يتحدث “هبرماس” عن المجال العام الذي يجسّد فضاء حواريا تلتقي من خلاله مختلف الشّرائح من شخصيات سياسية، ثقافية، علمية، فنّية وغيرها من الطّبقات المشكّلة للمنظومة على اختلاف توجّهاتها وانتماءاتها، أين يسمح بتشكيل سياق تداولي تتلاقح من خلاله مجموع الأفكار و وجهات النّظر بالرّغم من اختلاف مشاربه ومساعيها، بما يساهم في إضافة نوعية لمجموع الممارسات الديّمقراطية وتعزيز قيم المواطنة لدى جمهور العامة في الواقع المعيش ممّا قد ينعكس بصفة إيجابية بنّاءة على نوعية الحياة الاجتماعية في المجتمع. حيث تجدر الإشارة في ظلّ هذا السّياق إلى ضرورة طرح التّساؤل المتمحور حول إمكانات المجال العام الافتراضي الناتج عن مختلف التّطورات التّقنية والتّكنولوجية ومدى مساهمته في تعزيز قيم المواطنة، سيما في مجال توعية المواطنين ومرافقتهم نفسيا واجتماعيا بغرض التّصرف الصّحيح سيما أثناء الأزمات والكوارث الطبيعية ونخصّ بالذّكر في زمن وباء كورونا.
د.عبد الله ملوكي
مع التّطورات الفنّية والبرمجية المتسارعة في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتّصال، والمتزامن مع سهولة اقتنائها واستخدامها من طرف مختلف الشّرائح الاجتماعية بالرّغم من اختلاف مستوياتهم التّعليمية والّثقافية، انتعشت الأسواق المرتبطة بهذا المجال وانبثقت العديد من منصّات الإعلام الاجتماعي إضافة إلى الاتّساع المتزايد في عدد مستخدمي هذه الأخيرة والاعتماد عليها كمصادر أساسية للمعلومات التي توجّه سلوكاتهم وتوجّهاتهم في واقعهم المعيش، ممّا قد يحيلنا إلى طرح العديد من التّساؤلات حول أسباب اعتماد المواطن الجزائري على هذا النّوع من منصّات الإعلام الاجتماعي وما هي علاقته ببقية الوسائل الإعلامية الأخرى؟ وهل أصبحت مواقع التّواصل الاجتماعي تشكّل بديلا ذا مصداقية لدى المواطن الجزائري وبصفة خاصة أثناء الأزمات الإنسانية والكوارث البيئة؛ أم باتت تجسّد فضاء للهروب من واقعه المعيش؟.
المجال العام الافتراضي كمصدر أخبار بديل وبؤرة للأخبار الكاذبة
يعتبر المجال العام الافتراضي ومختلف منصّات الإعلام الاجتماعي وبصفة خاصة عبر موقع “فيسبوك” أحد أبرز الفضاءات التي عادة ما يجد من خلاله المواطن الجزائري ضالته في سدّ فجوته المعرفية. فعادة ما يتعرضّ هذا الأخير إلى مختلف مضامين صفحات هذا الموقع أو انخراطه في العديد من المجموعات الرّقمية ذلك بغرض حصوله على آخر المستجدّات والأحداث المرتبطة بالوباء.
ولعلّ كلاّ من التّفاعلية وخاصية التّشبيك يعتبران من بين أهمّ ما يميزّ الفضاء الرقمي الافتراضي ومختلف شبكات التّواصل الاجتماعي ونخصّ بالذّكر منها موقع فيسبوك، حيث يمكن للفرد أن يقيم العديد من العلاقات غير الخطيّة إضافة إلى الدّخول في العديد من التّعاملات والسّلوكات الرّقمية المتشعّبة. في ظلّ هذا السّياق تجدر الإشارة إلى أنّه عادة ما يشكّل المجال العام الافتراضي بالنسّبة للمستخدم بيئة رقمية تتكاثر من خلالها العديد من الشّائعات والدّعايات المغرضة التي من شأنها أن تعمل على توجيه كلّ من الرّأي العام وسلوك الأفراد في المجتمع.
وفي ظل انتشار فيروس كورونا يجزم معظم الخبراء والباحثين في الوقت الرّاهن بعدم توفّرهم على المعلومات الكافية حول طبيعة الفيروس وكيفية تفاعله في كلّ من الطبيعة أو في جسم المصاب به، ممّا قد يجعل الأمر أكثر صعوبة في التّعامل معه والوصول إلى اللّقاح المناسب أو الأدوية التي من شأنها أن تعمل على القضاء عليه حيث إنّ مختلف المخابر على قدم وساق لتطوير لقاح مناسب للقضاء على هذا الوباء، ممّا قد يسهم في إحداث نوع من الاضطرابات المعرفية، السّلوكية والنفسية للأفراد المتلقين في واقعهم المعيش.
