أخطاء عمرانية أنتجت مدنا كرست العزلة والعنف
يعتبر مختصون في العمران وعلم الإجتماع الأخطاء التعميرية سببا في الإختلالات التي يشهدها المجتمع، من مظاهر عنف وتوتر في العلاقات وعدم القدرة على التعايش، حيث يؤكدون أنه تم تجاهل الخصوصية الثقافية و الاجتماعية أثناء محاولات تطوير المدن، باستنساخ أنماط مستوردة فرضت نوعا من العزلة، وحشرت عائلات داخل فضاءات ضيقة لا تتيح التواصل السلس الذي كان يتمتع به الجزائري في المدن القديمة. لتكون النتيجة تجمعات سكنية ومدنا غير متجانسة وغير قابلة للإستقطاب شكلت وعاء لترحيلات فرضتها أزمة تم امتصاصها بشكل ظرفي فقط، لأنها شكلت حلا ترتبت عنه العديد من المشكلات.
ملف من إعداد: هدى طابي
عرف المجتمع الجزائري في السنوات العشرين الأخيرة تغيرات كثيرة، خصوصا على مستوى السلوكيات الفردية و الجماعية و العلاقات بين الأفراد عموما، إذ غابت عادات عديدة و زالت علاقات الجيرة القوية بزوال المدن القديمة التي عوضتها مدن جديدة، فرضت نوعا من العزلة الاجتماعية، بالرغم من أنها تعتمد في عملية الإسكان على نمط العمارات المشتركة، بدل السكنات الفردية، بالإضافة إلى ذلك، فإن الفرد في المدينة الحديثة بات أكثر عدائية، وهو ما تعكسه الصراعات التي أعقبت عمليات الترحيل التي شهدناها في العديد من الولايات، على غرار ما عرفته المدينة الجديدة علي منجلي بقسنطينة خلال الفترة بين 2010 إلى غاية 2015، وهو ما يعيدنا إلى الحديث أن أهمية الدراسات السوسيولوجية في عملية إنشاء المدن الجديدة، ويدفعنا للتساؤل عن تأثير طبيعة العمارة على جوانب حياتنا المختلفة، و علاقة المدينة العمودية بالتغيرات السوسيولوجية و كيف أثر زحف الاسمنت على نفسيتنا كمواطنين نعيش في مدن تفتقر لأدنى فضاءات الراحة.
تصميم الشوارع والمباني مسألة صحة عامة في بعض الدول
أثبتت العديد من الدراسات النفسية انجذاب البشر إلى تكوينات الطبيعة وقدرة المياه والمساحات الخضراء على التقليل من التوتر والإجهاد لدى الإنسان، لكنَّ حصار المزيد من المنشآت الإسمنتية الحديثة في مقابل غياب العناصر الطبيعية غيّر سلبا الطريقة التي يدير بها الناس حياتهم و وحسب عالم الاجتماع الانجليزي «ديزموند موريس» فإن الإنسان في المدينة العمودية الإسمنتية بات أشبه بحيوان مفترس في حديقة حيوان تضم الناس داخل أقفاص ضيقة، تزداد عدوانيته بسبب وجوده في مكان ضيق وحرمانه من المساحات الشاسعة، وهكذا يـفـتـقـد الناس الإحـسـاس بـالـحـريـة ويتسبب تواجدهم في مـسـاحـات ضئيلة في ظهور العدوانية والأنـانـيـة، فيصبح الإنسان المسالم المتعايش عدوانيا، وبسبب هذه التأثيرات بدأت العديد من المدن مثل ستوكهولم وأمستردام وملبورن وفي المدن الذكية في الولايات المتحدة، في تعديل قوانين البناء باعتبار تصميم الشوارع والمباني بات مسألة صحة عامة.
«دار عرب» فضاء مشترك أسس لمفاهيم مجتمعية و تربوية
يعكس الواقع جدية هذا الطرح بشكل كبير، ففي قسنطينة مثلا، كانت العلاقات الاجتماعية جد وثيقة في المدينة القديمة و الأحياء الشعبية و ذلك نظرا لطبيعة هذه الأحياء التي تتجاور سكانتها بشكل متداخل، فيما تعد ديار عرب ميزة المدينة القديمة بوصفها توفر فضاءات مشتركة مريحة تتوفر على الفضاء الفسيح، و الركن الأخضر اللذان يحتاج إليهما الإنسان للشعور بالراحة و التمكن من تقبل فكرة العيش الجماعي، في هذه البنايات ذات الهندسة العربية و العثمانية.
