سيدة المسرح الجزائري التي فضلت الرحيل في صمت
ووريت بعد ظهر أمس الفنانة القديرة سكينة مكيو، الشهيرة باسم صونيا، الثرى بمقبرة دالي إبراهيم بالجزائر العاصمة، بحضور أفراد أسرتها الصغيرة و عائلتها الفنية الكبيرة التي أعلنت الحداد، بعد أن فقدت أيقونة المسرح الجزائري، ذات العطاء الفني الغزير و المتفرد الذي رصع مسار أكثر من أربعة عقود من الزمن على الخشبة .
انطفأ نجم صونيا، وهي في 63 من عمرها، لكن مسرحياتها التي تتجاوز الخمسين، ستظل ساطعة كالشمس، تؤرخ لمسارات و أعمال عدة مسارح جهوية عملت بها، انطلاقا من مسرح قسنطينة، فمسرح عنابة، و مسرح سكيكدة، و كذا المسرح الوطني محيي الدين بشطارزي، فقد كانت فنانة بمعنى الكلمة، و كل أبعادها الإنسانية و الجمالية و الإبداعية، تتدفق بأرق المشاعر و تتوهج ذكاء و تتأجج طموحا و تحديات، و كانت تردد دائما « لا يوجد شيء مستحيل، سأحاول و أجرب و أغامر.. و سأنجح».
رحلت ابنة الميلية بولاية جيجل، في صمت، بعيدا عن الضوضاء و الأضواء، بعيدا عن حبها الأبدي الركح، فقد اضطرها المرض الذي عانت منه منذ فترة، إلى أن تقتلع نفسها من بين أحضانه، هي التي طالما توحدت به و انصهرت به وفيه، و نذرت حياتها كاملة له منذ كانت في ربيعها 17، كما ابتعدت عن معظم أحبائها .
عندما تأزمت حالتها الصحية و استبدت بها الأوجاع، رفضت سيدة أبي الفنون أن تسمح لأصدقائها و زملائها و جمهورها أن يشاهدوها و هي مريضة و مرهقة، لكي يحتفظوا بملامحها الجميلة ذات الابتسامة المشرقة و نظراتها التي تشع ذكاء و حنانا، في ذاكرتهم ابتعدت تماما كالطيور التي تنعزل لكي تموت، لكن أعمالها كممثلة و مخرجة تتحدى الفناء و تخلدها، فمن ينسى «العيطة» و بابور غرق» و «فاطمة « و «حضرية و الحواس» و غيرها ، التي جسدت من خلالها هموم و آمال و آلام مجتمعها بأكمله، فقد كانت صونيا محظوظة جدا، لأنها تعاملت مع عمالقة المسرح الجزائري عز الدين مجوبي و عبد القادر علولة و سيد أحمد أقومي و زياني الشريف عياد و امحمد بن قطاف و غيرهم.
سكينة مكيو، و هو الاسم الحقيقي للفنانة صونيا ولدت في كنف أسرة محافظة، في مدينة داخلية صغيرة، هي الميلية بولاية جيجل، و واجهت رفض الأهل و العديد من الصعوبات، عندما أعربت عن رغبتها في ولوج عالم الفن، لكنها رفعت التحدي و التحقت بمسرح قسنطينة في نهاية الستينات، ثم مسرح عنابة، لكن نصحها زملاؤها الأكبر سنا و خبرة بصقل موهبتها بالتكوين و الدراسة في معهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان بالعاصمة.
اقتنعت صونيا بالفكرة و التحقت بالمعهد، رفقة أربع فتيات، من بينهن الممثلة دليلة حليلو، و مجموعة كبيرة من الشبان و درست على يد كبار أساتذة المسرح العربي و تخرجت ضمن دفعة سنة 1973 ، لكن قبل التخرج خاضت تجربة التمثيل، ضمن جمعية القلعة التي أسستها بمعية زملائها، و من بينهم محمد فلاق و حميد رماس، و قدموا معا مسرحية عنوانها «لنعبر العالم الذي عبرنا» حول انحراف الشباب، إلى جانب أعمال أخرى.
