تعيشُ الدولة الوطنيّة إحدى أصعب لحظات تاريخها، لحظة قد تنسفُ ما تم بناؤه، ما لم يُسمع صوت العقل في الوقت المناسب، أي قبل الانفلات الكبير الذي يكفّ فيه النّاس عن الاستماع.
لقد ولّد تراكم الإخفاقات الغضب الشعبي الذي دعا «النظام» إلى الرحيل، وهو مطلب مشروع، يحتاج تحقيقه إلى مراعاة عدم الإضرار بالدولة وترتيب تحوّل ديمقراطي دون إراقةِ دماء، و لا يحتاج الجزائريون في ذلك إلى من يذكّرهم بالحرب الأهليّة، ولا بتجارب الربيع العربي المجهضة ولا إلى من يحذّرهم من خطر، لأن النّخب السياسيّة الحاكمة كثيراً ما استخدمت ذلك في أدبياتها لتبرير ممارساتها أو لتقديم نفسها كبديلٍ للخراب، في إنكارٍ للواقع تحوّل مع مرور الوقت إلى فخّ .
«الأنانيات» ذاتها قد تنبتُ في مواقع أخرى، إذ لا يكفي «الظهور» في مظاهرةٍ لإثبات جدارةٍ أو محوِ تاريخٍ أو منح «حقّ حصري» للذات في رسم المستقبل، وإصدار الفتاوى على مدار الساعة، لأن الأمر يتعلّق بكل بساطة بإعادة إنتاج للاستبداد.
كما أن اكتشاف الحقّ والباطل لا يتمّ بعد التقاعد، أو بعد نهاية الخدمة، والتظاهر، وحتى وإن كان سلوكاً محموداً، فإنه لا يخفّف الموازين ولا يمسح السّجلات.
وربّما أحال الخطاب العنيف الذي يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي وحملات التخوين، بالمناسبة، إلى «سكاكين» قديمة استخدمت خلال ثورة التحرير، ولم تُستخدم في كل مرّة على الوجه الصّحيح، واستخدمت في سنوات الأزمة الدمويّة ضدّ المختلفين عن الطرفين المتناحرين، ومن فضائل الوسائط الالكترونيّة أنّها تتيح فرص «الطّعن الافتراضي» الذي يوفّر على حملة السكاكين مشقّة المرور إلى الطّعن الحقيقي.
هذه الأحقاد الصغيرة التي تُزهر، تبطل مقولات عن الازدهار المفاجئ لثقافةِ العيْشِ المشترك في مجتمعٍ يمرّ بحالة سلامٍ هشّ، لذلك نحتاج إلى إخفاءِ السكاكين وتصفيّة الأحقاد، و نقل «حالات التحضّر» التي ظهرت في المظاهرات إلى حياتنا اليوميّة و إدامتها، إذ لا يعقل- مثلا- أن نحترم المرأة في المسيرة ونسيء لها بعد ذلك.
والحاصل أنّ الحركات الشعبيّة تُتيح للأمم لحظات «جنون جماعي» تمكّن من التخلّص من المكبوتات والمخاوف، وتتيح فرص التقدّم إلى الأمام إذا تمّ تصريف الجنون عوض السقوط فيه.
سليم بوفنداسة