أحتفظ بمخطوطات نادرة لنوبات وقصائد عمرها قرون
يسعى عميد الطريقة العيساوية بمدينة قسنطينة الشيخ سليم مزهود، للحفاظ على موروث الطريقة الذي يصفه بالكنز الذي لا يقدر بثمن، خاصة مجموعة المخطوطات التي يتجاوز عمرها عدة قرون، والتي كتبت على الجلد بمادة «الّصّمغ»، علما و أن الطريقة العيساوية من الطرق الصوفية التي ظهرت في فجر العصر الحديث (القرن السادس عشر الميلادي)، نسبة إلى مؤسسها الأوّل الشيخ محمد بن عيسى المكناسي، والتي عرفت انتشارا واسعا في تونس ثم المشرق العربي، و ما زاد في انتشارها و تزايد عدد مريديها، اعتمادها على الكرامات، و حلقات الإنشاد و السماع و الرقص الصوفي.
حاوره: حميد بن مرابط
و في الجانب الاصطلاحي الفني نجد أن العيساوة في الشرق الجزائري عندما يتحدثون عن المالوف يسمونه (الرياض)، و في المقابل يطلق أصحاب الصنعة علي المديح الديني اسم (المحجوز) عندما يؤدّونه بآلاتهم الموسيقية.
وتقتصر المدرسة العيساوية الصوفية في أدائها الفني على الآلات الإيقاعية المعروفة، على غرار (البندير و الدربوكة و الطار و النغرات) إضافة إلي المزمار (الغايطة).
و من المعروف في هذا الصدد أن أصحاب الصنعة في مجال النوبة يغنون كلمات لشعراء أو مؤلفين مجهولين في الغالب، أما (المدحة) التي تغنى في الطابع العيساوي أو في (المحجوز)، فهي لشعراء معروفين ترد أسماؤهم في أواخر القصائد (بيت السلام).
عميد الطريقة العيساوية الشيخ سليم مزهود، و بعد رحيل أحد أقطاب الطريقة مؤخرا الشيخ زين الدين بن عبد الله، زاد عليه ثقل مسؤولية الحفاظ على هذا الموروث ، و هو ما كشف عنه في هذا الحوار الشيق الذي خص به النصر، عند استضافتنا بمنزله الكائن بباب القنطرة، رفقة أحد تلامذته حسان بن جاب الله.
أول «سفينة» جاءتنا من تونس اشتريتها بـ 1000 دج من مواطن
* بعد رحيل الشيخ زين الدين بن عبد الله، يمكن القول بأنك أصبحت عميد الطريقة بولاية قسنطينة، و زادت عليك أكـثـر من أي وقت مضى مسؤولية الحفاظ على هذا الموروث الفني الشعبي؟.
نعم يمكن القول بأن المسؤولية أصبحت أثقل، لأن الحفاظ على هذا الكنز أصبح عبءا ثقيلا، بداية من الحفاظ على التراث المادي للطريقة العيساوية، و ضمان استمراريته عن طريق تعليم المريدين من فئة الشباب الذين سيحملون المشعل من بعدنا، ناهيك عن الحفاظ على بعض الأشياء الثمينة التي لها علاقة بالطريقة العيساوية مثل «السفاين السبع»، التي هي عبارة عن قصائد خاصة بالفدوى (البردة، النصيحة و سيف الذاكرين...).
من يستمع لـ «العقيقية» يجزم بأن الكلمات ليست من اللغة العربية
* على ذكر الكنز أو الكنوز، يقال أن أول «سفينة» دخلت الجزائر هي بحوزتك، هل لنا أن نعرف حكايتها؟.
نعم أول «سفينة» جاءتنا من تونس الشقيقة، و قد بلغني وقت ذاك بأن أحد المواطنين بمدينة سكيكدة قد اشتراها، فما كان عليّ سوى التنقل إلى سكيكدة، أين التقيت المعني و تفاوضت معه، و في آخر المطاف تمكنت من إقناعه واشتريتها منه بمبلغ 1000 دج، و هو مبلغ كبير في تلك الفترة، و هو ما جعله يظن أنه «كلحني»، لكن العكس هو الصحيح، كونه لم يكن يعرف قيمة تلك «السفينة».
* لكن ليس هذا هو الكنز الوحيد الذي هو بحوزة الشيخ سليم؟.
حقيقة هناك كنزا آخر أكثر قيمة بل لا يقدر بثمن، و هو عبارة عن مخطوطات تعود إلى عدة قرون خلت، و التي تحتوي على أشعار و قصائد و نوبات مكتوبة على الجلد و بمادة «الصّمغ»، و هو الكنز الذي قررت الاحتفاظ به بمكان آمن، بعدما أصبح محل أطماع حتى أقرب المقربين منّي، و لا يخفى عليكم بأنني تقدمت في السن و مريض، وهو ما جعلني أخفيه في مكان آمن.
