اِرتبط المسرح دائمًا بالواقع والمجتمع، وبأحوال وتفاصيل الحياة الإنسانية بمختلف جوانبها وأشكالها السّياسيّة والاِجتماعيّة والثّقافيّة والدينية، كما اِرتبط في معظم خطاباته بالإيديولوجيا. إذ في الغالب الأعم لا يخلو أي عمل أو منجز مسرحي من أطروحات أيديولوجية تقرأ وتنقد أو تُسائل وتٌقارب مُتناقضات وسياقات الواقع والحياة بِمَا في ذلك الواقع الاِجتماعي والسّياسي. فالكثير من الأعمال والعروض المسرحية التي تُقدم على الركح، تُعالج مختلف القضايا وتحاكي المجتمع وما يحدث فيه من منظور إيديولوجي ومن زاوية إيديولوجية. فهل يمكن القول: إنّ التوجه الإيديولوجي أثر على التجارب المسرحية في الجزائر؟ وهل خدمها بشكلٍ أو بآخر؟ وهل العمل المسرحي -كما يقول محمّد الأمين بن ربيع- لم يعد خالصًا لوجه الفن، وهو خطاب يُقارب الواقع ويستلهمه لذا لا يمكن أن يأتي خاليًا من إيديولوجيا مُعينة، قد تعبر عن رؤية المُؤلف أو المُخرج. وفي المقابل هل هذه الإيديولوجيا أو خطاباتها قد ساهمت -حقا- في رفع شأن المسرح الجزائري وجعلته فنًا مُؤثراً لا مُسليًا فقط. حول هذا الموضوع "المسرح الجزائري والإيديولوجيا"، كان ملف عدد هذا الأسبوع من "كراس الثّقافة"، مع مجموعة من النُقاد والكُتّاب المسرحين المختصّين في شؤون المسرح.
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
* الروائي والكاتب المسرحي محمّد الأمين بن ربيع
المسرح الجزائري اِستمرّ في توظيف الحمولة الإيديولوجية
يقول الروائي والكاتب المسرحي محمّد الأمين بن ربيع: "المسرح والواقع وجهان لعُملة واحدة، فقد اِرتبطا ببعضهما منذُ بدايات المسرح الأولى، حين كان الإنسان يُفكر في التعبير عن حياته والصراعات التي تلفّها، ولم يجد خيراً من الركح ليعتليه ويُقدّم من خلاله رؤيته وفكرته، ومع ميلاد المسرح ولدت إيديولوجيته التي تحفّه بالمعنى والهدف، فلم يكن المسرحي عابثًا يبحث عن الفرجة فحسب، بل كان يضمن في كلّ مشهد وكلّ حركة وكلّ جملة مضامين ذات علاقة بإيديولوجيا ما، وسواء أكانت دينية أم سياسية أم اِجتماعية، فإنّ المسرح والإيديولوجيا تلازما منذُ البداية وكان ميلادهما مُتزامنا".
مُضيفًا في ذات السّياق: "قد لا يخفى على من يتابع الحركة المسرحية في الجزائر منذ بداياتها حين كانت البلاد تحت وطأة المحتل الفرنسي ذلك الجهد الكبير الّذي بذله المسرحيون لتسليط الضوء على بعض القضايا التي تهم الجزائري، فكانت العروض المسرحية تحمل رسائل ذات علاقة بالراهن الاِجتماعي والسياسي، لكنها غالبًا تقدّم في شكل ساخر أو رمزي، تجنبًا للمُساءلة ولرقابة السلطة الاِستعمارية". وهنا واصل قائلاً: "فمسرحيات كالتي قدّمها رشيد قسنطيني أو علاّلو وبشطارزي كانت بمثابة السلاح الّذي حمله هؤلاء لمواجهة آلة الاِحتلال الوحشية التي عملت على تجويع الجزائريين وتجهيلهم، ولذا لم يخلُ عمل مسرحي من إيديولوجيا النضال والرفض، فعبد الحليم رايس الّذي يعد واحداً من أهمّ المسرحيين الجزائريين في الفترة التي كانت الثورة الجزائرية على أشدها قال: (المسرح بالنسبة لنا يمثل إطاراً للكفاح) وهو الّذي قدّم سنة 1957 مسرحية (نحو النّور)".
