* الحََراك أعطى مثالا للعالم عن نضج المجتمع الجزائري
عالم غير اعتيادي جمع بين الفيزياء والفضاء والطب وعلوم البصريات، فخرج بابتكارات واكتشافات تُوجت بأزيد من مقالة علمية وعشرات التكريمات وبلقب «سفير المريخ»، هو الجزائري نور الدين مليكشي ابن مدينة الثنية الذي أصبح من ألمع الباحثين في العالَم، وجزءا هاما من فريق علمي خاض سباق استكشاف الكوكب الأحمر منذ أزيد من 10 سنوات. النصر تحدثت إلى البروفيسور عن مساره الحافل ليفصّل في محطاته بدءا من التحاقه بالجامعة و شغفه بالضوء إلى توصله لتقنية ثورية تكشف عن السرطان، كما يتحدث عميد كلية كيندي عن البحث العلمي ويبرز أهمية زرع حب العلوم وحس الابتكار عند الأطفال، إضافة إلى مواضيع عدة تطالعونها في هذا الحوار المطوّل.
حاورته: ياسمين بوالجدري
* نبدأ الحوار من الجزائر أين زاولت التعليم إلى غاية تخرجك من الجامعة، فقد اخترتَ وأنت في عمر 16 سنة الابتعاد عن عائلتك بالثنية لدراسة شعبة الرياضيات بالعاصمة، لماذا الرياضيات؟
في الطور المتوسط بالثنية، أعجبتني الرياضيات كثيرا لأنها لغة العلم وأنقى شكل للفكر، أدركت أنها علم تجب دراسته لأنه ضروري للعلوم و التفكير المنطقي. كان ذلك بعد 10 سنوات فقط من استقلال الجزائر وهي فترة كان التعليم فيها يقدم بإمكانيات قليلة.
في ثانوية عبان رمضان بالعاصمة وجدنا أساتذة رائعين قدموا لنا الكثير للتعلم، إلى أن نلت شهادة البكالوريا سنة 1976.
الدراسة بالجامعة كانت صعبة لكن الشعب الجزائري دعمنا
* تخرجت من جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا سنة 1980 بشهادة الدراسات العليا في الفيزياء، لتكون ضمن أولى دفعاتها في فترة تميزت ببدايات التأسيس للتعليم العالي بالجزائر. هل كانت دراسة بطعم التحدي؟
كانت جامعة الجزائر للعلوم والتكنولوجيا، حديثة النشأة وقتها وأظن أنني كنت ضمن ثاني دفعة تخرجت منها. لأنها جامعة جديدة تطلبت حينها عملا كثيرا، لقد كان هناك مدرجان فقط وكانت ورشات البناء مستمرة ونحن ندرس، فالعمال والآليات وأصوات المطرقات رافقتنا.
النقل لم يكن متوفرا كذلك، ما صعب من الوصول إلى الجامعة وجعل الطلبة يعودون إلى منازلهم في وقت متأخر، حتى أن بعض زملائي المتفوقين توقفوا عن الدراسة. فالقطار كان وسيلة النقل الأساسية وإذا لم يمر صباحا فلن نتمكن من الالتحاق بالمدرجات.
في المقابل كان الأساتذة جيدون جدا، لقد قدموا لنا كل ما لديهم للتعلم وساعدونا. في ذلك الوقت، أي خلال السبعينيات، كنا نحس أن الشعب كله يريد مساعدة الطلبة لكي يتموا الدراسة، كان المواطنون يتوقفون في الطريق لنقلنا بسياراتهم الخاصة. لقد أعطوا أهمية لنا و وثقوا فينا ورأوا فينا مستقبل بناء الجزائر. تشكّلت حينها إرادة شعبية شعرنا بها كطلبة، وهذا ما شجعنا.
* تحصلت بعدها على منحة للدراسة في الخارج والتحقت بجامعة ساسكس بإنجلترا، أين تخصصت في بصريات الكم. ما سبب شغفك بدراسة علوم الضوء؟
لأن الضوء لعب دورا مهما جدا وأساسيا في الفيزياء. لقد أعجبني لأن فيه أسئلة أساسية تتطلب دراسة وتطبيقات كالتي نراها في الليزر. به نفهم المادة وهو الذي ساعد على ولادة الميكانيك الكمي، فإذا أردنا فهم دراسة المادة في شكلها الأساسي يجب دراسة الضوء.
