على الفن والإبداع، وليس البحث عن الأموال، لقد كانت الأمور تسير معي على أحسن ما يرام في البداية، خاصة وأنني كنت أحظى بثقة واحترام المسؤولين، ولكن الأمور تغيرت فيما بعد، وأصبحت شخص غير مرغوب فيه.
(يتحدث بألم كبير)...أجل لقد تم فصلي بعدها من الإذاعة بطريقة تعسفية، وأفضل عدم الحديث في الموضوع كثيرا، خاصة وأنه يؤلمني بشدة، ويعد من أبرز أسباب مرضي المباشرة، لقد شعرت بالظلم، ولم أستطع تجاوز الواقعة بسهولة، سيما وأنني لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دفعتهم لاتخاذ ذلك القرار، وأترك من قام بذلك لضميره.
حبي لبلدي الجزائر من جعلني أفضل الصمت، خاصة وأنني لم أكن مهووسا بالمناصب والأموال بقدر ما كنت أرغب في تقديم شيء فني مميز يخدم وطني الذي عشقته منذ الصغر، لقد قدمت الكثير من الأعمال الراقية دون مقابل، وكنت أكتفي بأكل الخبز فقط، لقد كنت أوافق على كل شيء، إلى درجة أني عائلتي كانت تلومني في كل مناسبة، خاصة وأنني لم أستفد من شيء يؤمن لي حياتي بعد الاعتزال.
اعتقد أن هناك من استغل طيبتي وسخرها لمآربه الشخصية...، وهنا يتدخل شقيقه صلاح الدين بنبرة حادة، حيث قال: " فاضل لم يأبه يوما بجني الأموال، وطيبته من أوصله إلى هذا الأمر، لقد كنت أغضب في بعض الأحيان لحاله، وأضرب له أحد الأمثال، من خلال سؤاله: كيف تتعامل مع شخص يقوم بتكسيرك عمدا، هل تتغاضى عن الأمر وكأن شيئا لم يكن، أما ترد عليه؟، ولقد كان رد فاضل دوما أتغاضى عن الأمر لأنه قد يكون دون قصد..ويضيف صلاح الدين: طيبة فاضل الزائدة سبب مشاكله."
بكل بساطة الفن سلبني حياتي وجردني من لقب الأب والزوج طوعا وكرها، الفن كان شغلي الشاغل ولأنني كرست له كل وقتي نسيت حياتي الشخصية، ولكن تواجد إخوتي إلى جانبي أنساني هذه المرارة بعض الشيء، خاصة وأنني اعتبر نفسي والد جميع أبنائهم، هم يقدرونني كثيرا، ويحيطونني ويغمرونني بعطفهم الكبير، وأنا أشكرهم بالمناسبة، سيما بعد مرضي، حيث وقفوا إلى جانبي ولم يتركوني أعاني بمفردي.
(في هذا السؤال سارع شقيقه صلاح للتدخل، حيث أكد بأنه من سيجيب عن هذا الأمر، خاصة وأنه كان يود تقديم الشكر لأسرة التلفزيون على هذه الالتفاتة الطيبة، وفي هذا الصدد قال:" باسمي وباسم كل أفراد عائلتي ونيابة عن شقيقي الأكبر فاضل نتقدم بالشكر الجزيل لأسرة التلفزيون الجزائري التي قدمت لبيتنا وأعدت روبورتاج عن فاضل ومسيرته الفنية الكبيرة، هذا الأمر يؤكد مدى حب الجزائريين لأخي ولما قدمه للفن الجزائري، كما نستغل الفرصة لشكر جميع الصحفيين الذين يولون إهتماما كبيرا لحالة فاضل، ويودون معرفة جديده في كل مرة".
مرة أخرى يتحدث شقيقه صلاح الدين، خاصة وأن فاضل وجد صعوبة كبيرة في استذكار أعماله، سيما في ظل كثرتها، وهنا قال وكيل أعمال فاضل:"هناك أعمال كثيرة لشقيقي الأكبر صنعت الحدث عربيا أكثر مما صنعته محليا، بالنظر إلى أن هناك من حرص على عدم تواجدها بالجزائر، ونترك كلا لضميره كما قال فاضل قبل قليل، سأحاول أن أذكر بأعمال فاضل الخالدة، ولو قليلا منها فقط، على اعتبار أنها كثيرة، وتحتاج إلى وقت طويل لاستذكرها جميعا، في صورة أغنية علاء الزلزلي «بزاف»، وأغنية «لمحوني» لأنوشكا و«سراييفو» وأفريكا للعملاق لطفي بوشناق، دون أن ننسى تعامله مع العديد من مخرجي الأفلام، على غرار جمال فزاز، وأحمد راشدي « زهرة اللطف» و« أبواب الصمت» والطاحونة»، وغيرها من الأعمال التي ستبقى راسخة.
(فضل الرد على هذا الاستفسار بإلحاح)....فاضل فنان مجدد، ولا يعارض الإيقاعات الجديدة التي تسيطر على الساحة الغنائية مؤخرا، ولكنه ضد الكلمات البديئة التي لا تشرف الفن الجزائري بأي شكل من الأشكال، خاصة وأنها تصل إلى مستوى القذارة في بعض المرات، أنا فنان مجدد، بدليل أنني تخليت عن مقاطع الـ20 دقيقة وانضممت إلى عصر السرعة التي تتطلب أغاني لمدة ثلاث أو أربع دقائق فقط.
أولا يجب أن أخبركم بأمر وهو أن الفنان في الجزائر يلقب بـ «الشحات»، خاصة في ظل بحثه المستمر عن لقمة العيش، الفن في الجزائر صعب، وهو ما جعلني أحذر أشقائي منه، حيث منعتهم من السير على خطاي، أنا على موعد مع تكريمات عربية عديدة ، وسيكون أمرا جيدا أن أكرم في بلدي أيضا، على هامش التظاهرة التي تستعد قسنطينة لاحتضانها الشهر القادم.