و المعروف أن أسلوب الحياة المشتركة في المدن العربية القديمة على غرار السويقة مثلا، نتجت عنه عادات و قيم حكمت المجتمع المحلي لعقود و ساهمت في تشكيل شخصية الأفراد، فهذه الأحياء بمنازلها الفردية و المشتركة، كانت تعرف تفاعلا كبيرا بين السكان كان ينعكس من خلال التكافل و كثرة الزيارات و التداخل بين العائلات في إطار التصاهر وكذا حسن الجوار، و حتى أسلوب تربية الأبناء تأثر بهذا النمط، على اعتبار أن هؤلاء كانوا يحترمونه ويهابونه تماما كما يحترمون الولي، نظرا لأن العلاقات كانت منظمة تحكمها الأخلاق و العادات و التقاليد و يضبطها الدين و توجهها الهوية.
فالأحياء و الأزقة الضيقة قربت الأفراد من بعضهم على الصعيد الإنساني، لكنها أيضا عززت الحاجة إلى الخصوصية وبالتي فرضت الاحترام كمبدأ في التعامل بين الجميع، ما حافظ على تماسك المجتمع بشكل كبير، وهو أسلوب عيش لا يقتصر على قسنطينة فقط بل ينسحب على كل مناطق الوطن، ففي غرداية و الأغواط ومدن الصحراء عموما نجد ما يعرف بالقصور، وهي منازل ذات خصوصية عمرانية كرست للعيش المشترك، وفي مناطق الشاوية و القبائل الكبرى نجد المداشر والقرى بمنازلها الفردية المتجاورة والتي تفرض كذلك ضرورة التشارك، كما تحيلنا للحديث عن دور الأعيان في تنظيم العلاقات بين الأفراد و تسهيل عملية إدماج الفرد في الجماعة و توجيهه ليتعايش بسلام ضمن محيطة.
الصراعات بين المرحلين تشوه صورة المدن الجديدة
وخلافا للمدن القديمة التي كانت منازلها تبنى بمواد نبيلة وفق هندسة تحترم الجوانب الجمالية و التقنية و تهتم بالمناخ كذلك، فإن ارتفاع الكثافة السكانية في الجزائر و تطور نمط الحياة العصرية، فرض حتمية إنشاء مدن جديدة لاستيعاب الحاجة المتزايدة للسكن فظهر ما يعرف بالمخططات الاستعجالية و برامج المليون سكن ، و التي اعتمد في إنجازها على نمط موحد هو ،العمارات و الأحياء المتلاصقة التي سرعان ما تحولت إلى سرطان أتى حتى على الأراضي الفلاحية و غير وجه المدن بشكل كبير، إذ ألغى الفضاءات الفسيحة لصالح المرافق التجارية، و قلص المساحات الخضراء، كما انعكست هذه التحولات العمرانية منعدمة الهوية، على المجتمع وعلى الفرد كذلك ، لأن عدد السكنات المنجزة رافقه مشكل الضيق، بالنظر إلى انحصار الحظيرة العقارية مع مرور السنوات، ناهيك عن أن نمط توزيع السكن أفرز احتجاجات اضطرت السلطات إلى برمجة عمليات ترحيل و إعادة إسكان استعجالية دون دراسات سوسولوجية أو تخطيط، الأمر الذي حول المدن الجديدة إلى مراقد تفتقر لكل مرافق الراحة و تضم فئات وشرائح اجتماعية تعجز عن التعايش.
ضحايا و 35 ألف قضية في المحاكم بين مرحلين جدد
من جهة ثانية، فإن هذه المدن رغم طبيعتها الحضرية عجزت عن إحداث تأثير ايجابي على الأفراد، وزاد ضغط الحياة فيها من عدائيتهم بسبب الضجيج و الاكتظاظ و ظروف النقل و تقليص حصة المواطن من الماء، ما أسقط مشاكل الأحياء الفوضوية و الشعبية على الأحياء الجديدة التي شهدت صراعات عنيفة ودامية بين المرحلين، على غرار ما عاشته علي منجلي التي كانت بين سنتي 2010 و 2015، حلبة صراع بين المرحلين من أحياء فج الريح وواد الحد، وفي عنابة في الأقطاب العمرانية الكاليتوسة و بو زعرورة و بوخضرة 3، بين المرحلين من أحياء بوحمرة وبلاص درام و المدينة القديمة و ديدوش المحافر ، وفي العاصمة، في بئرتوتة بين المرحلين من الأحياء الشعبية الكاريار و وادي قريش و باب الوادي و الحراش.
