ذكر النحات الفلسطيني زكي سلام بأنه وجد ضالته في مدينة بوسعادة و يشعر بالارتياح فيها منذ أن اختارها للإقامة، بعد أن اضطرته الأحداث في سوريا لترك بيته و ورشته و كل أعماله التي أنجزها طيلة مشواره الفني و يجهل مصيرها الآن، فأصبح اللجوء عنوانا له و لأسرته و جسّده في أعمال كثيرة شارك بها مؤخرا في معرض للنحت بقسنطينة، مشيرا إلى أن بوسعادة سحرته، كما سحرت إتيان دينيه قبله.
حاورته مريم بحشاشي
الفنان تحدث أيضا عن واقع فن النحت بالجزائر، معتبرا بأنه لا يزال لم يحظ بالمكانة التي تليق به ببلد يتمتع بتاريخ عريق و ثري كالجزائر. كما تطرّق إلى أهم أعماله الموجودة بمختلف دول العالم.
• النصر: لنبدأ من مكان إقامتك الجديد ببوسعادة، لماذا اخترت هذه المدينة بالذات؟
- زكي سلام: سمعت و قرأت عن الفنان العالمي إيتيان دينيه، لكنني لم أكن أعرف بوسعادة التي سحرته، كما سحرتني أنا اليوم، فهي مدينة هادئة تليق بنحات في سني، حيث وجدت بالقرب من البيت الذي أقيم فيه اليوم، واد يعطيني حجارة بالمجان، و استلهم من الطبيعة الجميلة و المناظر الخلابة هناك إبداعاتي. في الواقع بوسعادة هي التي اختارتني، و هذا من محاسن الصدف، لأن أهلها طيبون، و هناك سبب آخر هو أنني بعد خروجي من سوريا، لم تكن لي علاقات و ظروفي الاجتماعية كانت صعبة، لكن هذه المدينة منحتني الفرصة لأن أكون نحاتا مائة بالمائة، فجسدت الكثير من المنحوتات، شاركت ببعضها في معرض قسنطينة، في إطار تظاهرة عاصمة الثقافة العربية.
• يبدو أنك وجدت راحتك في النحت بمدينة محافظة جدا؟
- بوسعادة مدينة محافظة، لكنها غير متطرّفة، فلا أحد يفرض وجهة نظره، بالعكس وجدت الناس مهتمين بالفن الجميل، و لاحظت أنهم يركزون أكثر على الموضوع، و يقبلون النحت، حسب الهدف المجسد، و المضمون، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالوطن و النضال.
• في سياق الحديث عن المواضيع، لاحظنا بأن الهجرة و معاناة اللاجئين أكثـر المحاور البارزة في منحوتاتك، هلا حدثتنا عن ذلك؟
-هذا إحساسي اتجاه الحياة، أنا ببساطة، عندما بدأت فن النحت لم أفكر في المواضيع التي سأجسدها، و إنما بحثت عن فن صادق، للتعبير عن نفسي و حالي بصدق، فأنا وجدت نفسي في مركز الحدث بعد الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، لأنني ابن لاجئ فلسطيني عاش في سوريا و اندمج فيها و كذلك أنا، و بعد سنوات طويلة سحب البساط من تحت أقدامنا من جديد و وجدت نفسي و عائلتي من اللاجئين مرة أخرى، و نجونا بجلودنا دون أن نحمل شيئا معنا، سوى ما كنا نرتديه.
• لقد شاهدت صورا كنت نشرتها في صفحتك على الفايسبوك، عن تخريب ورشتك بسوريا...
- هي فوضى الحرب، فالحرب تهدم ما تبينه الحضارات عبر العصور في خمس دقائق، فما حدث بسوريا أكبر، مما قد يتصوّره أي شخص يعيش خارج هذا الوطن الغالي، لأن آلاف الأيادي الخارجية تتلاعب بمصير شعب و الدول العظمى تتفق و تتفاوض و تعلن الهدنة دون الرجوع إلى السوريين، باختصار أعود لأقول بأن الحرب تهدم كل بناء تشيّده الثقافة و الحضارات على مر العصور، فورشتي خرّبت في دقائق و أجهل حتى الآن مصير كل أعمالي في الورشة و حتى ببيتي بمخيّم اليرموك المحتل من قبل فصائل إسلامية مسلّحة متطرّفة، لقد احتفظت بانجازات قمت بها على مدى عشرات السنين في مشواري الفني، كنت أنحت باستمرار و لا أبيع منحوتاتي، فقد كان لدي دخل مادي آخر، و الفن كان طريقتي في النضال.
• كم كان في رصيدك من منحوتات؟
-لا تحصى و لا تعد، فأنا كنت أعمل بشكل يومي، و مشغلي مختص في المنحوتات البرونزية الفنية.
• أكثـر تماثيلك تطبعها النظرات التائهة، الترّقب و التطلع إلى أفق مجهول، كما تظهر في شكل مجموعات، حدثنا عن سر ذلك، هل هي طريقتك للتوثيق للذاكرة الجماعية و المعاناة المشتركة؟
- ما تتحدثين عنه، تضمنته بعض أعمالي الأخيرة التي جسدتها في الجزائر و التي تعبّر عني كشخص بنى حياته بصعوبة، و فقد كل شيء و بدأ حياته من نقطة الصفر، دون بنية تحتية، ليس لي منزلا و لا مشغلا.