مُشيراً في هذا المعطى، إلى أنّ المسرح الجزائري اِستمرّ بعد الاِستقلال في توظيف الحمولة الإيديولوجية من خلال العروض التي كانت تُقدَم في المسارح التي بدا أنّها قد غدت أكثر نشاطاً نظراً للدور الهام الّذي آمن به أهل المسرح وحملوه على أعتاقهم خدمةً للوطن الفتي، ولأنّ التوجه العام في تلك الفترة كانت تغلب عليه الرؤية الاِشتراكية جاءت مسرحيات تلك الفترة تحمل الفكر ذاته مع توجه مرافق ينزع نحو عناصر الهوية الوطنية.
لذا –حسب رأي ذات المُتحدث- غلب على الخطاب المسرحي اِستعادة أحداث الثورة الجزائرية، بالإضافة إلى توظيف التراث الشعبي الجزائري، الّذي سيصبح واحداً من أهم العناصر المسرحية حضوراً فيما يعرض من أعمال حقّقت الرواج، كمسرحيات علولة (كلّ واحد وحكمه، ديوان القراقوز)، ومجوبي بعد ذلك. وأردف مُستدركاً: "والملاحظ أنّ المسرح الجزائري ورغم محاولات التجريب التي مسته ظلّ بعيداً عن مسرح العبث، وبقي المسرحيون الجزائريون مصرّين على تحميل أعمالهم المسرحية بإيديولوجيات معينة، بعضها مستمد من الثقافة المحلية، وبعضها يحمل أبعاداً عالمية، وقد لا نُبالغ إذا قلنا أنّ مسرح الطفل في الجزائر هو الآخر لم يخلُ من إيديولوجيات تتمظهر من خلال العروض، أغلبها يربط علاقة بالقيم الأخلاقية والدينية والوطنية، فهو غالبًا مسرح توجيهي ليس للتسلية فقط، كما تتجلى فيه الرّوح التعليمية التي من شأنها التأثير على جمهور الأطفال". صاحب "نوبة الغريبة" اِختتم بقوله: "لاشك أنّ العمل المسرحي لم يعد خالصًا لوجه الفن، فهو خطاب يُقارب الواقع ويستلهمه لذا لا يمكن أن يأتي خاليًا من إيديولوجيا مُعينة، قد تعبر عن رؤية المُؤلف أو المُخرج، وإن كانت بعض التصورات النقدية ترى في تبرئة العمل المسرحي من الإيديولوجيا تساميًا للفن إلاّ أنّ الحقيقة التي لا يمكن إغفالها هي كون الإيديولوجيا قد ساهمت كثيراً في رفع شأن المسرح حين جعلته فنًا مُؤثراً لا مُسليًا فقط".
* الباحثة والناقد زبيدة بوغواص
المسرح الحديث ارتبط بالفكر الإيديولوجي والسياسي
تؤكد الباحثة والناقدة الدكتورة زبيدة بوغواص، أن "الفعل المسرحي الحديث ارتبط –دائمًا- بالتحوّل الّذي يعيشه الإنسان من خلال إحساسه القوي بضغط سلطة الواقع، ومحاولة تحديده أو التغلب عليه، بالاِستناد على فكر أيديولوجي واضح، وصوغ مدقق لأساسيات المسرح ودوره، واِرتبط هذا بالمسرح العالمي، وباِجتهاد برتولد بريخت خاصةً الملحمية في علاقتها بالماركسية، بحيث إنّ هذا الاِتجاه الإيديولوجي والسياسي كان نتيجة حتمية لمتغيرات الواقع والمجتمع، من حيثُ مناقشة الواقع مناقشة جدلية بقصد تنوير وتوعية الجماهير بحقائق هذا الواقع، على أساس أنّه فعل واع واضح القصد والفكر، مبني على رؤية فكرية جديدة للعالم".