تعويد الطفل على طرح الأسئلة ضروري
ألبرت أنشتاين بحث كثيرا في الضوء، والعمل الذي قام به سنة 1905 أتى بثماره بعد 50 سنة بمجيء الليزر الذي يستعمل في الطب والصناعة والاتصالات وغير ذلك.
* بدراستك جزئيات الضوء، بحثت عن كيفية تعامل إشعاعات الليزر مع الذرة، ما مدى أهمية القوانين التي خرجتم بها وقتها؟
عند التحاقي بجامعة ساسكس، اخترت العمل مع بروفيسور مهتم بمجال الضوء، وقد نشرت سنة 1986 أول مقالة لن أنساها. لقد وضعنا قوانين تحدد كيفية تسرب الضوء داخل الذرة، ما يزال الباحثون يستعملونها لليوم و يدرّسونها. لقد علمت هذه السنة أن جامعة يابانية تعتمد هذه القوانين. عملنا بعدها على تداخل الذرة والفوتون وحصلت على شهادة الدكتوراه سنة 1987.
* عدت عقب ذلك للجزائر ودرّست بها حتى بداية التسعينيات، ثم غادرتها إلى أمريكا بسبب الظروف الأمنية التي عاشتها البلاد وقتها. هل ترى أن هذه الخطوة كانت ضرورية في مسارك؟
بعد إنهاء الدكتوراه، واصلت العمل في إطار ما بعد التدرج في لندن، وحينها تواصل معي أساتذة وعرضوا علي العمل في غرونوبل الفرنسية مع فريق فيه أوروبيون، حيث قدموا كل التسهيلات لكي أبقى معهم، لكنني كنت أزور الجزائر باستمرار وقتها وكان علي أداء الخدمة الوطنية، فاعتذرت منهم.
قضيت عامين في الخدمة الوطنية، نصفها في الخدمة المدنية بالتدريس في جامعة باب الزوار، أين بدأت العمل في مخبر. وقتها كانت الحالة المادية والأمنية والبيئة المحيطة لا تسمح بالتركيز على البحث، فلم أشأ إهدار الوقت وغادرت الجزائر بعد إتمام مدة الخدمة. سافرت إلى أمريكا ولم أفكر وقتها أنني لن أعود، فقد غادرت الجزائر على أمل العودة بتحسن الأوضاع.
* لماذا قرّرت الاستقرار في الولايات المتحدة؟
ذهبت إلى أمريكا في زيارة لعائلة زوجتي على أساس البقاء هناك لشهر فقط، وهناك التقيت بالبروفيسور إيدوارد أيلر في جامعة ديولاوير وهو عالم معروف، حيث عرض علي العمل معه، فترددت وقلت له أنني لا أملك حتى منزلا، ثم قبلت وبقيت في دويلاوير، وبعد كل سنة أمضيها كان البروفيسور يعرض علي الاستمرار في العمل معه، حيث قُدمت لي تسهيلات كثيرة وتم توفير كل التجهيزات في المخبر ما يجعل الباحث يركز على البحث، وغير مضطر للتفكير في شيء آخر أو في استخراج الوثائق.
تحسين ظروف البحث العلمي لا يُختزَل في توفير السكن
أذكر أنه خلال فترة بقائي في الجزائر، كانت الأوراق تضيّع وقتي بسبب البيروقراطية. لو بقيت هناك، لكنت سأهدر معظم الوقت في تحضير ملف السكن وغير ذلك. لقد كان عليّ تقديم وثائق تثبت امتلاكي لشيء معين، وإذا لم أمتلكه فإنه يتعيّن علي أيضا تقديم وثائق تثبت هذا الأمر أيضا.
* بأمريكا تفجرت طاقتك وبدأت أبحاثا حول توظيف الضوء في مجالات كالطب. كيف استطاع هذا البلد أن يهيئ للباحثين بيئة بحث علمي مُستقطِبة للأدمغة؟
أولا، البحث في العلوم يستلزم معرفة درجة الاستثمار المُتاحة. دول الاتحاد الأوروبي تخصص جزءا من ميزانياتها للبحث العلمي، ولقد فهمت منذ مدة، أن كل دولار يذهب إلى البحث، سيعطي أكثر بكثير مما قد تجنيه لو أنفقته في مجال آخر.
