وفيت بوعدي لفضيلة سعدان و للجزائر
قدم مؤخرا المؤلف المجاهد و الدبلوماسي عبد المجيد صانع كتابه «صرخات ألم من أعماق واد الرمال»، خلال جلسة بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية كراسك بوهران أين تحدث عن العمل بحضور صاحب دار النشر «كنوز يوغرطة» الأستاذ هارون حمادو ومجموعة من المجاهدين والباحثين والمهتمين، وجمع النقاش بين تاريخين صنعا الفارق في مسار استقلال الجزائر وهما 17 أكتوبر 1961 و الفاتح نوفمبر 1954.
وقال المجاهد و الدبلوماسي في مداخلته، إنه ليس كاتبا ولكن فكرة المؤلف الذي يحمل عنوان «صرخات ألم من أعماق واد الرمال»، هي وليدة وعد اتفق عليه مع الشهيدة فضيلة سعدان و كل أفراد المجموعة التي كانت معها، واسترسل المجاهد في سرد قصة ذاك الالتزام المعنوي ذي الأبعاد الثورية النضالية، حيث أوضح، أنه كان مع مجموعة من المجاهدين ومنهم الشهيدة فضيلة سعدان يختبئون في مكان سري أين يخزنون الإمدادات المختلفة التي يجمعونها للمجاهدين، وفي إحدى المرات بينما كان الجميع في المخبأ قالت فضيلة سعدان، بلهجة مرحة للتقليل من نوبة الخوف من أن يتم كشفهم «ما رأيكم أن نلتزم أن الذي يبقى على قيد الحياة يكتب عنا وعن هذه الأحداث»، وفعلا وضع الجميع اليد في اليد وتعاهدوا على تنفيذ الوعد، ولكن بعد الاستقلال وتوالي الانشغالات و الأحداث لم يتذكر الوعد الذي تم قطعه مع الرفاق، لكنه أدرك يوما بأن هناك «دينا يجب قضاءه» فبدأ في البحث عن أفراد المجموعة التي كانت معه في المخبأ السري، فلم يجد سوى مجاهدة كانت تسمى «فاطمة الممرضة القبرصية»، وتمكن من زيارتها في بيتها وتذكيرها بالالتزام مع الرفاق بناء على اقتراح فضيلة سعدان، ولكن القبرصية كانت مريضة وأخبرته أنها لا تستطيع كتابة تلك الذكريات التي ظلت عالقة في أذهانهم وترسم صورة من مراحل الكفاح والنضال ضد المستعمر، وبعد مدة توفيت «فاطمة الممرضة»، فأعاد عبد المجيد صانع البحث عن رفاقه ربما يجد من لايزال على قيد الحياة، فلم يجد أحدا.
وحسب المتحدث، فإن الأمر لم يكن سهلا فقد بدأ في تدوين ما يتذكره من تلك الأيام ولكنه لم ينجح في الكتابة على الورقة البيضاء فلجأ إلى التدرب على الكتابة عن طريق الحاسوب، حتى لا يهدر كميات كبيرة من الورق، و فعلا تعلم التحكم في هذه التكنولوجيا وكتب 110 صفحات، لكن الجهاز توقف فجأة بسبب عطل ضاع معه كل الجهد الذي بذله، لأنه لم يقم بحفظ الملف، وبعد هذه «الصدمة» استغرق «سي مراد» وهو الاسم الثوري لعبد المجيد صانع و الاسم الذي فضل الكتابة به، عامين من أجل العودة للكتابة و تدوين كل ما عاشه هو و من عرفوه بعيدا عن اللجوء للأرشيف مهما كان نوعه.
و لكن الصعوبات لم تتوقف هنا، بل لاحقته عندما أراد نشر الكتاب و اتفق مع دار نشر وطباعة في فرنسا، إذ اشترط صاحبها أن يتم حذف فقرة يقارن فيها عبد المجيد صانع، بين القيم التاريخية وأصالة ألوان العلم الجزائري مع ألوان العلم الفرنسي، ولكنه رفض ذلك وعاد بمؤلفه إلى الجزائر.