وفي ذات السّياق، أردفت: "ضمن هذا الفكر الإيديولوجي والسياسي وجد المسرح الجزائري نفسه، وأسهم في تطويره، فالفِعل المسرحي الجزائري قد شهد أعمالاً خالدة كانت تدعو إلى الثورة والنضال ضدّ الاِستعمار الفرنسي أثناء الثورة وقبلها، وبعد الاِستقلال طغى ذلك الفكر على كلّ الخطابات، بفعل اِنتهاج الجزائر النظام الاِشتراكي، فقد تم الكشف في مضمونه عن المؤسسات الإنتاجية والصراع الطبقي بين أرباب العمل، والعُمال، وكانت المزرعة النموذجية حقلاً دلاليًا للصراع حول من يملك الأرض، ومن يخدمها، هذا الوضع أنتج مسرحاً جزائريًا ثوريًا ينبذ اِستغلال الإنسان لأخيه الإنسان".
في هذا الصدّد -تُضيف المُتحدثة- عمل رواد المسرح الجزائري على مقاربة واقعهم اِستناداً إلى ذلك النظام الّذي اِتكأ على فلسفة، فقاموا بتحويلها إلى تجارب إبداعية عبرت عن هذا العالم بظواهره الاِجتماعية وشخوصه وطبقاته، لمعالجة قضايا هذا الواقع، فقد أدرك هؤلاء أنّ المسرح اِبن المجتمع، فعبروا عنه وعن واقعه، وكان الواقع هو المسار الاِشتراكي".
ويعد ولد عبد الرحمان كاكي -حسب رأيها- من المسرحيين الذين خدموا النهج الاِشتراكي، لأنّهم آمنوا أنّه في خدمة المجتمع، ويمكن أن يُحارب كلّ أشكال الفساد والاِستغلال والاِنتهازية. وتعد مسرحية "كلّ واحد وحكمه"، -حسب قولها- من المسرحيات التي حاول فيها كاكي أن يعطي صورة سوداء عن النظام الرأسمالي الّذي يقوم على الفردية والاِستعلاء والاِستغلال، من خلال شخصيات المسرحية التي مثلت طرفي صراع بين الطبقية والرأسمالية وطبقة العمال.
كما أدرك كاتب ياسين -تقول المُتحدثة- أنّ الفن هو اِلتزام، وكانت قضايا مجتمعه بعد الاِستقلال تلزمه بمعالجتها وفق النهج الّذي تبناه هذا المجتمع، وهو النهج الاِشتراكي، وهو فلسفة تم تطبيقها في مسرحه على مستويين: العرض المسرحي، والكتابة الدرامية.
واِلتزم كاتب ياسين -كما تضيف- مع الفريق الّذي كان يعمل معه في تمثيل العمل المسرحي على الخشبة في تدريبهم وتلقينهم كيفية التعامل مع فلسفته الواقعية، خاصةً مع المُمثلين، حتّى تأتي الرسالة صحيحة، معبرة عن أيديولوجيته التي يتبناها، وهي الأيديولوجية التي أبدعت الأعمال المسرحية لعبد القادر علولة التي عبرت عن التناقض الحاصل في المفهوم الاِشتراكي بين التصور النظري والتطبيق الفعلي.
وهكذا -كما اِختتمت-: "فالمسرح الجزائري قد سار جنبًا إلى جنب مع الواقع الاِجتماعي للمجتمع الجزائري، يأخذ منه مفرداته، ويعبر عن معاناته، ضمن أيديولوجية اِستطاعت أن تسهم في دفع حركة الإبداع المسرحي، يؤدي فيها المسرح وظائف أهمها الوظيفة السّياسيّة والاِجتماعية".
* الكاتب والمخرج المسـرحي مصطفى بوري
الفن في عمومه و المسرح بالخصوص هو الاِبن الشـرعي للإيديولــوجيا
يقول الكاتب والمخرج المسرحي مصطفى بوري، من جهته: "وُلِدَ المسرح كفن وتربى وترعرع في أحضان المجتمعات الثيوقراطية، فقد كان قُدماء الإغريق يُقيمون حفلات للإله ديونيسوس (إلهة الخمر) وفي خلال هذا الاِبتهاج تُعرض المسرحيات التي كانت في غالبيّتها تجسد الميثولوجيا اليونانية القديمة، التي إمّا أن تكون ناقدة للمعتقدات السائدة أو هي داعية لها".
