الثـورة الجـزائـرية برؤيـة إنســانية
بدا مخرج «الدخلاء» محمد حازورلي، كمن دخل سباقا مريرا ضد الساعة، لإيفاء سيناريو جمال الدين مرداسي حقه، و الإلمام بكل جوانبه، دون إغفال أي تفصيل و لو بسيط منه، لأهمية الأحداث التي تناولها حول فترة استعمار فرنسا للجزائر والتي حاول تلخيصها في مدة ساعتين و عشرين دقيقة، حلّق من خلالها بالجمهور في رحلة في عالم طغى عليه الجانب الإنساني والاجتماعي على الثوري، رغم ثراء محطاتها فبدت مضنية و أشبه برحلة بأجنحة متكسرة.
الفيلم الذي أنتجته الوكالة الوطنية للإشعاع الثقافي، بميزانية قدرها 12 مليار سنتيم، و استغرقت عملية تصويره أكثر من 13 أسبوعا، سلط الضوء على الحياة الاجتماعية للجزائريين و علاقاتهم بالمستوطنين آنذاك، بسلبياتها و إيجابياتها، غير أن كثرة الأحداث و تشابكها و حرص المخرج على عدم إغفال أي جانب من جوانب الحياة في الحقبة الاستعمارية، جعل من الصعب إبراز الدراما وسط أكوام المعلومات و الصور، التي سريعا ما يتوه بينها المشاهد الذي يحاول جاهدا منذ البداية إيجاد ملامح الدخيل أو الدخلاء، الذين أشار إليهم في عنوان الفيلم، لكن دون جدوى، و يشعر بأنه في سباق طويل بنفس واحد، و يجد صعوبة في الحفاظ على الخيط الرئيسي، لأنه لم يتعوّد على متابعة فيلم يظن في الوهلة الأولى، استنادا إلى شريطه الترويجي، بأنه فيلم ثوري على الطريقة الكلاسيكية، لكنه يتفاجأ بجزائر بألوان الطيف، طيف الماضي و طيف الأديان و الجنسيات التي صهرت في سبيكة واحدة، و جعلت من المستعمر و الراغب في الاستيطان و السكان الأصليين و اليهود و المؤمن بقضية و غير المهتم بها يعيشون في حيّز واحد.
«الدخلاء» اعتمد على أكثر من 80 من الممثلين الجدد، أكثرهم لم يسبق لهم التمثيل، كالطفل كنزي الجزائري بالملامح الأوروبية، بشعره الأشقر و عينيه الزرقاوين و الذي كان يمر دون مشاكل على حواجز التفتيش الفرنسية، مما شجع المناضل المتخفي في ثوب فنان عازف على آلة الهارمونيكا، يستعين به لتمرير السلاح الذي نفذ به جريمته ضد الشرطي»أورتيز» الحقود و المنبوذ من قبل الجزائريين، و ذلك بعد إخفائه في محفظة التلميذ الصغير، لكن مشهد التفتيش، انعدم فيه عنصر التشويق، الذي غاب في مشاهد كثيرة أخرى، مثل مشهد إلقاء القبض على ابن اللبان، و الذي كان لافتا وغريبا نظرا لعدم تأثر هذا الأخير بالجروح الناجمة عن الضرب و التعذيب الذي تعرّض له، مما جعل الفيلم يبدو سطحيا، لأنه مهما كانت شجاعة و قوة الشهداء و المناضلين، غير أن علامات الإرهاق و التعذيب لا يمكن إخفاءها، و يعمل صناع الأفلام على إبرازها باستعمال تقنيات الماكياج السينمائي، و براعة الممثلين في أداء دور المتألم و المعذب، عكس ما ظهر على الممثل الشاب الذي بدا و كأنه خرج من شجار عادي.
بهرجة بألوان الإنسانية
منذ الوهلة الأولى، يلج بنا المخرج إلى ساحة المعارك من خلال ذكريات و مشاهد «فلاش باك»، من محل اللبان صاحب الساق المبتورة، بسبب مشاركته في حرب الهند الصينية «أندوشين» التي جنّده فيها المستعمر رغما عنه، فأفقدته القدرة على السير دون عكازين، وخلفت لديه حسرة لعدم تمكنه من الالتحاق بالمجاهدين و المشاركة في تحرير وطنه، لولا ابنه الذي منحه فرصة تذوق طعم الفخر، لشجاعته في مواجهة المستعمر.