• إلى أي مدى يخفف فن النحت من حزن الفنان و آلامه، و هل وصل في البلاد العربية إلى مستوى اعتماده كلغة تواصل و حوار من نوع آخر؟
ـ النحت لغة حسية و بصرية يفهمها الناس بالفطرة، و أهميتها بالنسبة للفنان أنها تمنحه القدرة للتخلّص من التراكمات و الطاقة السلبية من خلال تكسير الحجارة و منحها بعدا جماليا، تعبيريا، في حوار بين الخامة و النحات، يتم نقل مشاعر، عبر خامة تكون جسر تواصل مع الآخر.
• كيف ترى مستقبل فن النحت في الوطن العربي بعد كل التخريب الذي طال التحف التاريخية و المتاحف الأثرية؟
-النحت في الحوض المتوسط، هو فن أصيل و موجود بالمنطقة، منذ الأزل و قد رأيت بقسنطينة، في بداية تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، تحفا و أعمالا لا تختلف عما هو موجود في بلادي فلسطين و كذا سوريا، و هو ما يؤكد بأن المنطقة كانت منطقة نحت، و علينا إعادة بعث هذا الفن، إذا أردنا الحفاظ على حضاراتنا العريقة.
• ما هي قراءتك الخاصة لواقع النحت و النحاتين بالجزائر؟
- صراحة وجدت بأن النحت لا يزال لم يحظ بالمكانة التي تليق به ببلد يتمتع بتاريخ عريق و ثري كالجزائر، لم أفهم السبب الحقيقي وراء ذلك، خاصة بعد وقوفي على واقع تدريس هذا الفن بالمناهج الدراسية بالمعاهد و المدارس المتخصصة، و انطلاقا من تجربة ابني الذي تخرّج منذ فترة قصيرة من معهد الفنون الجميلة، لاحظت بأن تلك المرافق، لا يتخرّج منها نحاتين ماهرين بالمستوى الذي يليق بالجزائر في رأيي.
• ربما لأن النحاتين يتجنبون التجسيد لتجنب المحظور، عكسك تماما...
- ربما هي الأفكار التي توافدت مع القادمين من الجزيرة العربية، عكس التوريث الذي كان موجودا، و الدليل وفرة المنحوتات الفنية القديمة بكل البلدان العربية و الإسلامية، و حتى و إن لم أكن خبيرا في الدين، فإنني قرأت كتاب الله و لم أجد نصا صريحا يحرّم النحت، فالله سبحانه و تعالى منّ على سيدنا سليمان بأن كلّف الملائكة بأن تصهر الحديد و النحاس و تصنع له تماثيل، لذا فأنا أتمنى أن يجتهد المتخصصين في الدين، لكن انطلاقا من المصدر الأصلي القرآن الكريم.
• حدثنا عن تقنيتك الخاصة، هل تعتمد على الفكرة لتحديد الخامة أو العكس؟
-كنت رئيس قسم خزف بجامعة دمشق، حيث درست تقنيات النحت و الخزف، أي عمليا أنا أكاديمي مختص في التقنيات، و بالتالي جرّبت الطين المحروق و مختلف المعادن و الخشب و الحجارة بكل أنواعها من رخام و غرانيت و حجارة طبيعية، و كل هذا له قيمة فنية تظهر في المنتوج، و عادة ما تكون هناك علاقة جدل بين الشكل و المادة، فالمادة لها طاقة محدودة و الفنان وحده يستطيع أن يجعلها تتفاعل مع الموضوع أو العكس، فالواحدة ترفع قيمة الثانية، و اللحظة المهمة في تاريخ النحات و المنحوتة، تكون عندما ينجح في جعل المادة و الموضوع متساويين و لا يطغى أحدهما على الثاني، و هذه هي جالية النحت.
• من أين تستوحي عناوين منحوتاتك؟
-من تجربتي الحياتية الخاصة من فرحي و حزني و معاناتي و آلامي و علاقاتي و النحت طبيعته التعبير عن مشاعر صاحبه.
• كم كان طول أكبر تحفة جسدتها في مشوارك الفني؟
-في سوريا عملت منحوتات من الرخام وصل طولها ثلاثة أمتار، و يمكن مشاهدة أعمالي بحديقة البحرين، و إسبانيا و سوريا، بالنسبة للبرونز، جسدت أعمالا من تصميم فنانين آخرين و زاد طول بعضها عن السبعة أمتار، لدي اثنين أمام متحف البحرين يزيد طولهما عن المترين، و شعار مسرح قطر و لدي عملا بإسبانيا و هناك أعمالا لي بدمشق و مدن سورية أخرى.
• أي المنحوتات أثرت فيك و رفضت إهداءها أو بيعها و لماذا؟
- رفضت دوما بيع أعمالي، و إذا أهديت بعضها فيجب أن أتأكد من المكان الذي ستوضع فيه و المناسبة التي ستعرض فيها.
• ماذا عن مشاريعك اليوم في الجزائر ؟
- أشكر جزيلا الزملاء الذين دعوني و ساعدوني لأجل المشاركة في معارض عديدة بمختلف المناطق بالجزائر، و هو ما منحني فرص التواصل و خلق علاقات مع الفنانين، لكن ما أعانيه اليوم و أواجهه من مشاكل إدارية بخصوص تثبيت الإقامة و اعتمادي على تجديد التأشيرة في كل مرة، يحرمني من العمل أو حتى الحصول على حساب بنكي، رغم أن أبنائي يدرسون بالجامعة، منذ حوالي أربع سنوات.
م/ب