شهادات لإبقاء الذاكرة حية
وفي مقدمة الكتاب ركز عبد المجيد صانع، على أن هذا العمل هو مساهمة متواضعة لمعرفة حيثيات مرحلة من مراحل تاريخ الجزائر، وأنه يريد من خلال هذه الشهادة نقل التجربة للأجيال الحالية واللاحقة و المحافظة على الذاكرة المشتركة يقظة، إكراما لكل الذين ضحوا لأجل تحرير الوطن، وهي الرسالة التي يريد نقلها للشباب، فتاريخ الجزائر وفق المجاهد صانع هو «واد رمال طويل من النسيان وأصداء آلام تدوي من أعماقه»، ومن هنا تأتي أهمية عنوان الكتاب خاصة وأن أعماق وادي الرمال، كانت تأوي الثوار والمجاهدين ولها قيمة عاطفية في الوجدان القسنطيني «فهو نهر يجري مجراه مثل الوريد في قلب نوميديا القديمة لينحت منحنياتها عبر الأزمان القديمة».
و اعتبر عبد المجيد صانع أن شهادته هذه، هي أيضا وقفة عرفان تجاه أصدقاء الثورة الجزائرية من الأجانب الذين خاطر أغلبهم بحياتهم لدعم المقاومين والمناضلين الجزائريين باسم الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة و احترام حقوق الإنسان، وفي هذا السياق قال المتحدث، إنه من خلال نضاله رفقة مجاهدين آخرين في فرع الهلال الأحمر الجزائري والنشاط الإنساني، تم نقل رسالة القضية الجزائرية ومعاناة الشعب للأوروبيين وغيرهم من شعوب العالم، مشيرا إلى أن هذا النضال جعل المجاهدين يتخذون من الأراضي السويسرية قاعدة خلفية لهم للنشاط الثوري.
وفي رده على سؤال النصر حول طبيعة العمل القادم، قال المجاهد و الدبلوماسي، بأنه لا يفكر في أي عمل آخر حاليا لأنه ليس كاتبا، وأن المؤلف يروي شهاداته عن ما عايشه رفقة المجاهدين والثوار، و ما مر به من تجارب خلال عمله في السلك الدبلوماسي و فروع الهلال الأحمر الجزائري في أوروبا.
من جانبه، أوضح هارون حمادو، مدير دار نشر “كنوز يوغرطة” خلال كلمته في جلسة تقديم الكتاب، أن المجاهد عبد المجيد صانع لخص من خلال هذا المؤلف، تجربته مع إخوانه المجاهدين في قسنطينة، وأنه لم يذكر اسمه بل قدم نفسه باسم مستعار وهو “مراد” الاسم الثوري الذي عرف به وذلك حتى يتجرد من ذاتيته.
«تعلمنا من الشعب الجزائري أن الاستقلال كان ممكنا»
الناشر قرأ بعض الفقرات من الكتاب حتى يتمكن الحضور من تكوين فكرة عن المضمون، فاختار في البداية ملخصا لما دونه صديق الثورة الجزائرية وصديق عبد المجيد صانع السويسري «نلس أوندرسون» في تقديمه للعمل، حيث قال: «بتحقيق الاستقلال تعلمنا من الشعب الجزائري أن ذلك كان ممكنا»، وأن مجازر 8 ماي 1945، تاريخ لا يمكن محوه و يكفي أنها أحداث كانت سببا لبداية الكفاح من أجل التحرر وجعلت من كاتب العمل ثائرا ومناضلا وبعد تضييق الخناق عليه انتقل إلى ليون بفرنسا، وهناك كان لنضاله معنى أعمق لأنه فوق أرض المستعمر، حيث وجد التضامن من فرنسيين متعاطفين مع الثورة الجزائرية، مضيفا، أن فدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا كانت مهيكلة ومنظمة ولكن فوق أرض معادية وهذا كفاح آخر وفق أندرسون، الذي واصل حديثه عن مراد بعد أن انتقل إلى سويسرا، أين ناضل بوجه مكشوف وهنا التقت طريقهما، وكان لهما أصدقاء مشتركون هم همزة الوصل وعلى رأسهم «حفيظ كيرامان» الذي كان ممثلا للحكومة الجزائرية المؤقتة في ألمانيا إلى جانب مالك حداد وآخرين.