50 بالمئة من التقدم الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، كان بفضل البحث العلمي بشكل مباشر أو غير مباشر. لقد أصبح البحث اليوم، أساس تكنولوجيا الغد، وقد قدمت لك مثالا عن نتائج الأبحاث حول الضوء، والتي أتت بعد حوالي 50 سنة، باكتشاف أشعة الليزر.
ثانيا، يجب أن تكون للباحث القدرة على التعبير والتفكير بحرية والابتكار والتخمين وتبادل الأفكار. دون ذلك لا يمكن القيام بالبحث العلمي.
ثالثا، العلم يتقدم بطرح الأسئلة، بالمقابل ينشأ الأطفال الصغار على أنه ليس لديهم الحق في طرح الأسئلة فيفقدون حس التساؤل ولا يصبح بمقدورهم التعبير عن أنفسهم، وهذا الأمر موجود في مجتمعات عديدة ومنها دول أوروبا الشرقية، وليس بالجزائر فقط، لذلك تتفجر طاقات الباحثين القادمين من هذه الدول، عند القدوم لأمريكا، إذ يجدون، فجأة، بأنهم قادرون على التعبير عن أنفسهم.
بيئة البحث ليست فقط توفير السكن، بل يجب أن تكون هناك رؤية على المديين القصير و الطويل، فالأمر يتعلق بالرؤية و طرح السؤال الآتي: سنقوم بالبحث العلمي لأي سبب؟
من النادر أن يستطيع الباحث العمل بمفرده، إذ يجب وجود شبكة ورؤية لحل المشاكل.
مرض شقيقتي جعلني أعمل على التشخيص المبكر للسرطان
* هل هناك بلدان بدأت تسير في هذا الاتجاه؟
نعم، هناك بلدان بدأت مؤخرا في هذا الأمر، مثل البرتغال. مقارنة بما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي، فأصبحت لها اليوم جامعات معروفة وباحثوها يتقدمون. هناك أيضا سنغافورة على سبيل المثال.
ماذا عن الجزائر، هل ما تزال بعيدة أم أن هناك إمكانية لتحسين مناخ البحث على مدى قريب؟
ليست بعيدة، لكن لتلحق بالركب يجب القيام بالأمور التي ذكرتها. البحث العلمي لا يبدأ مع دراسات الدكتوراه، بل حتى من الثانويات وتعليم التلاميذ كيف يطرحون الأسئلة وكيف يتحلون بالدقة وبالتفكير المنطقي، وهنا أوكد أن الباحثين الجزائريين جيدون، والدليل على ذلك أنهم ينجحون في الخارج، فالمشكلة إذن ليست في الأشخاص، بل في خلق بيئة تسمح لهم بالعمل، والتركيز على الطفل لكي يكتسب حسا نقديا منذ الصغر. العلم ليس الحصول على معلومة و وضعها على ورق، بل تلقف المعلومات ورؤية ما لا يراه الآخرون ويتطلب هذا الأمر الخيال و الابداع اللذين يتطوران لدى الطفل منذ الصغر.
فخور لأنني مثلت الجزائر في مهمة «كوريوسيتي»
* أسست مركز العلوم البصرية للأبحاث التطبيقية «أوسكار»، وبدأت تشتغل فيه على تشخيص السرطان. لماذا اخترت البحث في هذا المجال الذي يبدو بعيدا عن شغفك الأول وهو الضوء؟
عندما أصيبت شقيقتي حسيبة بالسرطان، الذي توفيت به في ما بعد، قرأت عن هذا المرض وبأن الكثير من الأشخاص في العالم يموتون بسببه، فسألت أساتذة الطب، أين تكمن المشكلة؟ ثم فهمت بأن بعض أنواع السرطان يمكن علاجها إذا اكتشفت مبكرا، لكن المشكلة أن التشخيص المبكر لا يحدث بسبب التكاليف الباهظة، كما أن هناك أنواعا لا تظهر معها أعراض سريرية تجعل المصاب يراجع الطبيب.
بدأت العمل على سرطان المبيض الذي يقتل 26 ألف شخص سنويا في الولايات المتحدة لوحدها، وتحدثت إلى باحثين كبار وسألتهم لماذا هذا المرض صامت، فأجابوا بأن 95 بالمئة من الحالات يمكن علاجها إذا حدث كشف مبكر. هنا اقترحت اختبارا لا يتطلب أخذ خزعة وتجهيزات كبيرة واستعملنا عوض ذلك سوائل الجسم، فبدأنا العمل على دراسة الدم ضمن تجارب انطلقت من الفئران وقارنا الخصائص الفيزيائية لعينات الدم بين المرضى وغير المرضى واستعملنا في ذلك الذكاء الاصطناعي، فحققنا نتائج مشجعة نشرناها في المجلات العلمية سنة 2012، وقد أصبحت تُستخدَم اليوم في الصين.