مضيفاً: "واستمر المسرح الّذي شُيدت له أماكن خاصة لا تزال كثير من آثارها شاهدة على العلاقة القوية للفن بالفِكر بدءً من عصر الرومان مروراً بالقرون الوسطى وعصر التنوير وما خلفه من مذاهب أدبيّة وفنيّة كالعاطفية والكلاسيكية الجديدة معرجين على ما قبل الحداثة وإرهاصات الواقعية إلى الحداثة وما اكتنفها من تعدّد المذاهب والمدارس الفنية كالعبثية والفن المعاصر وإرهاصات ما بعد الحداثة، أو ما يُعرف اليوم بمسرح ما بعد الدراما".
ثم اِستطردَ قائلاً: "وهذا ما يجعلنا ننظر نظرة تفكيكية للرابط الّذي يجمع بين الفن المسرحي كظاهرة اِجتماعية وبين الخلفيات الإيديولوجية للثقافات الحاضنة لذات الظاهرة. لا جرم أنّ ما تقدمنا به في تمهيدنا للموضوع يُشير إلى أنّ الفن في عمومه والمسرح بالخصوص هو الاِبن الشرعي للإيديولوجيا على تعدّد مذاهبها التي ذكرناها والتي لم نذكرها، فلا يمكن أن نتصوّر كاتبًا يكتب لموضوع ما أو مخرجًا مسرحيًا يُجسد عملاً ما دون تضمين عرضه لفكرة ما، ولا نتصور أنّ الفكرة لا تنتمي إلى مذهب فكري أو عقدي ما، حتّى لو حاول الكاتب أو المخرج أو أي فنان مسرحي أن يتجرّد من الأدلجة فسوف تُلاحقه كنموذج كائن من قبل أو كنموذج قيد الكينونة وهو ما يحصل مع مسرح ما بعد الدراما".
وقد كانت المذاهب الفنية على مر تاريخ البشرية -حسب المتحدث- تُحاول أن تكسر القواعد الفنيّة التقليدية، مثلما حدث مع الكلاسيكية القديمة التي أرسى مبادئها كُتّاب الدراما اليونانية من أمثال "أرسطوفانيس" و"صوفوكليس" وغيرهما والتي ضمنها "أرسطو" في كتابه "فن الشِّعر".
إذ بعد حوالي ألفي عام -كما يُضيف المُتحدث- قام أدباء وفنانو العصر الإليزابيثي بكسر قاعدة وحدة الزمان والمكان في مسرحياتهم شكلاً وكسر المُعتقدات السائدة مضمونًا أو القيود الكلاسيكية، ومنهم شكسبير ومارلو وغيرهما، وكان الغرض من ذلك هو التخلص من أدلجة أعمالهم (حتى وإن لم تكن الأدلجة بالمعنى المعروف حاليًا) لكنهم وجدوا أنفسهم مع مستجدات عصرهم، وهذا في حد ذاته إيديولوجية، أي أنّها مجموعة من الأفكار والمُعتقدات.
وفي ذات المحور، واصل المُتحدث: "في العصر الحديث مثلاً، ظهر العبث كتعبير عن مآلات المجتمع البشري في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان التيار العبثي يبدو كثورة فكرية وأدبية وفنية واسعة ضدّ كلّ ما هو تقليدي، ففي المسرح سطع اِسم (صامويل بِكِثْ) بمسرحيته (في اِنتظار غودو) والتي أحدثت اِنقلابًا فكريًا هائلاً في زمنه، ورغم أنّ النُقاد كانوا يرون آنذاك أنّها ثورة فكرية سرعان ما ستخبو، غير أنّها لا تزال مستمرة إلى الآن".
ثم أردف: "لنُلاحظ أنّ التجرّد من الأفكار السائدة لا يعني أنّ الفكرة الجديدة ستسلم من الأدلجة، بل هي الإيديولوجية في حد ذاتها. وبإسقاط هذه الحال على المسرح الجزائري، فإنّني أقول، وأنا اِبن هذا الجيل، إنّ التنوع الفكري والثراء الثقافي في مجتمعنا الفسيح كان له بالغ الأثر في أدلجة الأعمال المسرحية، إمّا بالميول لهذا التيار أو ذاك، فتجد اليساريين مثلاً يسيطرون على الخطاب المسرحي في سبعينيات وثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي، تبعًا للتيار الّذي كان سائداً وقتئذ".