عادت صونيا إلى مسرح قسنطينة و هي تحمل شهادة ممثلة محترفة و خبرة لا بأس بها في مجال كان عشقها له يتضاعف يوما بعد يوم ، و قدمت العديد من الأعمال مع فرقته و كذا في مسرح عنابة و المسرح الوطني، كممثلة، ثم كمخرجة ، و في كل مسرحية كانت تبرهن على قدرات إبداعية لا متناهية، تدهش أساتذتها و تسحر جمهورها الذي كان يتسع باستمرار، خاصة و أن العنصر النسوي في السبعينات، كان جد قليل في المسرح و الفن عموما، بحكم العادات و التقاليد السائدة في مجتمع محافظ.
خاضت الفقيدة تجربة إخراج واحدة في السينما، و قدمت عدة أدوار في أعمال تليفزيونية، و قالت للنصر في حوار سابق سنة 2015، بأنها تعتبر التليفزيون محطة و ليست مسارا، فهو لم يضف لها كفنانة ما أضافت إليه هي، و كانت آنذاك تستعد للتقاعد الإداري كمديرة لمسرح عنابة الجهوي، و أوضحت بهذا الشأن »لن أتقاعد كفنانة سأعود بقوة إلى الركح ، بعد أخذ قسط من الراحة و التفرغ لأسرتي و كتابة نصوص مسرحية»، معربة عن سعادتها بالمصادقة على مرسوم الحماية الاجتماعية للفنان أو ما يعرف بقانون الفنان.
و تابعت في نفس الحوار» خلال العشرية السوداء رفعت التحدي مع مجموعة من الفنانين و قدمنا العديد من الأعمال المسرحية على غرار «العيطة» و «حضرية و الحواس» ، لنبرهن بأن المسرح حي رغم العنف، كما شاركت في تظاهرات مسرحية خارج الوطن، لكنني لم أفكر في الهجرة، رغم حبي للسفر ، لأن جمهوري ببلادي التي أحبها، يحبني و سعيد بي و بأعمالي ، و تغمرني كل سعادة العالم، كلما ألتقي بأحدهم و يحييني، رفضت الموت بالتقسيط بعيدا عن أحبائي».
و أعربت صونيا في نفس الحوار، عن حسرتها لرحيل قامات فنية شاهقة، على غرار مجوبي و علولة و فتيحة بربار و غيرهم في صمت، و يبدو أنها اقتدت بهم و رحلت هي أيضا في صمت مطبق و موجع، دون أن تلتقط الكاميرات صورها على فراش المرض، و هي محاطة بالمسؤولين و الزوار، أو تضطر لتتصنع الابتسام و التماثل لشفاء بعيد المنال من مرض عضال.
بطلة مونودراما «فاطمة» الذي أبرزت من خلاله لأول مرة خلال مسارها المسرحي، الجانب الكوميدي المغمور داخلها، لتخصصها طويلا في تقديم الأعمال التراجيدية، تقلدت عدة مناصب إدارية، كمديرة لمعهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان، فمديرة مسرح سكيكدة، ثم مديرة مسرح عنابة، قبل أن تحال على التقاعد الإداري، لكنها و بشهادة زملائها ، لم تكن تشعر بالارتياح و السعادة ، إلا عندما تعتلي خشبة المسرح ، و توجه و ترشد الممثلين و تنظم لفائدتهم دورات تكوينية لتفجير مواهبهم، و العديد منهم يدينون لها بنجاحهم،كما يعترفون من جهة أخرى، بنجاحها في التسيير و الإدارة .
جدير بالذكر أن صونيا التي افتكت العديد من الجوائز الوطنية و الدولية خلال مسارها الفني الطويل، تزوجت من الممثل الكبير سيد أحمد أقومي و أنجبت منه ابنتها الوحيدة الممثلة سامية مزيان ، ثم انفصلا، لتتزوج لاحقا من الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم.
مدرسة أخرى في المسرح الجزائري و قامة فنية نادرة، يأفل نجمها، تاركة فراغا كبيرا في الساحة الفنية و في قلوب المئات من جمهورها و كل عشاق الفن الأصيل و الجميل ليس في الجزائر فقط ، بل في كافة بلدان المغرب و المشرق العربي، حيث تمكنت من نقش اسم من ذهب.