التعليم في الطريقة العيساوية على طريقة تعليم اقرآن في الزوايا
وتبقى أفضل وسيلة للحفاظ على هذا الموروث، هو تعليم الشباب، كما أقوم به مع الكثير منهم، و نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشاب عبد الجليل بن سمّار.
* رغم وجود الطريقة العيساوية، القادرية، الرحمانية و الحنصالية، إلا أن الغناء الصوفي لم يعد له تأثير كما كان الشأن عليه من قبل، فما هي الأسباب يا ترى؟.
السبب واضح و هو أن الطابع الديني لدى مريدي الطريقة العيساوية لم يعد له أي أثر، على غرار ما كان عليه الأمر في عهد شيوخنا سي محمد بن جلول، الشيخ بلقاسم، و الشيخ صالح داود (الرحمانية) و زين الدين بن عبد الله رحمه الله..
نوبة الأصبهان لم يتمكن الجيل الجديد من تعلمها
فتعليم مريدي الطريقة كان بنفس الطريقة التي يتم من خلالها تعليم القرآن بالمساجد و الزوايا خاصة، ثم أن بداية أي عمل كانت بتلاوة حزب الطريقة، و المعروف لدى المريدين في كل القطر الجزائري بحزب «الدايم»، فلا عمل لعيساوة بدون حزب، و الذي يتضمن ذكر الله، أسماء الله الحسنى، و الصلاة على النبي المختار...
كما يجدر التذكير بأن كل ما كنا نقوم به، سواء عند إحياء الشعبانية، أفراح الختان و كل الأعمال الأخرى كان دون مقابل، و قد كانت الأموال التي تجمع خلالها تقسم إلى ثلاث قسمات...
القسمة الأولى تخصص لصيانة الزاوية التي تعد المقر الرسمي لمريدي الطريقة.
القسمة الثانية تخصص لإعانة المحتاجين من الإخوان و أهاليهم.
الشيخ العنقى أعجب بأداء الشيخ محمد بن جلول و الشيخ بلقاسم
القسمة الثالثة تودع في رصيد بنكي، تستغل في توفير المصاريف، كالتنقل مثلا إلى مدن أخرى، أو حتى إلى خارج الوطن، على غرار التنقل السنوي إلى المغرب، للمشاركة في المهرجان الدولي، الذي كان يدعونا إليه أحد أحفاد سيدي محمد بن عيسى مؤسس الطريقة العيساوية
* رغم التطور و استعمال الالات الموسيقية الحديثة، تبقى قوة عيساوة في الغناء دون آلات؟.
هذا صحيح، فمثلا قصيدة الفياشية تجد فيها خمسة طبوع (الزيدان، الحسين، الرمل، السيكا و المحير)، بالإضافة إلى أن كل طبع يتضمن 3 صنايع وكل صنعة بها بيتين..
كنا نتلقى دعوة سنوية من أحد أحفاد سيدي محمد بن عيسى بالمغرب
مثال آخر «العقيقية» كلماتها صعبة و شعرها هو الأصعب، و تغنى بستة طبوع مختلفة، وعند سماعها يخيّل لك أنها ليست لغة عربية، رغم أن محتواها يتضمن ذكر الله و الصلاة على النبي و ذكر الأولياء الصالحين و نصائح...
هذا و تبقى نوبة الأصبهان أصعب نوبة، بدليل عدم تمكن أي من المتتبعين من تعلمها.
* اعتراف الشيخ محمد العنقى بالأداء الراقي و المميّز للشيخ سي محمد بن جلول و الشيخ بلقاسم، دليل على صعوبة الجمل الشعرية و الجمل الموسيقية في الطريقة العيساوية؟.
في يوم من الأيام كانت فرقة عيساوة بقيادة سيدي محمد بن جلول تقيم فرحا بالجزائر العاصمة، و كان من بين الحضور شيخ شيوخ الفن الشعبي سي محمد العنقى رحمه الله، و قد كان الشيخان بن جلول و بلقاسم يؤديان «العقيقية» بدون أي آلة موسيقية، حيث كانا ينتقلان من طبع إلى آخر بطريقة أبهرت الشيخ العنقى، الذي وجد نفسه بعد نهاية الأغنية، يضع رأسه على كتف الشيخ محمد بن جلول و يقول له: «تبارك الله.. هؤلاء هم الشيوخ و إلا خلّي».