الاثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق لـ 12 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

الترجمـة في ظل العولمـة

الأستاذ الدكتور عبد الله حمادي
أ- الترجمة:
بأبسط تعريف هي وسيلة لتبادل المعارف بين الشعوب؛ أي نقل حضارة ما إلى حضارة أمة أخرى، وبفضل هذا النقل أو الانتقال تتفتح الحياة في النتاجات الفكرية والعلمية حين نقلها من لغة إلى أخرى، أي حدوث تلاقح يفضي إلى التفاعل.  
إن قابلية الثقافة للترجمة تكمن فيما تحمله تلك الثقافة من قضايا إنسانية وقيم ومعارف تتحدى الحدود المكانية والزمانية، أو الظروف والصروف. هذا المفهوم ينطبق على دلالة الترجمة في عهد ما قبل العولمة، وحتّى فيما قبل الأورومركزية.  
الترجمة هي عملية توليد معرفي ولغوي، وتشكل فضاء ملائما للحوار والمثاقفة، فمن خلالها تتفتح لغة على آفاق جديدة، تكسبها عوالم تجديدية، فتتكاثر بموجبها مفردات اللغة، فيتسع قاموسها المعرفي و الدلالي.
أثبت تاريخ الترجمة أن بإمكان الشعوب استعمالها كوسيلة حوار فيما بينهم، وقد أكد على هذا الفيلسوف أفلاطون الذي يرى في الترجمة لغة التأويل والرمزية، كما رأى أرسطو إمكانية ترجمة المصطلحات والمعاني من لغة إلى أخرى بالاعتماد على الاشتقاق اللغوي الذي لا يتشكل من القياس المنطقي، لأن اللغة في آخر الأمر هي طاقة ذهنية يكشف عنها نسق الرموز التي بإمكان الشعوب والمجتمعات التواصل بواسطتها.
ب - الترجمة لغة اتصال لا لغة انفصال:
الترجمة هي لغة وساطة بين الشعوب، ودور المترجم هو أداة وصل واتصال وبواسطته تنشأ علاقة تأثير وتأثر، ودوره رغم التقدُّم التكنولوجي الهائل يظل يفوق دور الحاسوب على سبيل المثال، لأنّ هذا الأخير يكتفي بقدرته على نقل المعلومات وتخزينها مجردة من أي حس حضاري مغاير، في حين يكون المترجم قادرا على نقل لغة اللسان، ولغة البيان، ولغة المجاز، ولغة الأحاسيس، كلغة الأذن، ولغة العين، ولغة المشاعر، وغير ذلك.  
ومن أبرز فضائل الترجمة أنّها تحُول دون طغيان ثقافة على أخرى، أو انعزال ثقافة وتقوقعها على نفسها. كذلك فإنّها تحدُّ من الهيمنة التي تنادي بها العولمة، هذه الأخيرة التي لا ترى في الفعل المعرفي هدفا أو غاية حرّة تنتقل بالإرادة والقناعة والإعجاب؛   فالترجمة تحول دون أن يجهز فعل ثقافي أو معرفي بالقوة على فعل ثقافي آخر.  فهي تفرض إرادة التنوع على إرادة التفرد الذي يكون لصالح ثقافة ما، أو لغة ما في العالم على حساب أخرى.  
ج- الترجمة والعولمة:
العولمة تعني الهيمنة والتفرد، ونبذ التنوع، وعدم استهداف الحقيقة، وكلما طغى سلطان العولمة كلما تعذّر وصعب التواصل الثقافي، أو التفاعل الثقافي. فثقافة العولمة مبنية على فرضية التفوُّق، وفكرة تحرير الآخرين من ثقافاتهم الغيبية والوطنية، وكذا تحرير ثرواتهم وطاقاتهم ونسف حضاراتهم بعد أن تكون العولمة ـ طبعا ـ قد حرّرتهم من حكمهم الشمولي الدكتاتوري، أو من الإرهابي الديني كما تزعم أمريكا اليوم.  
