مذ أن تفشّى وباء « كورونا» الفتّاك ربوع المعمورة اجتهدت بعض وسائل الإعلام في إيجاد مقابل لغوي عربي لمصطلح Pandemie فلم يجد المجتهدون سوى مصطلح الجائحةالذي أرادوه مقابلا للوباء المنبثّ في المعمورة ولم نجد من اللّغويين العرب من اقترح بديلا أو نبّه إلى عدم توافق المصطلح المقترح مع نواميس اللغة العربية خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بالمجامع اللّغوية العربية التي لم تحرّك ساكنا ولم تلفت انتباه السّادة الصحفيين إلى عدم تلاؤم المصطلح المقترح والمشكلة الصحية التي يعانيها العالم في هذه الأوقات نتيجة عدم تغطية الحقل المعنوي لمصطلح الجائحة لطبيعة الرزء الذي يعانيه بنو البشر في الوقت الحالي.
1)- معنى الجائحة لغة:
إنّ الأصل الثلاثي لكلمة الجائحة هو «ج و ح» فنجد الخليل بن أحمد الفراهيدي يعرّفها في معجم العين في باب الحاء والجيم و و ا ي معهما:» جوح من الاجتياح ، اجتاحتهم السّنة وجاحتهم تجوحهم جياحة وسنة جائحة :جدبة» فمعنى الجائحة وفقا لهذا المنظور هو ما يصيب الناس في أموالهم منقولة أو غير منقولة .أمّا صاحب القاموس المحيط فيقول:» الجائحة للشدّة المجتاحة للمال.» ويعرفها الجوهري في صحاحه بأنّها:» الجوح الاستئصال ومنه الجائحة وهي الشدّة التي تجتاح المال.» وعليه فقد اتفق جمهور اللغويين القدماء على أنّ الجائحة هي ما يجتاح المال بمختلف أنواعه وأشكاله فيفنيه سواء أشمل مال فرد أو جماعة من الأفراد.
و إذا كان الأمر كذلك فإنّ الحقل المعنوي لكلمة الجائحة يشمل جملة العناصر الآتية: نقص أو انعدام في المال لفرد أو لجماعة من الأفراد في فترة زمانية معينة.
أمّا أصحاب المعجم الوسيط فيعرّفون الجائحة في مُدخل «جاح «، حيث ورد :» جاح فلانٌ –جوحا:هلك مال أقربائه وعدل عن المحجّة إلى غيرها . والجائحة المالَ أهلكته واستأصلته ويقال جاحت الجائحة الناس : أهلكت مالهم واستأصلته.»
2)- الجائحة اصطلاحا:
لم نقف في كتب الطب عند المتقدّمين مصطلح الجائحة للدلالة على الانتشار الواسع لمرض من الأمراض بل وجدنا مصطلح الوباء المتفشي بينما وجدنا مصطلح الجائحة عند الفقهاء للدلالة على النّائبة تحلّ بمال الفرد فتقضي عليه فالجائحة عندهم :» ما أذهب الثمر أو بعضه من آفة سماوية».
الخلاصة:
يتضح ممّا سبق ذكره أنّ المجال المفهومي لمصطلح الجائحة لا يغطّى سوى ما يصيب مال الفرد أو الجماعة من محاصيل أو غيرها ممّا يدخل في الذمّة المالية ولا يمسّ ذواتهم أو أبدانهم من أعراض مرضية أو أوبئة بما يجعل من استعمال هذا المصطلح لتغطية معنى الوباء المنتشر – في نظرنا – في غير محلّه.
إذا تغاضينا عن استعمال الصحفيين لهذا المصطلح لأنّهم غير مختصّين في الدّراسات اللغوية فإنّنا نتساءل عن عدم اكتراث اللغويين والمجامع اللغوية لهذا اللحن فينبّهون إلى التوهّم في الاستعمال فيقترحون المصطلح الملائم أو يحتفظون بالمصطلح الأصلي المعبّر عن تفشّي المرض واتساع رقعته ألا وهو الوباء.
فإن قال قائل : لماذا لا نستعمل مصطلح الجائحة للدلالة على ما يصيب المرء في صحّته وبدنه فيكون المرض عامّا والوباء منتشرا في مختلف أرجاء العالم على سبيل المجاز كما حصل لمصطلح مثل السيارة الذي كان يدل على القافلة من البعير فنقول حينها أنّ المجاز يصحّ عند وضع مصطلح يغطّي مجالا مفهوميا جديدا لا مجالا دلاليا نجد فيه من المصطلحات ما يغطي جميع الأعراض سواء أكان المرض قصير المدّة أم طويلا أم مستعصيا أم منتشرا لأنّ إحدى سمات اللغة و خصّيصة من خصائصها الاقتصاد.
فإن أراد أحد الاستزادة في الموضوع أحلته على كتاب المزهر للسيوطي في الباب الذي خصّصه للأمراض والأوجاع.
إنّ الغرض من هذا التوضيح هو التنبيه أنّ اللغة باعتبارها أداة للتبليغ والتواصل يجب أن تحاط بالاعتبار والاعتناء لذات الاعتبار حتّى لا يسير القارئ العامّي على خطأ سكت عليه المختصون وهي ظاهرة لا نجدها إلاّ في اللغة العربية حيث نجد كلّ كاتب فيها يجتهد –إن صحّ تسميته كذلك – في وضع مصطلحات أو اقتراح كلمات لا تتوافق و نواميس هذه اللغة وهو أمر لا يحدث في لغات أخرى ، حيث تقف المجامع اللغوية واللسانيون المتخصّصون يذودون على حمى لغاتهم إذا لاحظوا تجاوزا على نواميسها وضوابطها ويجتهدون وضعا لمصطلحات تغطّي مفاهيم جديدة . وإنّ ما يتطوّر من اللغة بشكل متسارع هو مفرداتها أو ما سمّاه علماء اللغة العربية الأوائل بمتن اللغة.
والغريب في الأمر أنّ لهجتنا العامّية قد احتفظت بالمفهوم الأصلي للجائحة متمثّلا فيما يصيب المال من تلف خاصّة المحاصيل الزراعية فحينما يصيب الأرض جدب و تحلّ السنة يقول حينها المزارعون :»الجايحة» حيث خففت همزة الجائحة.