و نفس المشاكل عانت منها منطقة سي مصطفى ببومرداس ، بعدما رحل سكان الباخرة المحطمة برج البحري و الرملي بجسر قسنطينة إلى الحي السكني الجدي، فكانت هنالك حرب شوارع و جرائم و ساهم الوضع في انتشار السرقة.
وقد كشفت إحصائيات نشرتها المدرية العامة للأمن الوطني سنة 2016 بأن حروب الأحياء بين المرحلين في المدن الجديدة خلفت 11 ضحية و 35 ألف قضية في المحاكم.
* رئيس المجلس العربي الأعلى للمعمار جمال شرفي
الحاجة إلى السكن و العمليات الاستعجالية أصابت المجتمع بالمرض
يؤكد الدكتور جمال شرفي، الرئيس السابق لهيئة المهندسين المعماريين الجزائريين و رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للخبراء، علاقة العمران بطبيعة المجتمعات، حيث يقول بأن ابن خلدون، أسس لعلم يسمى سوسيولوجيا العمران، و عليه فإن التأسيس لعمارة تتوفر على هوية وروح ، يجب أن يشمل الكثير من الموروثات الثقافية العمرانية التاريخية، لأنها امتداد للممارسات الحياتية للمواطن، لأننا كما أضاف لا نستطيع أن نأتي فجأة بشخص من وسط ريفي أو من الضواحي يؤمن بالفضاء المفتوح ويعيش وفق مفاهيم تختلف عن مفهوم العيش الجماعي المجتمعي، و نوجهه للعيش في المدينة، لأن هذه المفاهيم ستختلط لديه و تخل بتوازنه لأن مظاهر المدينة ليست من عاداته و ليست من عرفه، بما في ذلك العيش داخل الوسط المتزاحم بمفارقاته و إيجابياته وسلبياته من توتر و ضجيج و أحياء متلاصقة، وعليه فإن الانتقال الصحيح من محيط إلى آخر يتطلب منا تعايشا فيما بيننا وفقا لنمط معماري معين يطبع الإنسان بطبع نفسي معين.
ويقول، رئيس المجلس العربي الأعلى للمعمار و العمران و تطوير المدن بأن المدن الجزائرية فشلت تقريبا في إيجاد نمط عمراني يلبي احتياجات الساكنة لأننا لم نعر على حد تعبيره، اهتماما للدراسات السوسيولوجية التي تخص كيفية تعايش الفئات المجتمعية المركبة التي تسكن داخل الأوساط الحضرية، لأن الإطار المبني الذي يسكنه أشخاص من مختلف الشرائح و المستويات سواء ثقافية أو اجتماعية أو ماديا لا بد وأن يخضع لشروط تنظيمية و لاحترام الحقوق المتماهية التي تعد جزءا من الدراسات المجتمعية، ففي عمارة واحدة أصبحنا كما أوضح، نجد الطبيب و المهندس و الجاهل و الفاسد و غير ذلك، وهو ما ألغى اللحمة المجتمعية، إذ بات كل طرف يفضل الانعزال عن الآخر، خلافا لما هو موجود في المجتمعات المتقدمة التي تطبعت على العيش هكذا، ففي الجزائر في سنوات الستينات و السبعينات، كانت هناك عمارة خاصة تعرف بأحياء الموظفين، فكان هنالك تقارب في المستوى، وهو ما أوجد نمطا معيشيا اجتماعيا صحيا فيه الكثير من الانسجام.