* ما هي آلية عمل هذه التقنية؟ كيف توظف علوم الضوء في تشخيص السرطان؟
تعتمد هذه التقنية على الدراسة الضوئية والفيزيائية على مستوى الذرة ضمن ما يعرف بفيزياء الدم التي طورنا بها خوارزميات. سأشرح أكثر. عندما يولد الطفل مريضا بداء اليرقان لا يعرف الأطباء أنه مريض به حتى تظهر عليه الأعراض، لكن التغيير في جسمه بدأ قبل ذلك ويمكن معرفته من الدم. كذلك الأمر في الورم السرطاني الذي يحدث تغييرات في الدم. في بداية السرطان تكون هذه التغيرات طفيفة على مستوى الذرة وهو ما يمكن معرفته بالكشف المبكر الذي لا يؤكد تماما أن الشخص مريض بالسرطان لكن يحذر من أنه ربما يصاب به.
* قلت إن الصين بدأت العمل بهذه التقنية، متى يمكن تعميمها على باقي دول العالم؟
هناك دول في أوروبا تعمل عليها أيضا، لكن تعميمها ليس أمرا سهلا. صحيح أننا حققنا نتائج جيدة لكن يجب القيام بالكثير من الاختبارات حيث ما نزال نشتغل على هذا الأمر حاليا مع سرطان الميلانيوم وبدأنا في تطبيق التقنية بالنسبة لسرطان البنكرياس. قبل سنوات قليلة بدأنا العمل على الزهايمر بنفس الطريقة لكن باختبارات مختلفة، فمنذ قرابة شهر نشرنا أول مقالة علمية حول تشخيص الزهايمر باستخدام القياس الطيفي للتكسير المستحث بالليزر و تعلم الآلة.
لم يبدأ تطبيق التقنية بعد في الولايات المتحدة لأن خروج اختراع ما من المخبر إلى التطبيق يأخذ وقتا طويلا بهذا البلد، إذ يجب أن يمر على عدة مؤسسات و اختبارات، لكن في الصين الأمور تسير بمرونة حيث بدأ الاعتماد على تقنيتنا وأنا أحيي زملائي الباحثين هناك، لقد كانت النتائج جيدة لديهم.
الباحثون الجزائريون جيدون وينجحون في الخارج
* هل تتوقع أن يكون لها دور في تقليص أعداد الوفيات بالسرطان؟
هذا هو هدفي. هناك عدة مخابر بدأت تعمل على التقنية في العالم وهذا جيد بالنسبة لي، لكن يجب الانتظار حتى تكون عملية، فالعلم لا يسير بالتمني بل بالدليل.
ما ذكرتَه يجّرنا إلى الحديث عن أشخاص ظهروا خلال جائحة كورونا وحتى قبلها للترويج لما وُصف بادعاءات حول اكتشاف علاجات لم تنشر بشأنها أية أبحاث بمجلات محكمة و لم تُجر اختبارات تُثبت نجاعتها، وهي ظاهرة نراها في الجزائر و ببلدان أخرى منها أمريكا. ما تعليقك على هذا الأمر؟
لا أستطيع أن أقول إن كان هؤلاء الأشخاص مدّعون أم لا، لكن ما أعلمه أن العلم يعني الصرامة و الدقة، أمور كهذه تأخذ وقتا سواء أحببنا ذلك أو لا، فنحن نتحدث هنا عن مجالات البيولوجيا و الطب، والأمر لا يتعلق باختراع في مجال الأجهزة الالكترونية أو بالسياسيين أو غير ذلك، بل بعمليات متقلبة وبتفاعلات تحدث في الجسم.
مع ظهور جائحة كوفيد 19، خرج في الولايات المتحدة والصين وبلدان أخرى أشخاص يتحدثون عن توصلهم لعلاجات، لأن هناك ربحا ماديا سيتحقق في الأخير، وهو سباق يجب ألا يحدث على حساب العلم.
