دفع ما يحدث في الجزائر مثقفين إلى «جلد الذات»، خشية تأخّر عن حركة التاريخ. لكن هذا السلوك يبدو مبالغاً فيه، فالمثقّف الجزائري صاحب بناء الدولة الوطنيّة بالنقد، ونال امتياز «معاداة النظام» قبل الجماهير بكثير، وجرّب السجن والمنفى والشّعب لم يفرغ بعدُ من الاحتفال بالاستقلال. وجرّب المقاومة والصّمت وعاش بين نارين، نار السّلطة السيّاسية التي تعتبره فائض قيمة، ونار المجتمع الذي يُحقّره دونما سببٍ، ثم نال العقاب في الحرب الأهليّة العبثيّة التي عاشتها البلاد والتي لم تُفصح عن كلّ أسرارها حيث قُدّم كقربانٍ على مذبح المتحاربين.
ولم يتأخّر المثقّفون في تقديم المعاينات الضّرورية، التي تُلحّ على ضرورة بناء الإنسان الجزائري وتمكينه من الحريّة والديمقراطية، لكن هذا الخطاب عادةً ما يصطدم بلا مبالاة السياسيين، وتسفيه المجتمع الذي يعتبر مُنتجيه كفاراً وزنادقة !
الآن وقد حدث ما كان يجب أن يحدث، فإن الحماسة لا تكفي ولا تنفع، وعلى «المثقّف» أن يحافظ على رجاحةِ عقلٍ تمكّنه من فحصِ الواقع بالنظرة النقدية ذاتها، نظرة لا تكتفي بملاحظة الظاهر بل تُشير إلى الباطن، أي إلى حالة التخلّف التي تصاحب الإخفاق في بناء دولة حديثة.
فالحياة السيّاسيّة تعيش حالة تصحّر، نتيجة ممارسات إقصائية تسبّبت في عزوف الأجيال الجديدة المتعلّمة عن ممارسة السيّاسة، في وقت تقدّم فيه أثرياء الحرب وما سبقها وما تلاها إلى حياتنا الحياة العامّة، وهم في الحقيقة، لم يتقدّموا لممارسة السيّاسة بل للوصول إلى منابع الريع في دولةٍ اكتفت بالعيش ممّا تخفيه الأرض في باطنها.
في وضع كهذا فإن «إسقاط النظام» قد يقدّم البلاد إلى قوى أكثـر تخلّفاً، وهذه ليست دعوة إلى إبقاء الأمور على ما هي عليه، بل تنبيه إلى ضرورة الحذر، فالحركات الشعبيّة غير المؤطرة، أو التي تدفع إليها قوى غير مرئية (عادة ما تكون قوى خرجت من جنّة السلطة والريع وتريد العودة ! ) تنتهي إلى فراغ وخيبة وتجعل العودة إلى ما كان قائماً أمراً ممكناً ومستحبّاً في الكثير من الأحيان.
يعلّمنا طبيب المجتمعات العربيّة الذي فحص بُنية تخلّفها، هشام شرابي، أن «النّظام الأبوي» يعيد إنتاج نفسه في المجتمعات المتخلّفة، وذلك هو مرضنا المزمن.
لذلك فإن ما تعيشه الجزائر من حراك شعبي هو مقدّمة للعلاج وليس علاجاً في حدّ ذاته، ودور المثقف يتوقف على إنتاج المعرفة واستغلال مكانته الرمزيّة (إن وُجدت) في الحفاظ على قيّم الحريّة والعدالة والحق، وليس الرّكض والشّتم والصّراخ !
سليم بوفنداسة