و يرى المهندس، بأننا في الجزائر نبني ثم نفكر، أي أننا نبني ما يسمى بالعمارة النمطية، لأن همنا هو حل مشاكل آنية على حساب مشاكل أبدية فالتركيز انصب على حل مشكل السكن و بطريقة أفرزت مشاكل ومفارقات اجتماعية كبيرة، فالتعامل مع مشكل السكن بمنظور سياسي محض خلف أمراضا اجتماعية كبيرة، بدليل أن عديد المدن الكبرى شهدت في 15 إلى 20 سنة الأخيرة، ما يسمى «بالحروب بين الأحياء» و التي انتهت بتخريب ممتلكات و إزهاق أرواح، وهي ظاهرة أنتجها إفراغ الحي من الوظائف المجتمعية، سواء كانت ثقافية أو وظيفة رياضية أو ترفيهية أو سياحية أو تجارية، فالحي أصبح عبارة عن مرقد و حاضنة لكل بؤر الانحراف التي خلفتها أزمات البطالة و تدني مستوى المعيشة.
فالحكومات كانت تعتقد حسبه، بأن توفير السكن يحل مشاكل المجتمع لكن النتائج جاءت عكسية، خصوصا بعدما ظهرت عمليات الترحيل الكبرى و المتسارعة التي تمت دون دراسات مجتمعية حقيقية.
ويضيف المتحدث قائلا: « قبل سنوات كانت المدينة العربية الإسلامية منظمة، لدينا وسط المدينة الذي يتمركز فيه أولا المسجد و من ثم السوق وبعده الساحة العامة ثم ترتيب المساكن، و المرافق، بمعنى أن المدينة كانت تملك نسقا، و قد كانت السكنات تبنى وفق نمط يراعي طبيعة المجتمع و هويته الثقافية، فكنا نجد وسط الدار، أو الفضاء الفسيح الذي يعد ضروريا لنفسية الفرد، كما أن المواد النبيلة والأولية التي كانت تبنى بها المنازل كانت تتوفر على خصائص تقنية تتأثر بالمناخ فهي باردة صيفا و دافئة شتاء وهو ما ينعكس أيضا على نفسية ساكنيها، لكن لم نعد نراعي هذه الخصائص، لأننا اعتمدنا على رؤية تعمير كارثية لحل مشكل السكن ، فألغينا تماما جانب الاستشراف و الإستراتيجية، حتى أننا بتصدير الخرسانة المسلحة إلى الصحراء مع أنها عدوة الشمس فالمنازل الإسمنتية في الجنوب تتحول إلى أفران صيفيا».
يواصل حديثه : « لقد أوجدنا أنماط سكنية لا علاقة لها لا بنط الحياة و لا بالظرف المناخي ولا الاجتماعي ولا بالعادات ولا بالتقاليد، حاولنا أن نحضّر مدننا فهدمنها، بسبب غياب إستراتيجية واضحة و نصوص تنظيمية، وقد كانت لدينا فرصة لتدارك الوضع خلال البحبوحة المالية لكننا لم ننتج هندسة معمارية حديثة لائقة تتزاوج مع هويتنا الثقافية، لأننا لا نملك ثقافة الدراسة والاستشراف كوننا نتعامل مع البناء بمنطلق الارقام، لذلك لا تزال الحقبة الاستعمارية ظاهرة معماريا مقارنة بهذه الفترة».
الجزائر لم تراجع قانون البناء منذ 29 سنة
من جهة ثانية، يضيف الدكتور شرفي، بأن البرامج الاستعجالية هي التي أوجدت المدينة غير المتجانسة و الفاقدة للهوية و التي أنتجت بدورها سرطان البناء الفوضوي، الذي بدل هدمه و توسيع فضاء المدينة ذهبت السلطات إلى تقنينه من خلال سن قانون تسوية البنايات15ـ 08. أضف إلى ذلك فإن عملية بناء المدن كانت تتم طيلة العشرين سنة الماضية حسبه، دون دراسة سوسيولوجية، ففي دول العالم ككل يحين قانون العمران كل سنة في حين أن الجزائر هي الدولة الوحيدة التي لم تراجع قانونها منذ 29 سنة، وهو ما أفرز مشاكل عديدة بما في ذلك الانحراف و الصراعات بين سكان الأحياء التي تطغى عليها هندسة ما يمكن وصفه بالأقفاص أو الحاويات الإسمنتية .