وقد سبقت فكرة العولمة كما نعرف فكرة «الأورومركز» في القرن الماضي والتي كان من مظاهرها الثورة الصناعية وما تسميه في العلوم الإنسانية بالآداب العالمية، وتعني بها الآداب الغربية دون غيرها، ونتج عنها ما يعرف بفرع الأدب المقارن الذي لا نجد لآداب الشعوب الأخرى ذكرا فيه، لأن العالمية والمقارنة كانتا في منظورهم المقارنة الأفقية؛ أي المتناسبة، ثمّ تنامى هذا المفهوم ليحلّ محله مفهوم العولمة المرتبط عضويا بالتفوق التكنولوجي العسكري الأمريكي، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليفضي الأمر إلى حلول مصطلح العولمة محل الإمبراطوريات السالفة، وهو بأوجز تعريف صناعة القانون والقدرة على حمايته وتنفيذه، وإخضاع الآخرين للالتزام به.  
من هذا المنظور العولمي المهيمن يكون من الواجب في استراتيجية الترجمة انتهاج المنهج الانتقائي حتّى تحول دون فرضية التبعية. فيجب أن تكون الترجمة خاضعة لمنهج واقعي يحسن الاستفادة منه كي يسهم في خلق الثقافة الثالثة «ثمرة التلاقح» وليس «ثمرة التصادم»  أو «ثمرة الانقياد» بين «الأنا» و «الهُم»، وهذا تفاديا للتلاشي والانصهار في ثقافة الآخر، وخير مثال على هذا النمط هو ما قامت به «بيت الحكمة»  ببغداد  قديما، وما قامت به مدرسة «الترجمة بطليطلة» في عصر الحكيم ألفونسو العاشر في القرن الثالث عشر الميلادي، فالتجربتان حالتا دون ظهور عولمة بالمفهوم المهيمن، وساعدتا على حدوث مثاقفة إيجابية وحركة معرفية حوارية تأخذ وتعطي، وتتمثل وتضيف.  
د- نظرة العولمة للمعرفة اليوم:
لقد تغيرت نظرة العولمة للثقافة اليوم بحسب تغير المجتمعات الغربية وأمريكا، وهذا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث استعمل المنظرون الاجتماعيون العديد من المصطلحات للتعبير عن هذا التغير: منها مجتمع وسائل الإعلام، أو مجتمع الاستعراض أو الفرجة (spectacle) أو المجتمع الاستهلاكي، وأصبحت هذه المجتمعات في السنوات الأخيرة تولي أهمية قصوى للغة والنظريات اللسانية، وقضايا التواصل، والسيبرنتيك، والكمبيوتر ولغاته، وحصروا أهمية الترجمة بعدما كانت أداة تواصل ومثاقفة إلى لغة تخزين معلومات، وبنوك معلوماتية جافة؛ لأنّ أنصار المدّ اللساني بمختلف شرائحه أقصوا كافة المشاعر الإنسانية من أي نص، وبلغ بهم الحدّ إلى درجة فرض القطيعة بين النص وقائله، لينتهي الأمر إلى الدعوة بموت المؤلف، وبالتالي إقصاء الهوية والانتماء والتمايز.  
لقد كان لهذه التحولات تأثير كبير على المعرفة، كما أن صغر حجم الآلات والأجهزة وتسويقها بدأ يغير من طرق التواصل وتحصيل المعرفة وتصنيفها واستغلالها.  ويرى الفيلسوف  ليوطار، مثلا، إنه نتيجة لهذا التحول الجذري سيصبح من النافلة التخلي عن كل ما لا يمكن ترجمة نتائجه إلى لغة الكمبيوتر.  كما أن المفهوم القديم الذي كان يربط تحصيل المعرفة بتدريب الأذهان بات غير مجدٍ لأنّ المعرفة لم تعد غاية في حدِّ ذاتها، بل أصبح الهدف من ورائها هو «أسلعتها» أي تحويلها إلى بضاعة قابلة للتسويق، وبالتالي فكلُّ نصٍّ غير منتج فهو نص غير مُربح، وبالتالي فهو حشو يمكن الاستغناء عنه وطرحه خارج دائرة الاستثمار والتسويق.  