إلهام طالب
زميل صونيا في معهد الفنون الدرامية السعيد زنير
كانت تخاف الفشل و مسرح سكيكدة ازدهر في عهدها
قال للنصر زميل الفقيدة صونيا في الدراسة بمعهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان وفي مسرح سكيكدة الفنان السعيد زنير » أنا و الراحلة صونيا تخرجنا من معهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان دفعة 1969ـ 1973 وكان معنا ضمن هذه الدفعة أشهر الفنانين من بينهم من رحلوا و البقية لا يزالون على قيد الحياة، على غرار رماس و عمار محسن، كان أساتذتنا بالمعهد من عمالقة المسرح العرب، على غرار كرم مطاوع وسعد أردش.
كانت صونيا في ربيعها 17 عندما التحقت بالمعهد وكانت منضبطة و جادة و مميزة و قليلة الاختلاط بزملائها في المعهد، وكانت تربطها بالجميع علاقة احترام و تقدير متبادلة. و عندما قدمنا عملا جماعيا بالمسرح الوطني، بمناسبة الذكرى العاشرة للاستقلال ، شكرنا الأستاذ جميعا ، لكن حظيت صونيا و مصطفى عياد بثناء خاص. بصراحة كان للفقيدة طابع خاص في الأداء و موهبة رائعة لا يمكن إلا أن تنال إعجاب و تثمين من يراها.
بعد التخرج التحقت بمسرح وهران، و لم أكن ألتقي بصونيا، إلا في التظاهرات الفنية، و في 1979 عدت إلى مسقط رأسي سكيكدة، و عملت بالمسرح الجهوي هناك كممثل، و في2009 تم تعيين زميلتي صونيا مديرة لذات المؤسسة التي كنت أعمل بها كرئيس الدائرة الفنية و التقنية قبل أن أتقاعد، في الواقع أسعدني كثيرا تعيينها لفائدة الحركة المسرحية بالولاية و بالوطن ككل وبالفعل انتعش المسرح بأعمال كثيرة للكبار و الصغار و عاش عصره الذهبي في عهدها. كانت ذكية و حنونة و متواضعة جدا ، و كنا نقرأ معا النصوص المسرحية التي تعرض على المؤسسة و نناقش معا كل التفاصيل قبل أن نقرر إنتاجها، كما تألقت في إخراج ثلاث مسرحيات، أعتقد أن أنجحها هي «أمام أسوار المدينة».
و أضاف الفنان بأن صونيا كانت تخاف الفشل ، و لا تؤمن بالمستحيل ، لذا كانت تبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق النجاح و التميز في كل أعمالها ، مشيرا إلى أنها عانت و تعبت كثيرا في حياتها ، و كانت تبكي عندما تحاصرها بعض الذكريات المؤلمة.
وتابع بأنها تعلقت كثيرا بسكيكدة وتمنت أن تقضي بها ما تبقى من حياتها ، و توجهت على مضض إلى عنابة عندما عينت مديرة لمسرحها الجهوي، و ذكر بأنه التقى بها آخر مرة في عنابة في مهرجان المسرح النسوي سنة 2015 وأخبرته بأنها زارت الطبيب وأثار مخاوفها على صحتها، عندما عاينها، و نصحها بالاعتناء بنفسها و صحتها، و لم يلتقيا منذ ذلك التاريخ، معربا عن تأثره الشديد بفاجعة رحيلها و اعتبرها خسارة لا تعوض للفن الجزائري الحقيقي».
إ,ط
المخرج علي عيساوي
الفقيدة ساهمت في إنجاح «فضاءات المسرح»
كشف المخرج علي عيساوي بأن الفنانة الراحلة صونيا رافقت و ساهمت في إنجاح حصة «فضاءات المسرح» التي كان يعدها و يخرجها للتليفزيون الجزائري، و تعنى بشؤون أبي الفنون و قضاياه و تعرض مختلف الأعمال المسرحية،حيث كانت، كما أكد، تقدم له العديد من التوجيهات ، كما تجري حوارات مع فنانين و مخرجين مسرحيين لإثراء الحصة.
و اعتبر عيساوي الفقيدة أختا و صديقة و قامة فنية لطالما افتخر بنجاحاتها، و يؤلمه كثيرا فراقها المبكر، و لا يزال يتذكر تألقها في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح طبعة سنة 2011 ، حيث كان متواجدا هناك لتخليد لحظات الإعلان عن أسماء المتوجين في ختام التظاهرة، و كان يقف في شرفة مخصصة للمخرجين و الإعلاميين في أعلى الركح، و عندما قدمت له قائمة الفائزين و وجد اسم صونيا بينهم، لم يتمالك نفسه و صرخ بأعلى صوته «صونيا» فسجلت مختلف تليفزيونات الدول المشاركة اللقطة التي تنم عن حبه و تقديره و اعتزازه بالفقيدة، مشيرا إلى أنها افتكت جائزة أحسن دور نسائي و كذا جائزة بلدية تونس، و برصيد الفقيدة قائمة طويلة من الجوائز الوطنية و العربية و الدولية .