توالي اللقطات والمشاهد المتنوعة واللقاءات، بدءا باللبان وابنه والرفيق الواشي بابنه المجاهد، مرورا بمحققي الشرطة الفرنسية و بشكل خاص «أورتيز»، «فولف» و»بوب» الجزائري المتسلل في أوساط الفرنسيين لفائدة إخوانه المجاهدين، وصولا إلى مدرسة وعائلة الطفل كنزي و صديقه الفنان وحبيبته منيرة التي تكبره سنا، و كذا الحانات و الملاهي التي تشهد هي الأخرى حكايات و حكايات تحيل إلى ثنائية جدلية تطرح الأولى نموذجا للعلاقات الإنسانية، مقابل عبثية علاقات عاطفية تكشف عن اضطرابات و تناحرات تختم بنهايات درامية، بقتل المغتصب و المغتصبة تارة و بقتل الحبيبة و انتحار الحبيب تارة أخرى.
رحلة البحث عن الدخيل تستمر منذ بداية الفيلم وإلى غاية النهاية، دون بروز ملامحه لأن صورة المستعمر بدت مختلفة، فهو في الفيلم يظهر في ثوب فرنسية تعشق جزائري وترتبط به وتنجب طفلا، يتحوّل إلى محقق شرطة بصفوف الفرنسيين، بوبكر المدعو بوب الذي يكتشف أمره، لكنه ينجح في الإفلات بجلده، كما يختلط الدم الجزائري بالفرنسي مرة أخرى، بعد إرغام ابن اللبان على منح دمه لإنقاذ حياة معذبه أورتيز، الذي يتحوّل بفعل ذلك من شخص حاقد إلى منقذ، اعترافا بالجميل، و يختلط الدم الجزائري بالفرنسي مرة أخرى، عندما تحمل شابة فرنسية من بوبكر الجزائري المسلم.
في أحيان كثيرة تذوب المسافة بين المحتل و صاحب الدار، رغم مشاهد الحرب و الاشتباكات التي بدت ربما لقلة الإمكانيات بسيطة، كما و عددا، بالنسبة للمستعمر الفرنسي، رغم أن الواقع التاريخي، يؤكد احتكار الجنود الفرنسيين للشوارع من خلال عمليات تفتيش المارة و مداهمة الأماكن التي يشكون في وجود من كانوا يطلقون عليهم صفة «الفلاقة»، كما كانوا يضاعفون و يكثفون قواتهم، كلما أرادوا مواجهة المتظاهرين، و التضييق عليهم.
ذاكرة ثورية بطيف التسامح الديني
الملفت في الفيلم أيضا، هو التوازن العاطفي و الذاتي الذي ظهر من خلال لقطات صوّرت اعتداء أطفال جزائريين مسلمين على ابن عائلة يهودية، فتم التركيز على أن أفرادها معتدلين ومتسامحين و تدخل والد الطفل كنزي لإنصافه، لكن في المقابل ظهرت صورة اليهودي الحقود في صورة مدرّس، لا يكف عن تدبير المكائد للطفل الجزائري الوسيم و المتفوّق كنزي.
مشاهد التعاطف تارة مع يهود الجزائر، و الأقدام السوداء الذين كانوا يحلمون بالعودة إلى الجزائر واستعادة أملاكهم تارة أخرى، كادت تطغى على مشاهد حماس الجزائريين لاستعادة أرضهم و استماتتهم لأجل قضية الأرض و العرض و الوطن، و التي تم تداركها في منتصف الفيلم، من خلال إبراز نضال حرفيين و أثرياء و إطارات يعملون في السر، قبل اكتشاف المستعمر أمرهم، بسبب الخيانة، النقطة الأخرى التي لم يغفلها صاحب النص، في صورة غير معهودة في الأفلام الثورية الجزائرية السابقة، التي كانت دائما تظهر الحركى و الخونة في مرحلة الكهولة أو الشيخوخة، فيما اختار فيلم «الدخلاء» شابا في مقتبل العمر، لأداء دور الخائن الأناني و الحقود الذي لا تهمه إلا نفسه»صاحبي هو جيبي»، مثلما ردّد في إحدى اللقطات.
تجسيد عمليات الفدائيين و تحركاتهم بكل سهولة و بساطة و أناقة، أثارت هي الأخرى تساؤلات بعض المتفرجين الذين رأوا بأن ذلك أفقد الحرب شراستها و مرارتها و الجروح التي تسببت فيها للجزائريين الذين لا يمكن لهم أن ينسوا ظلما عاشه آباؤهم و أجدادهم، طيلة أكثر من قرن من الزمن.
و قد ينجح «الدخلاء» أكثر في استمالة اهتمام المتفرّج، دون استياء أو شكوى من طول مدة الفيلم، لو جسد المخرج مشروعه لتحويله إلى مسلسل من سبع حلقات، نظرا لكثرة الأحداث و الشخصيات المحورية التي يمكن حياكة قصة كاملة حول كل واحدة
منها.
مريم/ب