رغم أن العولمة جعلتنا نعيش في عالم مترابط بحدود جسدت منطق القرية العالمية الصغيرة، إلا أن الفيروس التاجي الجديد (COVID-19) تمكن من إحداث نوع من الفوضى العالمية تجلت في تصاعد الفردانية والنزعة القومية مما تسبب في بث موجات من القلق و الذعر، والتشنجات في الأسواق المالية، وفوبيا خسارة الحياة الإنسانية في العديد من البلدان، فلم يكن هناك الكثير من الوقت للتفكير، ولم يتوقف الكثير منا عن التساؤل عما قد تخبرنا به هذه الأزمة عن أنفسنا، وعن أجسادنا ومجتمعاتنا، وسلوكياتنا، وأنظمتنا السياسية، وطبيعة ترابطنا المتزايد عبر هذه القرية.
وطالما كانت الديمقراطية الغربية على رأسها ديمقراطية أمريكا تعتز بالمثالية في ضمان الحريات، وحقوق الإنسان، إذ كان يفترض أن يحدث هذا النضال الحقوقي الحاسم داخل الإنسانية نفسها أكثر من أي وقت مضى، لكن ماذا حصل في هذه اللحظة من الأزمة؟
لقد أنتج هذا الوباء مشهدا فوضويا عالميا قاتما عن المباديء والقيم، والحضارة الغربية المادية، بل مزيدا من الانقسام، وعدم الثقة بين البشر، فعندما يتشاجر الناس بسبب المواد الغذائية وتخزينها بشكل جنوني، وتستولي بعض الدول على شحنات الإمدادات الطبية، فهذا يعني مزيدا من الفوضى في المقابل لم يسفر الوباء عن تعاون عالمي أوثق كما كانت تأمل الشعوب، ولا قيادة عالمية حكيمة تنتصر ليس فقط على الفيروس التاجي، ولكن على جميع الأمراض، والأزمات المتنوعة في المستقبل، والأكثر غرابة حين يطل علينا صناع القرار الغربيين، ومنظمة الصحة العالمية بخطابات لم تعهدها الدول من قبل أن تتجهز الشعوب للموت المحتوم قد يكون بالملايين وفي زاوية أخرى نجد تبجح رئيس أمريكا ترمب ويعلنها صراحة أن أمريكا أولى بالبقاء وحياة الأمريكي قبل أي انسان، وبالتالي يصبح البقاء على قيد الحياة بهذا المنطق الوستفالي مسارا موازيا لمسار القومية الخبيثة، وإيماءة سياسية مخيفة عن العلاقات الدولية المستحيلة النقاء، وهذا يجعلنا نتساءل عن أحقية، وجدوى بقاء مثل هذه الزعامة، والقيادة العالمية.
بطبيعة الحال فإن هذا الموقف يجرد الإنسانية من كل سياقات الحوكمة والإستدامة العالمية، ومما لاشك فيه أن العالم اليوم يواجه أزمة حادة ليس فقط بسبب الفيروس التاجي، ولكن أيضا بسبب الفوضى، وانعدام الثقة بين الدول والأفراد، اذ يحتاج الناس في هذا الظرف إلى بناء الثقة بالخبراء العلميين، في حين يحتاج المواطنون إلى بناء الثقة بالسلطات العامة وحكوماتهم، كما تحتاج البلدان إلى تعزيز الثقة فيما بينها، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية قوض السياسيون، والزعماء غير المسؤولين عمدا الثقة في العلوم، والسلطات العامة، والتعاون الدولي، فكان نتيجة ذلك مواجهة العالم هذه الأزمة الصحية التي تفتقر إلى قادة عالميين يمكنهم أن يلهموا وينظموا ويمولوا استجابة عالمية منسقة، لهذا تعالت أصوات كثير من الناس في لومهم للعولمة مقتنعين أن الطريقة الوحيدة لمنع المزيد من تفشي مثل هذه الفيروسات هو إزالة العولمة من العالم.
فاذا أردنا تصديق هذه الفرضية أو نفييها علينا أن نلقي نظرة تاريخية ممحصة ليست ببعيدة، حيث نجد أن الأوبئة قتلت ملايين الناس حتى قبل عصر العولمة الحالي، لذا يفترض أن الخلل لا يتحمله الجانب الايجابي للعولمة، وإنما هي التشوهات التي خلفها الفكر النيوليبرالي المادي القائم على استغلال الانسانية، وتحويلها إلى مجرد آلة منتجة تخضع لمنطق السوق الحر، والتحكم في ثروات الشعوب لاشباع النهم المادي على حساب كل القيم، والذاتية البشرية، وكل السياقات البيئية والمجتمعية، وهذا ما يفسر تخبط العالم في هذه الفوضى، فاذا كانت أقوى دولة في العالم- الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت خلال وباء الإيبولا عام 2014 والأزمة المالية لعام 2008 أن تجسد دور القائد عندما حشدت خلفها ما يكفي من الدول لمنع الانهيار الاقتصادي العالمي، فإنها اليوم بل خلال السنوات الأخيرة استقالت من دورها كزعيم عالمي، و قطعت الإدارة الأمريكية الحالية أواصر الدعم للمنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، وحرصت فقط على تحقيق مصالح أمريكا، وهو ما يفسر دورها الهامشي في أزمة الفيروس التاجي، مما زاد من تآكل الثقة العالمية في الإدارة الأمريكية الحالية إلى حد كبير، فمن غير المعقول أن يثق العالم بزعيم شعاره «أمريكا أولا «.
في نهاية المطاف أصبحت العزلة، وانعدام الثقة المرآة التي تعكس صورة النظام الدولي الحالي، وهو ما يقوض التضامن العالمي، حتى الاتحاد الأوروبي الذي كان يفترض أن يقدم مشهدا راقيا للتعاون والتضامن الاقليمي فشل في لعب هذا الدور ما يمكنه من تبوء قيادة عالمية، فما حدث لايطاليا أكبر مثال على تصدع الاتحاد الأوروبي الذي ترك كل دولة تدافع عن نفسها، وهذا مؤشر مستقبلي قريب لتفكك الإتحاد أو خروج دول أخرى بعد بريطانيا من التجربة التكاملية التي أبان الفيروس التاجي عن هشاشتها،اذن من بين أهم الدروس التي نستشفها من الوباء الحالي أن تدرك البشرية الخطر الحاد الذي يشكله الانقسام العالمي، وأمام هذا الوضع الفوضوي نطرح سؤالا جوهريا آخر «هل يمكن أن يكون الوباء فرصة ذهبية للصين لاستعادة القيادة العالمية ومنحها مزيدا من الثقة والتعاون الدوليين؟ لعل يقين الجواب تحمله مرحلة ما بعد كورونا.