هـ/ ط
* الباحث في علم الاجتماع عبد السلام فيلالي
مدننا حالة شاذة وصراعات الأحياء الفوضوية انتقلت إليها
يرى الباحث في علم الاجتماع الدكتور عبد السلام فيلالي، أن التطور الحضري في الجزائر هو نتاج مجموعة من الخصائص و العوامل الثقافية و السياسية و الاجتماعية، ففي الماضي كانت المساكن و الأحياء متلاصقة و الأزقة ضيقة للغاية بشكل يبقي على الطبيعة المحافظة للمنطقة، لدرجة أن أسلوب العيش في الحي كان يشبه الوضع العائلي، ثم بدأت المدينة تنفتح بسبب النمو الديمغرافي الذي جعلها تتمدد إلى الأطراف، كما أن النزوح جلب معه خصائص جديدة وهنالك في علم الاجتماع كما أوضح، خاصية لا بد من مراعاتها في دراسة مقاربة المدينة و تطورها من المدينة الصغيرة الضيقة إلى المدينة الكبيرة و هي خاصية أنتجها المجتمع الصناعي، الذي حول المدينة إلى جاذبة لليد العاملة ما خلف تداخلا بين الأفراد على اختلافهم و رفع الكثافة، وهو واقع عاشته المدن الجزائرية منتصف السبعينات مع بداية المشاريع الصناعية التي تم بنائها، فوجد بذلك ما يسمى بالأطراف أو الضواحي و بالتالي ظهور الأحياء القصديرية التي حاصرت المدن و بالتالي أفرزت أمراضا اجتماعية كثيرة.
أيضا لابد من الإشارة في رأيه، إلى أن المدينة الجزائرية هي مدينة موروثة عن الاستعمار، فالنسيج الحضري أو العمراني الذي كان موجودا لم ينجز ليتماشى مع ثقافتنا بل مع ثقافة أوروبية تتناقض مفاهيمها مع مفاهيمنا، بما في ذلك التقارب الاجتماعي، فالفرد الأوروبي بطبعه يميل إلى العزلة عكس المواطن في المدينة العربية الضيقة القديمة، التي سلف وصفها، و التي تتميز بأسلوب العيش المحافظ و القائم على العلاقات القرابية، على اعتبار أن أغلب الأحياء القديمة كانت تسكنها عائلات متقاربة أو متصاهرة فالكثافة السكانية كانت تقاس عدديا بـ 15 ألف فرد تقريبا، في حين أن المدينة الحديثة تقاس بالملايين، و عليه فإن طبيعة التفاعلات و العلاقات في المجتمع تتغير.
أضف إلى ذلك حسب الباحث، فإن المجتمع القديم كان رجاليا إذ أن الفضاء الداخلي للمنازل مخصص للنساء فحسب، بينما كان الفضاء الخارجي حكرا على الرجال، كما كان فضاء اللعب معلوما وأيضا الفضاء الأخضر و كانت مساحات التسوق مثلا مدروسة ، أي أن لكل فرد مساحته الخاصة، وهو ما فرض نمط عيش مختلف، تغير مع بداية الثمانينات مع ظهور المجتمع الصناعي و استفحال أزمة السكن ، ما أوجد ما يعرف بالبرامج الاستعجالية للإسكان، التي تمت دون دراسات سوسيولوجية فأنتجت مدنا جديدة هي أقرب إلى المراقد التي تفتقر لكل شروط العيش الكريم و الراحة، بسبب عماراتها المتلاصقة المتراصفة الضيقة، مع انعدام فضاءات الراحة و اللعب، وهو نموذج استوردناه من فرنسا التي عايشت نفس التجربة في الستينات أين تحولت الأحياء المراقد المخصصة للعمالة الأجنبية، إلى مراتع للجريمة والانحراف، مع ذلك فقد كررنا نحن نفس أخطاء التخطيط في عملية بنائنا للمدن العصرية، التي تفتقر للطابع الجمالي.
و يمكن القول أن مدننا الجديدة هي حالة شاذة في الهندسة العمرانية، كما أنها مدن فشلت في إنهاء مشكل العمران الفوضوي الذي كثيرا ما تمخضت عنه صراعات كثيرة بين سكان الأحياء بسبب ظروف العيش لأن هذه الصراعات نقلت خلال عمليات الترحيل نحو التوسعات الحديثة، أي أننا ببساطة كررنا نفس أخطاء الإسكان خلال الستينات و السبعينات.