مُشيراً في هذا السّياق، إلى أنّ مسرحيات المرحوم عبد القادر علولة لا تخلو من الإشادة بالنهج الاِشتراكي ونبذ الإمبريالية، أحيانًا حتّى بخطابات مباشرة كما هو الحال في مسرحيات (الخبزة) (اللثام) (الأجواد) (حمق سليم).. وكذا في أعمال مخطار عثماني وفرقته "برولاتكيلت"، مسرحية (كبش البابور) (ميات خطوة وخطوة).. ومسرحية (البابور غرق) لأحمد بن عيسى، فبعض المسرحيات من تلك الفترة تنتقد النظام أو هي تضع بعض مساوئه محل مساءلة. وفي ذات الفكرة، يضيف: "نفس الشيء يُقال عن المسرح خلال الفترة الاِستعمارية خاصةً أيّام الثورة التحريرية المباركة، فقد أدركت جبهة التحرير الوطني أهمية نشر الفكر الثوري حتّى تستمر الحاضنة الشعبية للثورة، كما أدركت أيضا مدى أهمية أن يكون المسرح قناة مهمة لتوعية العالم بِمَا يحصل في الجزائر، فحرصت على تأسيس فرقة (سُميت بفرقة جبهة التحرير) وكان دورها فعالاً في نقل القضية الوطنية إلى العالم من خلال إنتاج أعمال مسرحية توضح الهموم التحررية لشعبنا. كما لا يخفى أيضا أنّ فرنسا الاِستعمارية هي الأخرى كانت تدرك مدى أهمية المسرح كثقافة مُضادة فأسست فِرقًا مسرحية داخل البلد وخارجه كان هدفها إضعاف عزيمة الثوّار وإطفاء جذوة الحرب التحريرية".
ذات المُتحدث، واصل قائلاً: "في المسرح المعاصر في الجزائر، وبالضبط منذ مطلع الألفية الثالثة، سنلاحظ تعدّد الفكر المسرحي، ففي حين نرى بعض الأعمال التي تُحاكي الواقع وتستشرف المُستقبل، عاد البعض ليُسائِل الوجود والهوية، وبعضها اِتجه نحو الطقوسية ومحاولة سبر أغوار النفس البشرية، فيما بعضها الآخر راح يُعيد التاريخ إلى الواجهة أو يُمجد الدين أو يرثي هذه الأفكار أو يمدح تلك".
وهنا يذكر بأنه قد كانت له فرصة حضور طبعات من مهرجان المسرح المحترف ومهرجان مسرح الهواة وبعض اللقاءات والأيّام المسرحية في أزمنة مختلفة خلال العقدين الماضيين، وأنّه لاحظ فيها هذا التنوع الكبير في أدلجة الأعمال المسرحية على خلاف النصف الثاني من القرن العشرين الّذي كان أُحادي التفكير إلى حدٍ كبير.
وخلص إلى القول: "أوّد أن أُشير إلى نقطة ذات أهمية بالغة، يحسن بنا كمجتمع مُتحضر أن يكون هذا الاِختلاف في المشارب المذهبية في الفكر على صعيد مسرحي أفضل من أن يتطوّر اِختلافنا إلى خلاف وتطاحن في غياب فضاءات التعبير الحر، وهو ما تفطنت له الدولة الجزائرية فشيدت المسارح، وفتحت فضاءات جديدة للتعبير، رغم ضآلة العدد ورغم محاولة البعض الاِستئثار بها دون غيرهم".
* الكـاتب والنـاقد محمّد بن زيــان
الإيديولوجيا حـاضرة في المسرح بأشـكال متفـاوتة
يؤكد الكاتب والناقد محمّد بن زيان، أنّ المسرح اِرتبط بتفاصيل الحياة، اِرتباطاً يجعل الأيديولوجيا حاضرة بأشكال متفاوتة باِعتبارها رؤية للعالم بتعبير لوكاتش، التي عرّفها لوسيان غولدمان: (إنّ الرؤية للعالم هي بالتحديد هذه المجموعة من التطلعات والإحساسات والأفكار التي توحد أعضاء مجموعة اِجتماعية وفي الغالب أعضاء طبقة اِجتماعية).
