حظي ملف الذاكرة الوطنية باهتمام خاص خلال سنة 2020 المشرفة على الانقضاء من قبل أعلى السلطات في الدولة في خطوة أراحت جميع شرائح المجتمع وأعادت الثقة في النفوس بعد ماض استعماري بغيض لم يحاول فقط طمس الهوية بل عمل أيضا من أجل تكريس النسيان وسرقة التاريخ.
ستبقى سنة 2020 حلقة مهمة في مسلسل استعادة الذاكرة الوطنية بمختلف ملفاتها وهذا بعد أن قررت الدولة التكفل بهذا الجانب بكثير من الجدية و الملموس، وهو الملف الذي لطالما أسال الكثير من الحبر وشكل نقطة خلاف بين الجزائر والطرف الفرنسي.
لكن و انطلاقا مما يمليه الواجب الوطني تجاه الشعب وماضيه وتضحياته، قررت الدولة وبغض النظر عن مواقف أي طرف- اتخاذ خطوات مهمة وملموسة في مسار طويل من أجل تكفل حقيقي بملف الذاكرة تعيد- للأمة ثقتها في نفسها واعتزازها بتاريخ الأسلاف.
وفي واقع الأمر فإن هذا الملف معقد ومتشابك الخيوط، يتداخل فيه التاريخ البعيد والقريب بالحسابات والمصالح الآنية والمستقبلية لكل طرف.
وكان رئيس الجمهورية المنتخب في 12 ديسمبر من العام 2019 قد وعد بالتكفل بملف الذاكرة كما يجب، وأكد في أكثر من مناسبة أن الجزائر ستواصل العمل في هذا الاتجاه ولن تتخلى عن ذاكرتها مهما كان الأمر، وسيظل الاهتمام بالتاريخ في طليعة اهتمامات وانشغالات الجزائر الجديدة.
8 ماي يوم وطني للذاكرة
في رسالته للأمة يوم 7 مايو الماضي بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لمجازر الثامن مايو 1945 أعلن رئيس الجمهورية عن قرار يجعل الثامن مايو من كل سنة «يوما وطنيا للذاكرة، « أصدرت بهذه المناسبة قرارا باعتبار الثامن مايو من كل سنة، يوما وطنيا للذاكرة، كما أعطيت تعليمات بإطلاق قناة تلفزيونية وطنية خاصة بالتاريخ، تكون سندا للمنظومة التربوية في تدريس هذه المادة التي نريدها أن تستمر حية مع كل الأجيال».
وفي نهاية شهر جوان كان نواب غرفتي البرلمان قد صادقوا بالإجماع على مشروع القانون المتعلق بهذا اليوم، الذي سيحتفى به كل عام كيوم وطني للذاكرة تخلد فيه تضحيات و مقاومة أجيال من الأسلاف من أجل الحرية والانعتاق وبخاصة منهم ضحايا الإجرام في الثامن مايو من العام 1945.
وفي نفس السياق أعطى رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، توجيهات للاهتمام بجوانب أخرى في مجال الذاكرة منها إطلاق أسماء شهداء المقاومة الشعبية، وثورة التحرير المباركة على المجمعات السكنية، وأحياء المدن، والتوسع في ترميم المعالم التاريخية لتقف شاهدة على مر الأجيال على الثمن الباهظ الذي دفعه الجزائريون في التصدي لوحشية الاحتلال الاستعماري الفرنسي حتى يعيش حرا كريما وموحدا فوق أرضه.
كما دعا تبون المؤرخين ودارسي التاريخ إلى استجلاء جميع محطات الذاكرة الوطنية باعتماد الصدق في النقل للأجيال القادمة.
ودائما في سياق رد الاعتبار للذاكرة الوطنية والعمل على نقل تضحيات ومسار الشعب الجزائري أوصى رئيس الجمهورية أيضا بفتح قناة خاصة بالذاكرة تكون محطة لنقل شهادات المجاهدين وتسليط الضوء على مختلف المحطات التاريخية التي مر بها الشعب الجزائري، وهو ما تم فعلا ليلة الفاتح نوفمبر الماضي، حيث أطلقت هذه القناة تزامنا وهذه المناسبة العزيزة على قلوب الجزائريين.
