قــرى معزولــة و فلاحون يتشبثـون بالأرض بأم ليمــام
لم تقف الظروف الطبيعية الصَّعبة في وجْه فلاحي وموَّالي مشاتي ديدوش مراد بقسنطينة، على غرار منطقة دوَّار بن زكري وأم ليمام، حيث رفعوا التحدِّي لزراعة وفلاحة الأرض واستصلاح البور، غير أنَّ عدم توفير الإمكانات أثَّر سلبًا على الاستقرار في أعالي البلدية التي تشارف على جبل الوحش، شرقا، في شاكلة الكهرباء المقطوعة منذ العام 2006.
فاتح خرفوشي
يجهل العديدون وجود تجمُّعات سكنية وقرى صغيرة بعد مشتة الرتبة، باتجاه الشمال الشرقي من ديدوش مراد صعُودا، وحتَّى القاطنون بالجهة لا يعرفون أم ليمام المسماة كهذا نسبة لإحدى الطيور المنتشرة بكثرة بالمكان، و كذلك 13 مزرعة منها عين ليهودي وبرميتة وسكفالي ولمقوزي وشروانة الموزعة في جبل معزول، حيث يقطنها فلاحون ومزارعون رفعوا التحدي رغم الصِّعاب وهروب الغالبية نحو المدينة لسعة العيش وسهولته، إذ يصرُّ هؤلاء على خدمة الأرض وانتظار ما تجود به السماء لتوفير لقمة حلال، حيث تنتشر مزارع الفول والثوم والبصل والقمح، وبعض الأشجار المثمرة، وكذا تربية الأبقار والأغنام.
عند وصولنا إلى إحدى المشاتي، عبر ممرٍّ وعر نصفه معبَّد وآخر ترابي مليء بالحجارة مرتبط بجسر يمرُّ فوق الطريق السيار شرق ــ غرب، قابلنا شابَّان في مقتبل العمر يخطَّان رقعة غرستْ ثوما بمحراث تقليدي يجرُّه بغل، و أشار إلينا أحدهما، والذي تبيَّن أنه خريج كلية الاقتصاد، بالتقدُّم، حيث وبعد عبور نباتات الفول المزروع على مدِّ البصر، قابلنا بالتحيَّة هو وابن عمه، و رحب بنا عندما أفصحنا عن هويتنا.
الكهرباء مقطوعة منذ 12 عاما
أخذنا الشابَّان نحو المنازل المبنية بالحجارة والطوب لملاقاة «الكبار» على حدِّ قولهما، والاطلاع أكثر على المشاكل، حيث استقبلنا عمي لخضر وشقيقه بالترحاب، و أكد أن مزرعة برميتة الموروثة عن الآباء منذ حوالي 60 عاما، ضمَّت بيوتا للسكن والمعيشة وحظيرة لتربية الأبقار والغنم، إلى جانب الدجاج، فيما اشتغل أبوه بالفلاحة منذ صغره، وعندما ورث المزرعة لم يفرِّط في هذا الإرث، وسار على منهجه رغم تخصصه في مجال مدِّ الأسلاك الهاتفية.
و أضاف محدثنا أنه عندما تحصَّل على تقاعده شمَّر على ساعديه، لخدمة الأرض، غير أن المشكل الكبير بدء عند قدوم إحدى الشركات الأجنبية المكلفة بالطريق السيَّار، حيث أدَّت الأشغال لسقوط بعض أعمدة الكهرباء، وقطع هذه المادَّة الحيوية للاستقرار من طرف ذات الشركة، دون سابق إنذار منذ 12 عاما.
وأكَّد الفلاح أنه رفع انشغاله إلى مصالح توزيع الكهرباء و الغاز و السلطات المحلية، لكن دون جدوى، مضيفا أن الإشكال مس بقية المَزارع النموذجية المجاورة له، والتي يمتدُّ وجودها إلى عقود ماضية، إلا أن الوضع بقي على حاله إلى يومنا هذا، ما جعل الصُّمود والعمل في ظروف مماثلة صعبًا وحائلا دون استقدام العائلة للعيش في المزرعة، وغياب أدنى شروط العيش الحضري في شاكلة الكهرباء.