هـ/ ط
* المهندسة المعمارية و عضو « الكناس» سامية بن عباس
استنساخ النموذج الأوروبي كرّس للعزلة و أفشل مشروع المدينة الحديثة
تقول الدكتورة سامية بن عباس، مهندسة معمارية و عضو المجلس الاقتصادي و الاجتماعي الجزائري "كناس"، بأن المباني ذات الطوابق وجدت في الجزائر، مع إدخال مفهوم التصنيع في البناء، فأصبحنا حسبها، ننجز منازلا نموذجية استوردنا تصورها في السبعينات من دول كروسيا و إسبانيا و فرنسا، و استهلكناه دون مراعاة للخصوصية الاجتماعية بالرغم من أن هذا النموذج كان قد طبق بعد الحرب العالمية الثانية لتدارك تأثيراتها و مخلفاتها، على غرار الحاجة إلى الإسراع في البناء لكن الغرب تفطن بعد سنوات قليلة، إلى أن هذه المدن التي أنتجتها عمليات البناء الاستعجالية أفرزت ظواهر اجتماعية سلبية منها العنف و العزلة التفكك الأسري، لكننا رغم ذلك قمنا بتكرار نفس النموذج بحجة عدم توفر الكفاءات و المهندسين، و كرسنا له، وقد سبق لكثير من المهندسين الشباب بداية الثمانينات أن طرحوا كما قالت، إشكالية الاهتمام بالخصائص المجتمعية و حتى العمرانية المحلية خلال إنجاز البناء الحديث.
و تضيف المهندسة، بأن طريقة بناء المنازل و المدن عموما لها علاقة مباشرة بسلوكيات المجتمعات التي تسكنها، بدليل أن العمارة في المدينة العربية القديمة التي نلاحظها في ما يعرف بالقصور مثلا، تعبر اليوم نموذجا مثاليا لما يحتاجه الفرد فهي تتكون من فناء فسيح يتوفر على شجرة مثمرة توفر الظلال و الغلة و الترطيب اللازم للجو، ويعرف هذا الفناء عادة بالبيت الحاضن أين يلتقي الجميع مساء، كما أن البيوت كانت مغلقة كليا من الخارج و منجزة بمواد نبيلة تتناسب مع مناخ المنطقة فتلك الحبيبات التي نجدها على جدران المنازل القديمة توفر من 5إلى 7 درجات ظل ، بمعنى أنها بنايات كانت تلتزم بمفهوم التنمية المستدامة فحتى درجات الحرارة التي تناهز 47 في الخارج تنزل داخل المنازل إلى 22 درجة، بفضل العمارة المدروسة والمكيفة. من جهة ثانية، تبرز أهمية هذه العمارة في الأحياء الفوضوية، فرغم أن البناءات فيها غير نظامية، إلا أننا نلاحظ بأن السكان يذهبون دائما إلى تعمير بيوت تميل في تصميمها إلى المنازل القديمة العربية أو الشاوية أو القبائلية أو الصحراوية ذات الفضاء الداخلي الفسيح، وهو ما يعكس الحاجة الحقيقية للفرد، الذي يميل إلى إسقاط جوانب من هويته على مكان سكنه.
من جهة ثانية، فإن المدينة الحديثة بشققها المنفصلة و الضيقة أفرزت نوعا من العزلة الاجتماعية التي بدأت بوادرها الأولى مع تفكك الأسر و ظهور الأسرة النووية، فضيق الشقق قلص من رحابة صدر الأفراد حتى أن الأقارب باتوا غير مرحب بهم لذات السبب، وحتى الأبراج السكنية لم تنه مشكل السكن ولم تنجح في خلق مدينة عصرية صحية للعيش، لأنها أنجزت دون دراسة معمقة و استشرافية، ما يؤكد أن القضية لا تتعلق بمساحة العقار بل بنجاعة التخطيط.
10.25 م2 مساحة تموقع الفرد الجزائري في الأرض
المتحدثة قالت، بأن المساحة المناسبة لعيش كل فرد في المدينة تعادل 15 مترا، لكن حاليا معادل التموقع في الأرض في شقة من ثلاث غرف بمساحة 62 مترا مربعا « النموذج المعمم في عملية بناء السكنات في بلادنا»، لا يتعدى مساحة قدرها 10.25 متر مربع، أضف إلى ذلك فإن نوعية السكنات التي يقيم فيها الجزائريون غير مناسبة نظرا لافتقادنا لتقنيات الإنتاج العمراني .
هـ/ ط