مُضيفًا: "الإشكال ليس في ذلك بل في مصادرة الأيديولوجيا لجماليات المسرح نصًا وعرضاً. لذلك الاِرتباط حيثيات سياق التشكّل ففي مدارنا كانت صلتنا بالمسرح عقب ما وصفه أدونيس بصدمة الحداثة أي عقب الاِتصال الصدامي لنا مع الغرب اِنطلاقا من حملة بونابرت على مصر في سنة 1798. وجزائرياً تبلورت المُمارسة المسرحية في سياق مجابهة هيمنة اِستعمارية اِستيطانية، خططت لتجريدنا من روح كينونتنا وقولبتنا كأهالي تابعين وخاضعين".
ذلك ما ربط المسرح -حسب رأيه- بنضال وطني من أجل تأكيد الهوية ومن أجل التكفل بدور بيداغوجي مُرافق لنضالات تيارات الحركة الوطنية الإصلاحية والثورية.
وفي ذات المعطى واصل قائلاً: "كان هناك في البدايات تجارب تنوعت وتباينت وتحاورت مع الريبرتوار الفرنسي ومع بعض العروض المشرقية.. ولا يمكن أن نعزل تلك التجارب عن حيثيات السّياق، والأمر ليس خاصًا فقط بالجزائر بل يشمل كلّ التجارب التي عرفتها بقية البلدان العربية بِمَا فيها مصر، محاولات كانت بمثابة تحضيرات أو إرهاصات ما سيتبلور لاحقاً".
ثمَ أردفَ: "خلال الثورة كان المسرح في فرقة جبهة التحرير الفنية، مُجسّداً للنزعة الثورية، ومُنخرطاً في الكفاح، اِنخراطًا ترك بصماته، وبحكم الواجب الوطني وضغوط الظرف، لم تكن للجماليات الأولوية. وعقب اِسترجاع الاِستقلال واصل المسرح تناغمه مع تحديات معارك بناء الدولة الوطنية ومشاريعها وكانت الأيديولوجيا حاضرة وكان التأثر الطاغي بالمسرح الملحمي البريختي. لكن بعض الفنانين المسرحيين تمكنوا من تجاوز طغيان الأدلجة واجتهدوا في بلورة تجارب اِهتمت بالجانب الجمالي وانفتحت على تيارات المسرح المُتعدّدة وغاصت في اِستلهام التراث الشعبي".
مُشيراً في هذا التفصيل، إلى أنّ المسرح الجزائري عقب اِسترجاع الاِستقلال، مر بمراحل وكانت تأثيرات التحوّلات المُتعاقبة حاضرة.. ففي الستينيات ومطلع السبعينيات كانت الأيديولوجيا متغلبة على الاِعتبارات الجمالية وكانت تأثيرات الثورة وأحلام البناء بعد الاِستقلال مؤثرة، لكن ليس بشكل مطلق، كانت هناك تجارب كاكي ورويشد مثلاً قد اِنتصرت للفرجة ولجماليات المسرح.
كما لا يمكن أن نتجاهل -حسب قوله- الوضع السوسيو ثقافي السائد الّذي حمّل المسرح مسؤولية بيداغوجية كبيرة. وبالتمرس بدأ الأفق يتسع والتجارب تنضج وتتبلور حاملة كلّ مقومات التمكن الجمالي، وهو نفس الحال مع الإبداعات الأدبية.. خصوصاً في الثمانينيات التي عرفت تراجع الأدلجة وحضور الهاجس الأنطولوجي والاِشتغال على اللّغة وعلى بقية مكونات المُعادلة الجمالية.
صاحب "متاهة المغرواي"، اِختتم بقوله: "الإشكال ليس في الأيديولوجيا لأنّها حاضرة باِستمرار وتخدم النص. العرض المسرحي عندما تتموضع كرؤية تمّد النص. العرض بالعمق والأفق. لكنّها تضر عندما تُغرق النص. العرض في المنبرية والصراخ الشعاراتي وافتقاد الشرط الجمالي. وهناك نصوص، عروض تترست وراء الأيديولوجيا لتغطية الضعف الفني".