ضريح سيدي عاتي أسطورة ينفيها الباحثون و يتمسّك بها القسنطينيون
لا يزال الغموض يكتنف قصة ضريح سيدي عاتي الواقع بوسط مدينة قسنطينة، بأعالي الربوة التي حملت اسمه طيلة قرون من الزمن، رغم عدم تحديد هوية صاحبه، و تأكيد الباحثين على عدم وجود أثر لما يثبت ما يتم تداوله عن نوم ولي صالح بذلك المكان الذي تحوّل إلى مزار، لا يزال يتبرّك به بعض سكان المدينة حتى اليوم و يشعلون فيه الشموع،
و يتناقلون قصصا أقرب من الخرافة عن حوادث وقعت عند كل محاولة لإزالة ما يعتقدونه ضريحا.
بشارع قيقاية عمار و بمحاذاة مقر مديرية التربية بقسنطينة، المعروف ببناياته الشامخة، التي غطت الربوة كلها تقريبا، ما عدا جزء صغيرا، من مرتفع ترابي يعتبره سكان المدينة ضريحا لولي صالح يطلقون عليه اسم سيدي عاتي، و الذي لا يزال البعض يزورونه و يتبركون به و يشعلون له الشموع التي تبقى آثارها في بعض الثقوب الموجودة على المرتفع، رغم جهل الكثيرين لهوية شخصية حيكت عنها قصصا أقرب إلى الخرافة، تدور كلها حول سر استمرار وجود ذلك المعلم و صموده لقرون من الزمن، دون أن يتمكن أحد من هدمه و استغلال أرضيته، على غرار ما تم فعله مع باقي المساحات و المعالم.
بعض من تحدثنا إليهم من سكان الحي أخبرونا بأنهم لا يعرفون الكثير عن هذا الولي و كل ما يجدونه أو يلاحظونه من حين إلى آخر بالمكان هو آثار شموع، يعتقدون أن بعض أهالي المدينة القديمة هم من يقومون بإشعالها، تبركا بالمكان الذي يعتبرونه ضريحا لولي صالح،و يعتقد الكثيرون أن رفاته موجودة بالمكان الذي أحاطت به بعض الخرافات، مثلما ذكر أحد المواطنين الذي أخبرنا عن بعض ما سمعه من قصص متداولة، كعدم تمكن الفرنسيين من هدم و استغلال المكان، مثلما فعلوا بالمنطقة المترامية الأطراف، حيث باءت كل محاولاتهم بالفشل، لأنهم عند كل محاولة يتفاجأون بهزات و ارتجاجات تحت أقدامهم و انجراف غير متوّقع للتربة، الشيء الذي كان يجعلهم يحجمون عن متابعة مشاريعهم، نفس الشيء حدث بعد الاستقلال، فيما قال آخرون، بأن المستعمر نقل رفات الولي سيدي عاتي إلى مكان غير معلوم، على حد اعتقادهم.
الربوة شاهدة على توسيع المدينة
الضريح الذي ظل يتبرّك به الكثيرون على مر السنين، لا يعدو من وجهة نظر المختصين في مجال علم الآثار و التاريخ، أكثر من نقطة أو مقطع أثري تعمّد المستعمر الفرنسي تركه كشاهد، عما كانت عليه المنطقة، قبل عملية توسيع المدينة التي كانت محصورة فوق ربوة الصخرة.
مديرة المتحف العمومي الوطني سيرتا قيطوني كلثوم دحو، أكدت بأن أغلب كتب التاريخ و الآثار، لم تذكر شيئا عن الضريح و إنما تحدثت عن الربوة المعروفة باسم عاتي و التي كانت تأوي مقبرة المدينة منذ الفترة العتيقة أي النوميدية، الرومانية، الوندالية، البزنطية.. إلى غاية الفترة العثمانية، و هو ما تؤكده و تثبته الحفريات و اللقى الأثرية التي تم العثور عليها، خلال بداية أشغال توسيع المدينة القديمة التي كانت محصورة فوق الصخر العتيق حيث لم يجد المستعمر الفرنسي منطقة أفضل من كدية عاتي، باعتبارها الممر الوحيد البري الذي يربط الصخرة التي كان يحيط بها الوادي من كل جهة، بالمنطقة المراد استغلالها في توسيع مدينة قسنطينة، و استمر التفكير في طريقة تجسيد المشروع قرابة 17 سنة.