الفجوة الإخبارية وسلوك المواطن الجزائري في الفضاء الافتراضي
يشير موقع “نابوليونكات دوت كوم” إلى أنّ أكثر من نصف سكان الجزائر يستخدم موقع «فيسبوك» أي بما يفوق 22 مليون نسمة في عام 2020م. وقد عرف عدد المستخدمين حسب الموقع نفسه تزايدا بأكثر من 800 ألف مستخدم خلال الفترة الممتدة ما بين شهر فيفري وشهر مارس من السّنة الجارية ليصل لأكثر من 22 مليون و980 ألف مستخدم. حيث يعتبر وباء كورونا الحدث الأبرز الذي ميّز هذه الفترة، ممّا قد يعطينا إشارات واضحة حول العديد من التّساؤلات المرتبطة بسلوك المواطن الجزائري ونخصّ بالذّكر الافتراضي منه، كما يحيلنا إلى العديد من القضايا المرتبطة بمصادر المعلومات التي يعتمد عليها هذا الأخير في حياته تجاه مجموع الأحداث والتّفاعلات اليومية التي يعايشها في يومياته وخصوصا أثناء فترات الأزمات الإنسانية والكوارث الطّبيعية.
ومن النّاحية السّلوكية وفي ظلّ كلّ من العتمة المعلوماتية والقطيعة الإخبارية التي يعيشها المواطن الجزائري تجاه تطوّر وقائع الأحداث المرتبطة بفيروس كورونا، خاصة بالمقارنة مع ما تنشره وسائل الإعلام الغربية من أرقام هائلة متصاعدة بصفة مستمرة في عدد المصابين والموتى جرّاء هذا الأخير والمقدّرة بالآلاف، يجد المواطن نفسه تائها بين شبح المرض، حاجياته الاجتماعية وطرق السّلامة والنّجاة منه.
مواجهة الأخبار الكاذبة باتت حتمية
يعتبر الإعلام الصّحي جزءا من الإعلام الأمني الذي تعتمد عليه مختلف الهيئات الحكومية ومنظّمات العمل الإنساني على غرار اللّجنة الدّولية للصليب الأحمر، ومؤسّسات الهلال الأحمر إضافة إلى مختلف الاتّحادات المرتبطة بمجال العمل الإنساني وهيئات المجتمع المدني في تقويم سلوك المواطن بما يتماشى مع الأزمات والكوارث الإنسانية.
وفي ظل الفجوات المعرفية والعتمة الإخبارية المرتبطة بفيروس كورونا أصبح اعتماد الفرد الجزائري متزايدا على منصات الإعلام الاجتماعي بغية إشباع مختلف احتياجاته المعلوماتية ومتابعة مجريات الأحداث اليومية المرتبطة بهذا الوباء، سواء كان ذلك على الصّعيد المحلي الوطني والدّولي بالرّغم من مجهودات الوسائل الإعلامية في التّوعية الصّحية.
ومن ناحية أخرى تعتبر ظاهرة الأخبار الكاذبة إشكالية تؤرّق العديد من الدّول والحكومات ومختلف الهيئات الإنسانية ذلك لما لها من تداعيات اجتماعية، سياسية واقتصادية في الحياة اليومية، ولما لها من انعكاسات على فعالية وجودة إضافة إلى مردود الأفراد التّابعين لمنظّمات العمل الإنساني. فقد بات هذا النّوع من الأخبار يجسّد أحد أبرز التّحدّيات التي تواجهها مختلف الدّول والحكومات وأبرز الأولويات في أجندات العمل الإنساني، حيث تجدر الإشارة في ظلّ هذا السّياق إلى أنّ مواجهة الأخبار الكاذبة والمضللة باتت أحد أبرز الرّكائز التي تعتمد عليها منظّمات العمل الإنساني في أجنداتها وهو ما يتجلى على سبيل المثال في مجموع الحملات الإعلامية والفيديوهات التّوضيحية التي اعتمدتها اللّجنة الدّولية للصّليب الأحمر حول حقوق الموتى المصابين لفيروس كورونا وطرق ودفنهم من النّاحية الشّرعية في محاولة منها لمواجهة معظم الشّائعات المرتبطة والأخبار المضللة التي من شانها أن تعمل على إحداث الاضطراب في المجتمع وزيادة تعقيد الوضع في مواجهة هذا الوباء.
وما يمكن قوله في هذا السّياق بأنّ الأخبار الكاذبة تتميّز بقدرتها على تلويث عقول الأفراد وتسميمها بالعديد من المعلومات والبيانات المضّلة التي من شأنها أن تعمل على إحداث مزيد من الاضطراب، وزيادة الهلع بما يؤثّر على استقرار الأفراد في المجتمع نتيجة لتضارب الآراء والاتجاهات وغزارة المعلومات المضللة سواء كان ذلك في البيئة الاجتماعية الفعلية أو عبر الفضاء الافتراضي وبصفة خاصّة من خلال مواقع الإعلام الاجتماعي.