و أكد المتحدث بأنه تعرف على صونيا في بداية السبعينات بمسرح قسنطينة، قبل أن تتوجه إلى الدراسة في معهد برج الكيفان للفنون الدرامية، مشيرا إلى أنها من دفعة عمار محسن و دليلة حليلو و حميد رماس و غيرهم ، و مثلت في بداياتها في مسرحيات «حسنا و حسان» و «الخطبة ديال سيدنا»، و في سنة 1987 ، التقيا مجددا ، و أجرى معها رفقة الفنان حسان بوبريوة في بهو مسرح عنابة حوارا بثه في حصة «فضاءات المسرح» ، و أضاف « في 1988 علمت بأن صونيا و امحمد بن قطاف و عز الدين مجوبي و زياني الشريف عياد ، قرروا الانسحاب من مسرح عنابة و التضحية بالأقدمية و الراتب ، لأنهم كانوا يعانون من ضغوط، لخوض مغامرة المسرح غير الحكومي، من خلال جمعية القلعة، و قدموا أول عمل و هو «العيطة»، فحققوا نجاحا مذهلا، حفزهم على مواصلة درب الإبداع الحر».
و قال المخرج بأن صونيا ذات موهبة فذة لا تضاهى ، و قد تألقت كثيرا في تقمص الأدوار المركبة، و مرافقة ممثلين رجال على الركح في قائمة طويلة من المسرحيات، في حقبة كانت الممثلات قليلات جدا.
و ذكر بأن الفقيدة غنت في عملين مسرحيين اثنين فقط طيلة مسارها و ذلك بطلب من المخرج، و هما «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» و «قالوا العرب قالوا» لزياني الشريف عياد، الذي أدت فيه دور قوالة، بالرغم من أن هذا النوع من الأدوار كان يسند عادة للرجال، و كالعادة كان النجاح حليفها.
و أشار المتحدث إلى أن صونيا كانت محافظة لمهرجان المسرح النسوي، و التقى بها خلال طبعاته الأربع ، مؤكدا بأن «فقدان صونيا خسارة لا تعوض للمسرح الجزائري».
إ.ط
زين الدين ناصر رئيس الدائرة الفنية و التقنية لمسرح سكيكدة
على يد صونيا عرفت معنى احتراف التمثيل
قال رئيس الدائرة الفنية و التقنية لمسرح سكيكدة الجهوي ،زين الدين ناصر ، بأن صونيا شغلت منصب مديرة لهذا المسرح في أواخر سنة 2009 و كان آنذاك ممثلا و عرف على يدها معنى الاحتراف في المسرح ، فقد فتحت أبواب المسرح للفنانين و استمعت إلى انشغالاتهم و وجهتهم و احتضنت مواهبهم و كلفت أساتذة بتأطيرهم في دورات تكوينية، و بفضلها حقق مسرح سكيكدة النجاح و التميز و توج بالجوائز و آخرها جائزة أحسن عمل متكامل.
و أضاف بأن الفقيدة التي يعتبرها بمثابة الأم و الأخت ، وضعت نهجا لتسيير المؤسسة لا تزال تلتزم بها فهي مسيرة و فنانة ناجحة و مميزة، مشيرا إلى أنها عندما كانت مديرة أخرجت ثلاث مسرحيات و هي «أمام أسوار المدينة» و «ثورة بلحرش» و «راس الخيط» و لم تكن تشعر بالارتياح و السعادة إلا عندما تغادر مكتب المديرة إلى الركح، لتوجه الممثلين و تمنحهم الثقة في أنفسهم و تزرع في قلوبهم عشق أبي الفنون. و أشار المتحدث بأنه أصبح إداريا و ترك التمثيل منذ مغادرة سيدة المسرح لسكيكدة نحو مسرح عنابة، معربا عن تأثره و حزنه الشديد لرحيلها المفاجئ «.
إ,ط