لا يهم هنا الكلام والوعود، بل الاختبار العلمي وما يأتي به من نتائج. في أمريكا نسمع عن أشخاص يقولون إنهم توصلوا إلى لقاحات ضد فيروس كورونا، وإذا كان هذا فعليا فإنه شيء جيد، لكن ما يهم، كما أسلفتُ، هو الاختبارات ونشر الأبحاث في المجلات العلمية.
سباق لقاحات كورونا لا يجب أن يكون على حساب العلم
* هل بدأتم أبحاثا متصلة بإيجاد علاجات لمرض كوفيد 19، أو تفكرون على الأقل في هذا الأمر؟
يمكن أن يحدث هذا مستقبلا، ليس في مجال إيجاد لقاح أو علاج، بل ربما في معالجة البيانات العلمية. قد نعمل على مقارنة دم الشخص المصاب بغير المصاب لكي نفهم ماذا الذي يُحدثه فيروس كوفيد 19 عندما يدخل جسم الإنسان.
* ننتقل الآن إلى جانب آخر من مسارك العلمي الحافل، فقد التحقت بوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» بعد منشور علمي أثار اهتمامها وبدأت التعاون مع مخبركم منذ سنة 2009 في أبحاث حول استكشاف المريخ. ما الذي تمثله هذه النقلة المهنية بالنسبة لك؟
أنا سعيد و فخور بالعمل على مشروع كبير كهذا ضمن فريق يضم 200 إلى 400 شخص حول العالم، لأن الأمر يتعلق بما يعرف بالعلوم الكبرى التي تضيف كثيرا للباحثين في مسارهم العلمي، كما أفتخر لأنني أمثل الجزائر في هذه المهمة وأمثل كذلك الجامعة الجزائرية وهذا ما يحفزني على تقديم الأفضل.
* أطلق عليك الحاكم السابق لولاية ديلاوير الأمريكية لقب «سفير المريخ» سنة 2011، حدثنا قليلا عن كواليس التتويج وكيف استقبلته؟
كنت وقتها الشخص الوحيد من ديلاوير الذي يشارك في مهمة استكشاف المريخ، وعلى هذا الأساس زارني بالمخبر، الحاكم السابق للولاية، جاك ماركيل، وهو عضو في الحزب الديمقراطي، ونائبان في مجلس الشيوخ الأمريكي، فشرحت لهم العمل الذي قمت به في إطار المهمة. بعد هذه الزيارة اتصل الحاكم بأحد مساعديه لعرض قرار بإطلاق لقب سفير المريخ علي، على التصويت في مجلس الشيوخ، وبالفعل مرّ القرار بإجماع من النواب الديمقراطيين والجمهوريين، فكنت بذلك أول شخص في العالم يصبح سفيرا لولاية دويلاوير في كوكب المريخ.
يوم التتويج تقرر المجيء إليّ للجامعة من أجل تكريمي عوض أن أذهب بنفسي إلى الحاكم. وقتها كنت منشغلا في أبحاثي ولم أعلم بخبر إطلاق اللقب علي. تفاجأت يومها بحضور صحفيين وهم يسألونني عن ذلك. وقتها قلت للحاكم مازحا ما الذي يتعيّن عليه فعله الآن بعدما أصبحت سفيرا للمريخ (يضحك)؟ أذكر أن محادثة طريفة دارت بيننا وضحكنا. قدمت لي حينها جوازات سفر رمزية إلى المريخ وقد أعطيته أحدها.
* هبط مسبار «كوريوسيتي» الذي اشتغلتم عليه، على سطح المريخ في أوت من سنة 2012 وقد كان ذلك حدثا علميا كبيرا. كيف كان شعورك في تلك اللحظات؟
فرحت كثيرا ليس فقط لأن عملية الهبوط تمت بنجاح، بل لشعوري بأنني سأكون جزءا من تاريخ العلوم وهذا شيء كبير ولو أن مساهمتي كانت صغيرة جدا. لقد خالجني شعور بأنني مثلت الجامعة والمدرسة الجزائريتين والشباب الجزائري. كان إحساسا جميلا وتذكرت حينها والديّ وكنت فخورا بتشريفي لهما.