وذكر محدِّثنا أنه راسل مؤسسة «سونلغاز» مرَّات عديدة لاستكمال وضع حوالي 10 أعمدة كهرباء تحطمت بفعل العوامل الطبيعية، حتى تصل إلى مزرعته وباقي المزارع الموجودة بالمنطقة، دون ردٍّ، زيادة على اقتراحه ربط العمود الموجود أمام بيته الريفي من أسلاك التيار العالي المارِّ به، إلا أن المقترح رفض هو الآخر، وهو ما حتَّم على عائلة برميتة، حسبه، اقتناء مولد كهربائي يعمل على المازوت، أمام كلفته الباهضة، وصعوبة نقل المادة الأولية لتشغيله.
واسترسل عمي لخضر والشريف في سرد المشاكل التي تواجه المزرعة رغم توفير ثروة لسكان الجهة من الفلاحة، ما جعل حديقة غنَّاء من أشجار الفواكه المثمرة كالرمان والزيتون والعنب والتين تختفي، وتردم تحت أنقاض التراب المرمي بالأطنان فوقها. كما أشار شقيقه إلى امتلاكه لبضعة رؤوس أغنام، غير أن مكان الرَّعي يبقى غير متاح، ويجب التوجه بعيدا عن مقر السكن حتى يجد مساحة للرعي.
«لا نملك أرضا وحرمنا من عقد امتياز فلاحي»
لم تختزل عوائق الاستثمار والاستقرار بمزرعة برميتة وبقية المزارع المجاورة لها على غرار مزرعة عين ليهودي، عريبة، سكفالي، رزازقة علي، مختاري، فنطازي، لطرش، بوكبوس، لمقوزي، شروانة وبوصلاح ومعيزة، في الكهرباء فقط، بل أن هؤلاء الفلاحين المتواجدين بدوار بن زكري منذ عقود من الزمن، لا يملكون حق امتياز استصلاح الأرض الفلاحية بعقد موثق بإسمهم، إذ يعتمدون على اكتراء المساحات من طرف الملاَّك بالمنطقة، على قلّتهم، وكذا ما تسمح به المجموعة الفلاحية منذ العهد الاشتراكي، أمام التعسف الذي تفرضه ضد خدَّام الزراعة الحقيقيين.
و أشار الشاب سفيان أنَّه وعائلته يكترون الأرض كلَّ عام بمبالغ تتراوح بين 60 و100 مليون سنتيم لزراعة الثَّوم والبصل والفول والبازلاء (الجلبانة)، وفي حال لم تَجُد السماء بمياه الأمطار وكانت السنة بيضاء «جايحة» كما يقال بالعامية، فإن الخسارة تكون فادحة، وهو ما جرَّنا للاستفسار منه «ألا تمتلك عائلة برميتة عقد امتياز لاستصلاح الأرض؟»، وهنا كان ردُّ عمي لخضر بأن كل المحاولات باءت بالفشل للحصول على قطعة أرض من لخدمتها وتحصيل الخيرات منها، بل أنه تحدث عن منعه من استصلاح قطعة بور كبيرة تقابل مزرعته لغرس أشجار الزيتون فيها، حيث بالإمكان بلوغ آلاف الشجيرات.
واشتكى محدثنا من معوِّقات «البيروقراطية «أمام نيّة خالصة وقوية في خدمة الأرض والفلاحة منه ومن طرف شقيقه وابنيهما، حيث اعتبر عمِّي لخضر منح الأراضي لغير مستحقيها وخاصة «البزناسية» الذين يملكون عشرات الهكتارات، مؤكدا وجود العشرات من المستثمرين الذين لا يزرعون حبَّة قمح واحدة، ويقطنون المدينة، فبعد تحصيل عقود امتياز بمساحات شاسعة يقومون باكتراء الأراضي بمئات الملايين، ولا يهمهم حقا إذا كان الإنتاج وفيرا أم لا، ولا إذا ما منحت الأرض لمن يخدمها، على حد قوله.