و بينت الباحثة بأن ربوة عاتي التي كانت تقابل ربوة الصخرة و لها نفس ارتفاعها تقريبا، تم العثور فيها على حفريات يوجد 80 بالمائة منها بمتحف سيرتا الذي شيّده المستعمر سنة 1930، فيما تم تحويل البقية إلى المتاحف الفرنسية، و من تلك الحفريات قارورات زجاجية، صناديق دفن و فخاريات و غيرها من اللقى التي تنوّع تاريخها بين العهد النوميدي، الروماني و الوندالي..
و لعل من أهم ما جاء ذكره بخصوص التحف الفنية التاريخية التي استحوذت عليها فرنسا بمنطقة كدية عاتي، و نقلتها إلى باريس الفسيفساء البحرية «انتصار نبتون و أفروديت» التي تتمتع بقيمة فنية نادرة و التي نقلها الرائد الفرنسي ديلامار عام 1842 إلى متحف بباريس، قبل أن يتم عرضها أمام الجمهور عام 1851.
عاتي اسم يحصر في الحقبة الإسلامية
مثلما اختلفت الآراء و الأقاويل بخصوص وجود ضريح حقيقي لولي صالح يدعى سيدي عاتي بحي الكدية، اختلفت أيضا الآراء بشأن سر تسمية عاتي، حيث اعتبر البعض أنها اسم لشخص، غير أن الطريقة التي يتبرّك بها البعض بالضريح، حسب بعض المهتمين بتاريخ مدينة قسنطينة، تحصر هذه الشخصية التي يجهل عنها الكثير و لا يعرف عنها سوى الاسم، في عصر يرتبط بالتواجد العربي الإسلامي، باعتبار نطق الكلمة أقرب إلى اللغة العربية لاحتوائها على حرف العين، و هو ما جعل البعض يرّجح أن يكون الاسم تحريفا لكلمة"عاطي"، أي المانح و هو الشخص المعروف بسخائه و كثرة عطائه، و قد ينطبق ذلك على ولي صالح، فيما رجح البعض الآخر، بأنها لا تخرج عن حيّز اللفظ التي وجدت عليه أي"عاتي" و التي تعني الجبار و منهم من يرى بأن معنى الكلمة، يعود على المكان شديد العتمة، باعتبار الربوة كانت تحتوي على مقبرة المدينة، فربطوا ذلك بعتمة القبر..و غيرها من التسميات، التي اعتبرت مديرة متحف سيرتا، بأن عدم وجود فرق متعددة التخصصات لتفسير و شرح ما تم العثور عليه في مختلف الحفريات، بطريقة علمية دقيقة، حال دون تحديد المعنى الحقيقي لتلك التسمية، مشيرة إلى وجود نصب قديمة جدا نقش عليها اسم عاتي و هو ما قد يدحض باقي الاحتمالات السابقة.
و قد أثار المكان في السنوات الأخيرة، جدلا بعد محاولة صاحب ملكية تقع بشارع عبان رمضان تهديم المرتفع الذي يعتقد بأن به ضريح سيدي عاتي، كما يحلو للبعض تسميته، حيث احتج عدد من المدافعين عن آثار و معالم مدينة قسنطينة، فأوقفوا الأشغال رغم حصول المالك على ترخيص من البلدية.
و من أكثر الرسومات و الصور المخلدة لمنطقة الكدية عاتي و المتداولة بكثرة من قبل هواة و مقتفي محطات التاريخ، عن هذه المنطقة، تلك التي رسمها التشكيلي هوراس فارني عام 1837، و التي تجسد جميعها مرحلة هجوم المستعمر على المدينة و تصدي سكانها له بتلك المنطقة، فكبدوه خسائر كثيرة، فيما تظهر أخرى انتصارات المحتل بذات النقطة، بالإضافة إلى الصور الفوتوغرافية التي وثقت لمراحل أشغال التسوية التي خضعت لها الربوة و التي عكست بؤس و شقاء السجناء الجزائريين الذين استغلهم المحتل أبشع استغلال.
مريم/ب