* عملت ضمن مهمة «كوريوسيتي» على ابتكار أجهزة تلتقط صورا لكوكب المريخ لمعرفة إن كانت هناك مياه على سطحه، كما ساهمت في صنع مسبار «برسيفيرنس» الذي أطلقته «ناسا» أواخر جويلية الفارط. هلا شرحت لنا أكثـر العمل الذي قمت به؟
من المتوقع أن يحط «برسيفيرنس» على سطح المريخ ابتداء من 18 فيفري 2021 وهذه هذه أصعب مرحلة في المهمة. في «كوريوسيتي» و «برسيفيرنس» اشتغلنا على الليزر لتحديد مكونات الحجر بهذا الكوكب، من خلال عمليات فيزيائية وتفاعلات تحدث بين ذرات الحجر وضوء الليزر. دراسة هذا التأثير تسمح بتحديد خصائص ومكونات الحجر إن كان فيها صوديوم أو حديد أو غير ذلك، وإن كانت هناك تفاعلات بيوكيميائية تدل على الحياة، ويتم هذا العمل بمشاركة مختصين في الجيولوجيا.
* «هل هناك إمكانية لوجود حياة في المريخ؟» هي عبارة من المؤكد أنها كثيرا ما توجه إليك خاصة بعدما كشف مسبار «كوريوسيتي» عن وجود مياه على سطح الكوكب الأحمر، كيف تجيبنا اليوم على هذا السؤال؟
قبل الإجابة على هذا سؤال، ينبغي أن نفكر فيه أولا، وقبل ذلك يجب القيام بدراسات فلا نكتفي بالتخمين وبما نحسّ به. يجب تقديم إثبات. مفهوم الحياة الذي يعرفه الجميع هو ما نعيشه على كوكب الأرض أين نحتاج إلى المياه في العمليات الكيمائية، وهو مفهوم ليس سهلا علينا تحديده نحن الفيزيائيون والكيميائيون والفلاسفة.
أول ما بحثنا عنه في المريخ هو الماء وهذا أمر مهم، وفي مهمة «كوريوسيتي» اكتشفنا أنه خلال 1.5 مليار سنة الماضية كانت المياه موجودة في المريخ خلال إحدى فترات حياته.
* ما الإضافة التي سيقدمها «برسيفيرنس» لفك المزيد من الألغاز عن هذا الكوكب؟
في «كوريسيتي» لم تكن مهمتنا معرفة إن كان المريخ قابلا للعيش، بل إيجاد عناصر الحياة، سواء الماء أو عناصر ذرية أو غيرها، لكن في «برسيفيرنس» هدفنا معرفة إن كان قابلا للعيش.
«مسبار الأمل» خطوة عملاقة
كم سيستغرق «برسيفيرنس» قبل معرفة إن كان المريخ قابلا للعيش؟
لا نعلم المدة التي سنستغرقها، قد تكون عامين أو عشر سنوات، لكن الأهم هو مواصلة الاستكشاف.
* انضمّت دولة الإمارات مؤخرا إلى ركب المتنافسين على كوكب المريخ بإطلاق «مسبار الأمل» وهو أول مسبار عربي يُطلق لاستكشاف المريخ. كيف تقرأ هذه الخطوة؟
عملت الإمارات مع اليابانيين لسنوات وما قامت به خطوة عملاقة وتاريخية، أنا سعيد بها إذ ستستقطب الشباب الباحثين لولوج مجال العلوم الكبرى، كما ستزيد من إيمان شباب الإمارات بالعلم وتجعلهم ربما يبتكرون تكنولوجيا جديدة لتطوير الصحراء.
* أنت من العلماء الذين يشجعون على التعاون بين التخصصات لإيجاد حلول للمشاكل الكبرى التي تعاني منها البشرية. هل تفطن العالم إلى هذا الأمر بصورة كافية؟
لقد تفطّن العالم إلى هذا الأمر ضمن ما يسمى بعلوم العلوم، وهذا دوري كعميد لكلية كينيدي للعلوم، أين توجد لدينا فرق بحث متعددة الاختصاصات ساهم استحداثها في مضاعفة عدد المقالات العلمية المنشورة خلال الثلاثين سنة الماضية.
* تلقيت خلال مسارك العلمي الطويل العديد من التشريفات والجوائز بأمريكا وخارجها وأنت اليوم زميل في الجمعية الأمريكية للعلوم المتقدمة والجمعية الفيزيائية الأمريكية وهما هيئتان جد مرموقتين. ما الذي تمثله لك هذه التتويجات؟
سعيد بها، فجمعية العلوم مثلا تختار 17 عالما في العالم، 6 منهم فيزيائيون. أنا فخور ليس بنجاحي بل بنجاح الأشخاص الذين ساعدوني ودرّسوني وبالمجتمع والجامعة والمدرسة الجزائرية. هو نجاح ذلك الشخص الغريب الذي توقف لي ذات يوم بسيارته ليوصلني إلى مقاعد الدراسة، ولمن خصص لي مكانا للمبيت. أقول لكل هؤلاء بارك الله فيكم، وهنا لدي رسالة أودّ توجيهها للشباب الجزائري.