اتصال الأزمات واستراتيجيات مواجهة الأخبار الكاذبة
يتحدّث «روبرت داهل» عن الدّيمقراطية متعدّدة الأقطاب حيث وجب علينا التّحدث من خلال ذلك على تعدّد الأدوار والمشاركة الجماعية في مواجهة وباء كورونا، حيث تجدر الإشارة إلى ضرورة تكاثف جهود مختلف الأطراف والجهات العاملة في مكافحة هذا الأخير. وفي ظلّ الحديث عن مواجهة فيروس كورونا تعتبر مسألة تفعيل دور اتصال الأزمات من بين أهم الآليات المعتمدة وأبرزها في تسيير مختلف الظّروف الصّحية والاجتماعية .
يركّز الخبراء والباحثون في مجال اتّصال الأزمات على العديد من الاستراتيجيات في تسيير مختلف الاضطرابات الاجتماعية، حيث يتميّز أبرزها وأفضلها في إطار مكافحة الأخبار الكاذبة في استراتيجية استباق الوسائل الإعلامية الرّسمية ومختلف الأجهزة الاتّصالية الحكومية إلى مصارحة المواطن بمختلف الحقائق بالرّغم من إيجابياتها وسلبياتها ومدى تأثيرها، إضافة إلى تزويده بمجريات الأحداث وأبعاد تطوّر القضايا ونخصّ بالذّكر في هذا الصّدد وباء كورونا. حيث تهدف هذه الإستراتيجية بالدرجة الأولى إلى تحقيق العديد من المساعي الرّامية إلى تكميم أفواه مختلف الجهات العاملة على نشر الارتباك داخل المجتمع استنادا على الأخبار الكاذبة أو المضلّلة أو إظهار جزء من الحقيقة وليست الحقيقة كاملة بما يحقق عدم الاستقرار والفوضى داخل المجتمع. كما تسعى إضافة إلى ذلك إلى تجفيف مختلف منابع العناصر والمجموعات على اختلاف توجّهاتها ومشارب أفكارها في التّرويج للشّائعات المغرضة.
وتجدر الإشارة في ظلّ هذا السّياق إلى أنّه بإمكان هذه الإستراتيجية أن تحقق ذروة أهدافها خاصة إذا تزامن واقترن ذلك بالشّعور الإيجابي للمواطن نحو العديد من المؤشّرات الاجتماعية والمتمثّل أبرزها في تزايد ثقته في الوسائل الإعلامية الجماهيرية وقنوات الاتصال الحكومية، إضافة إلى شعوره بالعدالة والتّوزيع العادل لمختلف الموارد من خلال كلّ من الخدمات الصّحية والإمدادات اللّوجستية وعدم وجود فوارق ومسافات بين مختلف الشّرائح الاجتماعية.
الأخبار الكاذبة واستراتيجية الصّمت أي تأثير؟
وتتميّز الإستراتيجية الثّانية في تسيير الأزمات في التزام الصّمت وعدم الرّد على مختلف التّساؤلات وتجاهل كلّ التّساؤلات المرتبطة بالقضايا المحورية، حيث تجدر الإشارة في ظلّ هذا السّياق إلى أنّ هذه الاستراتيجية قد تتميز بالهزال في تسيير الأزمات حيث تسمح بتشكيل عتمة معلوماتية وفجوة إخبارية لدى مختلف الأفراد ممّا قد يوجّه سلوك هؤلاء نحو الاعتماد على الوسائل الإعلامية البديلة وأخصّ بالذّكر منصّات الإعلام الاجتماعي. حيث يسمح هذا التّعتيم الإخباري بتوفير بيئة رقمية تتكاثر من خلالها مختلف الأخبار الكاذبة والدّعايات المغرضة التي من شأنها أن تعمل على نشر عدم الاستقرار في المجتمع وإعاقة مختلف الجهود العاملة في مواجهة الوباء أو حتى تهديد استقرار الأمن العام للبلاد.
في حين تتجسّد الاستراتيجية الثّالثة في اتّصال الأزمات في تكذيب مختلف الحقائق ومعاتبة الآخرين ذلك باعتبارهم البؤرة والعنصر الرّئيس في افتعال الاضطرابات إضافة إلى إسناد مختلف الإخفاقات إلى العديد من الجهات المجهولة. حيث تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق الاستقرار المؤقت حيث قد يحصل الفرد على العديد من الحقائق لاحقا ممّا قد يؤثّر في علاقة هذا الأخير بمختلف الهيئات الاتّصالية الرّسمية.
وفي الأخير لا يسعنا إلاّ أن نترحم على كلّ من غيّبته عنّا المنيّة بسبب هذا الوباء كما نقدم جزيل الشّكر والعرفان إلى كلّ من هم في الصّفوف الأمامية لمواجهته على اختلاف وظائفهم.