شهداء المقاومة الشعبية يعودون إلى حضن وطنهم
يبقى استرجاع جماجم وبقايا قادة وشهداء المقاومة الشعبية أكبر حدث ميز سنة 2020 في مجال الاهتمام بالذاكرة الوطنية والتاريخ الوطني، لقد كانت لحظة استرجاع جماجم هؤلاء الأبطال من متحف الإنسان بباريس يوم الثالث جويلية فارقة ورهيبة من الناحية الوجدانية على قلوب الجزائريين، وهم يرون قادتهم الذين استشهدوا من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم على يد الاستعمار الفرنسي قبل أكثر من قرن ونصف، يعودون إلى حضن هذا الوطن وحضن خلفهم من الأجيال، ليرقدوا في ترابه الطاهر.
وقد أشرف رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع الوطني، عبد المجيد تبون رفقة أعلى السلطات في الدولة من مدنيين وعسكريين على استقبال رفات 24 بطلا من قادة المقاومة الشعبية يوم الثالث جويلية بمطار هواري بومدين الدولي.
وفي اليوم الموالي وفي جنازة رسمية وشعبية مهيبة أعيد دفن رفات هؤلاء الأبطال بمربع الشهداء بمقبرة العالية في لحظات كانت أيضا مميزة وتاريخية أراحت الجزائريين كافة، الذين أدوا لهم التحية التي يستحقونها وألقوا النظرة الأخيرة على رفاتهم الزكية بقصر الثقافة مفدي زكريا قبل ذلك، ووقفوا دقيقة صمت ترحما على أرواحهم بمختلف مقرات الولايات وعبر ربوع الوطن.
لقد تحقق حلم الشهداء و استراحت أخيرا أرواح ورفات الشريف بوبغلة ، الشيخ بوزيان الشريف بوقديدة ، مختار بن قويدر التيطراوي ومحمد بن الحاج وغيرهم من الأبطال في نومتهم الأبدية فوق الأرض التي دفعوا دماءهم الزكية عربونا لها قبل أكثر من 150 سنة.وقد أكد الرئيس تبون عند استعادة 24 من جماجم قادة وشهداء المقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي أنها مرحلة أولى فقط وستتواصل العملية في المستقبل لاستعادة بقية الرفات من فرنسا.
استعادة الأرشيف .. معركة متواصلة
بعدما جعل الثامن مايو من كل عام يوما وطنيا للذاكرة والتوصية بفتح قناة للذاكرة واستعادة 24 من رفات وجماجم قادة المقاومة الشعبية لم تنته معركة الذاكرة، بل تظل مستمرة إن على المستوى الوطني أو في العلاقة مع الدولة الفرنسية من أجل استعادة الأرشيف الجزائري الموجود هناك.ولا يخص هذا الأرشيف الفترة الاستعمارية الفرنسية فقط بل أن فرنسا استولت أيضا على كميات كبيرة وضخمة من أرشيف الجزائر خلال الحقب التاريخية التي سبقت احتلالها للجزائر في العام 1830.ومعركة الأرشيف تعد حسب تصريحات المسؤولين الجزائريين والخبراء والمؤرخين من أصعب المعارك التي يجب على الدولة ومن ورائها الشعب كله خوضها مع الطرف الفرنسي، كون هذا الأخير لا يرغب في إعادة جزء كبير ومهم من أرشيفنا لديه تحت مبررات متعددة وواهية.
ويعد ملف الأرشيف من بين ملفات عدة يشملها ملف الذاكرة الذي اتفق الرئيسان عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون على معالجته قبل شهور، والذي لأجله عينا مكلفان به من الطرفين، هما المؤرخ بن يامين ستورا عن الجانب الفرنسي وعبد المجيد شيخي، مستشار رئيس الجمهورية المكلف بملف الذاكرة والأرشيف والمدير العام للأرشيف الوطني.
ولكن يظل هذا الملف المفتوح بين البلدين يراوح مكانه كما قال عبد المجيد شيخي قبل أيام في انتظار فحوى التقرير الذي سيقدمه بن يامين ستورا لرئيسه ماكرون في شهر يناير الداخل، كما تبقى رؤية كل طرف لهذا الملف واهتماماته مختلفة ومتباينة انطلاقا من مصلحة كل منهما.
لكن معركة استعادة الأرشيف و ورعاية الذاكرة الوطنية هي مسار طويل يتطلب الصبر والعمل الدؤوب والمثابرة على المستوى الوطني، و استغلال الآليات والفرص المتاحة من أجل ذلك. إلياس بوملطة