عمق النضال في حياة عبد المجيد و «سي مراد»
تحدث عبد المجيد صانع ابن حي سيدي مبروك بقسنطينة، عن عائلته، وكيف أن والده فصل من عمله تعسفيا، يوم طلب الإذن ليقوم بتسجيله في سجلات الحالة المدنية عقب ولادته، إذ قال له مديره الفرنسي يومها : « لقد انتهى عقد عملك معنا، اليوم أصبح لك ابن وسيحاربنا مستقبلا»، بعدها فصل عبد المجيد الطفل من المدرسة عنوة وهو في سن 14 عاما، وهذا بسبب نشاط والده الثوري الجهادي.
التحق «سي مراد» بصفوف الثورة سنة 1955، و بدأ كمناضل سري في حي «فوبور لامي» المعروف حاليا بحي الأمير عبد القادر وهذا بعد أن رفض قادة الثورة التحاقه بالجبل معتبرين أنه من الأفضل أن يبقى في المدينة، وتم تكليفه رفقة آخرين بتأمين المخابئ وتموين المجاهدين بكل ما يحتاجونه و استمر على هذا المنوال إلى غاية 1958 ، حين اكتشف المستعمر الشبكة التي كان ينشط فيها رفقة حوالي 4 آلاف مناضل آخرين موزعين عبر ناحية قسنطينة وعد اختراقها أصدرت قيادة الثورة أمرا بتوقيف النشاط وأعطي أمر لمراد بمغادرة المنطقة، ومن هنا بدأت مسيرة أخرى في طريقه النضالي بعد سفره إلى فرنسا ثم سويسرا وغيرها من الدول.
زاوج عبد المجيد صانع ، بين النضال من أجل الاستقلال والعمل الدبلوماسي الذي مكنه من القيام بعدة مهام في مختلف البلدان حيث رافق الوفد الجزائري المفاوض في إيفيان و تكفل بمهمة “اللوجستيك»، ليساهم بعد الاستقلال في فتح سفارات للجزائر في بعض الدول والمشاركة في تنشيط وزارة الخارجية وتكوين بعض الإطارات.
تضمن الكتاب إلى جانب ما ذكر، ملخصا عن الأحداث التي توالى شرحها عبر 358 صفحة من الحجم المتوسط، حيث ركز من خلاله الكاتب على بعض المحاور التي ارتأى أنها ستحفظ ذاكرة الشعب وتبرز الشعور بالظلم الاستعماري والتمييز في الشارع والمدرسة و حوادث 8 ماي و انعكاساتها، إلى جانب تبيان المناخ الذي ساد قسنطينة و انتشار الوعي آنذاك، ثم اندلاع الثورة و التحاقه بها والمهام التي كلف بها، و احتدام الحرب سنة 1958 والطريق نحو المهجر، وكذا عمله ضمن البعثة الدائمة للهلال الأحمر الجزائري في الخارج وجمعية اللاجئين الجزائريين في سويسرا، وغيرها من الصرخات التي فضل عبد المجيد صانع نقل صداها، علما أن الطبعة الأولى من الكتاب نشرت باللغة الفرنسية سنة 2018، من طرف دار النشر “ميديا أندكس” بالجزائر العاصمة ويشتغل حاليا صاحب دار النشر “كنوز يوغرطة” بقسنطينة على ترجمة الكتاب إلى العربية من أجل نشره مطلع السنة الجديدة.
بن ودان خيرة