* تفضّل
أقول لهم إنني لا أملك أي شيء يختلف عنهم، أو أنني فريد، صحيح أنني أعمل كثيرا، لكن هم أيضا يمكنهم تحقيق النجاح وبلوغ أحلامهم. أنصحهم بالعلم ثم العلم ثم العلم فهو أمر رائع. هو حركة ومنطق وأكثر من مهم لتطوير المجتمع والبلاد، فالبلدان التي تطورت فعلت ذلك بالمنطق والعلوم والاكتشاف والمعرفة.
أزمة كوفيد مثلا، هي مشكلة علمية بحاجة للعلم وللتغلب عليها يجب أن نبدأ من الطفل بتعليمه كيف يفكر بطريقة عقلانية. لكن للأسف في الجزائر وبلدان أخرى، نخلط أحيانا بين الاستكشاف العلمي و الآراء، ونذهب للنتائج دون أن نعرف كيف نصل إليها أو الإجابة على الأسئلة.
على الشباب الجزائري أن يؤمنوا بأنفسهم، وهم أيضا، سوف يحققون خلال سنوات قادمة ما وصلت إليه أو أحسن.
* ما هي مشاريعك البحثية القادمة؟
أولا، الوصول إلى فهم أفضل، وعلى المستوى الأساسي، لما يمكن أن يخبرنا به الضوء عن أمراض مثل السرطانات ومرض الزهايمر وغيرها. ثانيا العمل على قضية الإبداع وطرح التساؤلات التالية: كيف نتعلم نحن البشر أن نكون مبدعين؟ وهل تستطيع الروبوتات أن تفعل الشيء نفسه؟
ثالثا، سأقضي جزءًا من حياتي لمشاركة المعرفة، في العلوم والفيزياء بشكل أكثر تحديدًا، و ذلك مع عامة الناس وخاصة الأطفال. أتمنى مساعدة الأطفال من سن 5 إلى 10 سنوات بتعليمهم العلوم وقيمتها وكيف تحققت الاختراعات، وهي أمور مهمة في هذا العمر ليكونوا في المستقبل علماء ومفكرين كبار.
لست متأكدًا من أنه يمكنني القيام بكل هذا، لكنني سأحاول إضافة القليل إلى هذه النقاط الثلاث.
على الشباب الجزائريين أن يؤمنوا بأنفسهم
* هل لديك مشاريع تنوي إقامتها في الجزائر؟
المشكلة ليست في المشاريع أو الأفكار، بل في كيفية جعلها قابلة للتطبيق وليس إحداث ضجة إعلامية.
* أثارت تغريدة اقترحت فيها وضع اسم «حراك الجزائر» على تذكرة الكترونية تخص رحلة مركبة التجوال «المريخ 2020» تفاعلا كبيرا. ما الذي دفعك لاختيار هذا الاسم؟
لأن الحراك بالنسبة لي، كان رائعا وسلميا وعالميا ويعطي مثالا للعالم كله عن نضج الشعب الجزائري. لقد أحببت الحراك إلى درجة أنني أردت ربطه بالعلم. أنا مقتنع بأن الحراك هو أفضل فرصة لدينا للمضي قدمًا كدولة سلمية وبناء الأساس المتين الذي يحتاجه بلدنا الحبيب ويستحقه.
لا يمكن أن أقيّم حجم التفاعل مع تغريداتي التي أدوّنها بالعربية والفرنسية والانجليزية، وقد أكتبها يوما ما بالأمازيغية.
* هل لديك كلمة أخيرة ترغب في توجيهها لقراء النصر؟
أشكرك على طرح هذه الأسئلة الجيدة جدا، وعلى إتاحة هذه الفرصة، وفي الأخير أقول للشباب وللطلبة و الطالبات: المستقبل والحاضر لكم ولا تظنوا أنكم غير قادرين على تأسيس بلد قوي ديمقراطي سلمي. حلمي رؤية جزائر قوية يساهم الشباب في تطويرها.
ي.ب