ووجّه كبير عائلة برميتة نداء إلى مديرية الفلاحة بالنظر في القضية ومنحه وعائلته مزيدا من المساحة خاصة وأن البور مهملة وكذا الأراضي الكبيرة الصالحة للاستصلاح والعمل عليها، مقترحا منح الأرض للفلاحين من أمثاله للعمل عليها وزراعة الاشجار المثمرة، و بدل اكترائها لتفريغ أطنان من التراب، وقال في هذا الصدد «قرَّرت ذات يوم زراعة الزيتون من باب التجريب والتنويع، واستصلحت بورا تقع تحت مزرعتي، غرست ما يقارب 500 شجرة زيتون، وسقيتها بساعديَّ هذين لعدم وجود بئر ارتوازية مخصصة للسقي، فالحاجز المائي بعيد جدا، وتصوروا بدأت الأشجار بإعطاء نتائج جيدة وأثمرت، رغم أنه لم يمرّ على غرسها سوى عامان».
صعوبات لجني الخيرات
و ذكر الشاب الجامعي سفيان «حتى هذا البغل نكتريه، تصوروا، نقاسي في كل شيء ومع ذلك لن نستسلم..»، أما سمير فبدا متحمسا لإبقاء المشعل مرفوعا عاليا مهما كلَّف الأمر، لخدمة الأرض والعيش كفلاح كامل المواصفات، لكنَّه تمنى تسهيل العيش الكريم في هذه المشتة الصغيرة، رغم صعوبة الظروف معلقا بالقول «لو توفِّر لنا السلطات الكهرباء فبإمكاني وبقية أفراد العائلة تصليح الغرف التي بنيت فيها، وأحضر عائلتي الصغيرة إليها للاستقرار نهائيا».
أما عمي لخضر ففضل بعث رسالة إلى السلطات المحلية بولاية قسنطينة وبلدية ديدوش مراد، من أجل منح الاهتمام أكثر لفئة الفلاحين خاصة بالجهة التي يعيش فيها، وقال إنَّه سيختم كلامه وحصر مشاكله بالقول «الأرض لمن يخدمها، والفلاحون الحقيقيون موجودون في المداشر المعزولة والقرى النائية، نطالب باحترامنا من المجموعة الفلاحية المحلية».
رئيس بلدية ديدوش مراد الطاهر بوالشحم
مستعدون لإعادة ربط الكهرباء و مرافقة الفلاحين
أفاد رئيس المجلس الشعبي البلدي لديدوش مراد بقسنطينة، الطاهر بوالشحم، أنه لم يتحصل على طلب موجَّهٍ لمصالحه من قبل الفلاحين المذكورين بخصوص الكهرباء المقطوعة منذ العام 2006، عن مزارعهم، وفي حال تقدم المعنيون بشكوى وطلب فسيقوم بإدراج المشروع ضمن المداولات القادمة، مضيفا أنه إذا كان البرنامج يفوق قدرات ميزانية البلدية الاستثمارية فسيحول على ميزانية الولاية لتجسيده، فاتحا كل الأبواب لتشجيع الفلاحين المستثمرين بدوَّار بن زكري.
من جهة أخرى، قال الـ»مير» أن الطريق معبدة إلى حدِّ التقاطع مع الطريق السيار شرق ــ غرب، وتحديدا الجسر المارّ عبره نحو المزارع النموذجية وأعالي دوار بن زكري، وهو كاف، حسبه، لبلوغ المزارع والمشاتي المتناثرة هناك بسهولة، مع بعض المقاطع الصَّعبة، لكنَّها تفي بالغرض.
أمَّا عن قضية عقود الإمتياز والأراضي الفلاحية، فردَّ ذات المسؤول لـ»النصر» بأن الموضوع معقد نوعا ما، من ناحية شغل الكثيرين لأراض ليست ملكًا لهم، وتوسطهم مزارع نموذجية من جهة، وأراض أصحابها يحوزون عقود ملكيَّة لم يتمكنوا من استكمال إجراءات استصلاحها وتفعيل عقود الإمتياز، من جهة أخرى، مضيفا أن المجلس البلدي لا يملك أيَّة سلطة في هذا الموضوع، ما عدا كون الرئيس عضوا في اللجنة الولائية، المُنصّبة منذ مدة لتسيير ملف منح عقود الامتياز للفلاحين المهتمين بهذا النوع من الاستثمار، حيث قال «حقيقة لم يظهر أثر لهذه اللجنة أو المؤسسة، ومستعدون دوما لمرافقة الفلاحين ومساعدتهم في هذا
الإطار».
ف.خ