لقد أصبحت المعرفة المعلوماتية في العقود الأخيرة تمثل «قوّة الإنتاج» الرئيسة، وباتت مقولة ومُسلمة لا جدال فيها، وكان لها تأثير واضح على مكونات القوّة العاملة في أكثر الظروف تطورا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجم عنها انخفاض عدد العاملين في الزراعة والصناعة، وفي المقابل ارتفع عدد العمال التقنيين وعمال ما يسمى بعمال «اليافطة البيضاء».  
ويقدّر أمثال ليوطار أن المعرفة ستكون من أهم عناصر التنافس العالمي من أجل الحياز على السلطة، ومن الممكن أن نتصوّر نشوب حروب بين الدول من أجل السيطرة على المعلومات أو المعرفة، كما نشبت في الماضي حروب من أجل السيطرة على الأرض أو الموارد الطبيعية، مثل ما حدث في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أو من أجل احتكار المعرفة كما يحدث حاليا في القرن الواحد والعشرين تحت مسميات كالحدِّ من التسلح أو عدم السماح بانتشار الأسلحة النووية حتّى لا تقع في يد أعداء الحضارة أو الدول المارقة أو الأنظمة الشمولية   ... وما نموذج العراق وإيران حاليا إلاّ مثال حي ّوصارخ.  
من هذا المنطلق العولمي أصبحت السلطة والمعرفة مظهرين لإشكالية واحدة هي «من يقرِّر ما هو نوع المعرفة التي يجب انتهاجها ؟  ومن يعرف ما هي القرارات الدولية التي يجب اتخاذها ؟
لقد أصبحت مسألة المعرفة في عصر المعلوماتية مسألة سياسة وسلطة. وذهب الأمر إلى حدّ التساؤل:  من يحق له الاطلاع على المعلومات التي يجب أن تُخَزَّن في هذه الأجهزة لضمان أخذ القرارات الصائبة والمناسبة لأيّ توتر قد يحدث في العالم؟.
هـ – أسئلة المعرفة في ظل العولمة:
لم يعد الهدف من وراء المعرفة هو الحقيقة في زمن العولمة، بل صارت ما يشغل العالم التكنولوجي هو «الفعالية» في الأداء لأنّه الرصيد الوحيد الذي يزيد من فائض القيمة وبالتالي الزيادة في الإنتاج، والبحث المستمر عن موارد جديدة للاستثمار، فيتم اقتناء العلماء والتقنيين والتجهيزات لا من أجل الوصول إلى الحقيقة، بل من أجل الزيادة في الهيمنة وفرض السلطة المطلقة. ومن هنا فمعيار الحقيقة يتأثر حتما بالمعيار التقني، وإن شئت الآلي، وليس بالمعيار البرهاني العقلي كما كان من قبل، ولن تعود غاية المعرفة، أو الغاية منها، هي مطالبتها «هل هذا صحيح؟»  بل يصبح السؤال «ما الفائدة من هذا؟»  وفي ظروف أسلعة المعرفة يصبح السؤال كالآتي: «هل هذا قابل للبيع؟»  وفي ظروف هيمنة السلطة وتطورها يصبح السؤال: «هل هذا فعّال؟» ...
من هذه الخلفية يصبح دور الترجمة فيه أكثر من ضرورة، فالعزلة الثقافية داخل منطقة الهيمنة لم تعد مُجْدية، وبالتالي على الشعوب أن تقاوم هذا النوع من احتكار المعرفة وأسلعتها بالدُّخول معها باستمرار في حوارات لا تنتهي، ولن تتأتّى لها مثل هذه الحوارات إلاّ بواسطة الترجمة لتفرض عليها منطق التفاعل والتواصل بدل منطق الانعزال والانفصال.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com