لعب التكفل الصحي خلال الثورة التحريرية المجيدة دورا كبيرا في تحقيق معادلة النجاح و خلق نقاط القوة للفوز على أرض المعركة و رفع معنويات المجاهدين بوجود نظام صحي يرافقهم و يتكفل بهم في حالة الإصابة أو التعرض لجروح خطيرة، و قد كان للتكفل الصحي اهتمام خاص من قبل قادة الثورة، لاسيما بمنطقة جيجل، هذا ما جعل الباحث و الأستاذ في التاريخ بورمضان عبد القادر من جامعة 20 أوت 1955 بسكيكدة يتطرق في كتابه الثورة التحريرية الجزائرية بمنطقة جيجل للموضوع و كذا كتابة مقال علمي ضمن مجلة البحوث التاريخية حول الموضوع، وقال، بأنه لابد من التطرق للجانب الصحي، لأن له علاقة كبيرة ووطيدة بالعمل المسلح.
النصر: تحتفي الجزائر بالذكرى 62 لاسترجاع السيادة الوطنية في ظل الإنجازات المحققة و التي يتم العمل على تحقيقها في عدة مجالات و من بينها القطاع الصحي، في وقت يتم التساؤل حول طبيعة النظام الصحي المنتهج خلال الثورة التحريرية، و من بينها منطقة جيجل، و قد تطرقت لهذا الجانب في كتاباتك و مقالاتك ، ماهو سبب اختيارك للموضوع؟
اختيار هذا الموضوع جاء ضمن معالجة موضوع الثورة التحريرية بمنطقة جيجل في الفترة 1954-1962 وكان لابد من التطرق إلى الجانب الصحي لما له من علاقة كبيرة ووطيدة بالعمل المسلح، إذ لا يمكن تصور خوض حرب تحريرية دون الاهتمام بالصحة من أدوية وعلاج ونقاهة .
النصر: كيف كان عمل النظام الصحي من قبل المجاهدين بالمنطقة؟
النظام الصحي خلال فترة الثورة بمنطقة جيجل عرف مرحلتين أساسيتين مختلفتين من حيث التنظيم والإمكانيات وهما -مرحلة 1954-1956 ، وهي مرحلة كان خلالها النظام الصحي فتي للغاية يفتقر للكوادر إلى غاية إضراب الطلبة 19 ماي1956، أين التحق بعض الطلبة بالجبال، بحيث كانت الإمكانيات المادية قليلة وهو ما جعل العلاج في هذه المرحلة يقتصر فقط على تقديم الإسعافات الأولية للمجاهدين وكذا للسكان ومن مستحضرات عشبية، ومن أشهر من عرفوا في هذه الفترة الطبيب محمد تومي والممرض محمد القسنطيني .
أما المرحلة الثانية، تمتد من بعد مؤتمر الصومام 20أوت 1956م إلى 1962 والتي شهدت تطورات هيكلية ولوجيستية مهمة، كما عرف النظام الصحي تحديات خطيرة تبعا لتطور معركة التحرير ضد الجيش الفرنسي، من حيث عمليات التكوين للطاقم الطبي وشبه الطبي، أين، عرفت منطقة جيجل بروز بعض الكوادر الطبية قدمت خدمات مهمة لقطاع الصحة ومنهم الطبيب الأمين خان إضافة للطبيب محمد تومي اللذان أشرفا على تكوين مجموعة من الشباب كممرضين وأصدر محمد تومي كتاب التمريض عام 1957م ما سمح بدفع عملية التكوين بجبال منطقة جيجل خاصة بأولاد عسكر «المنازل» وأشرف عمليا على التكوين عمر مكيشات، أما من الناحية الهيكلية فأصبح لكل منطقة من المناطق الأربعة للولاية الثانية مسؤول للصحة ثم تم توسيع الهيكلة حتى أصبح لكل ناحية مسؤول للصحة كما كانت للنظام الصحي رتب كغيرها من قطاعات الثورة فكان للطبيب رتبة ملازم بالمنطقة والناحية و القسم ويرتكز النظام الصحي في قاعدته على مسؤول القسم الذي يشرف على مجموعة من الممرضين ، وكان للنظام الصحي قواعد صارمة تضمن الفعالية و الجاهزية والاستمرارية.
جيجل كانت تضم 25 مركزا لعلاج المجاهدين خلال الثورة
النصر: العمل المسلح كان مركزا بالجبال، أين تم وضع و تشييد المراكز الصحية؟
بالنسبة للمراكز الصحية وتمركزها ما يمكن قوله مع تطور النظام الصحي كان على الثورة ومسؤولي الصحة إنشاء مراكز صحية أو مستشفيات بعمق الجبال كانت بسيطة من حيث بنائها فهي شكلت من أغصان الأشجار والفلين والطين والديس تفرش أسرتها بجلود الأغنام وأول مستشفى أنشأ كان بمنطقة الميلية ببوعندل عام 1957 أشرف عليه الأمين خان، ثم ، أنشأت مراكز في مختلف المناطق مثل بوحنش بتاكسنة أواخر 1957 ثم مستشفى بواد يرجانة وفي الكثير من الأحيان كانت تتعرض المستشفيات للحرق من طرف الجيش الفرنسي خلال عمليات القصف ، ويعاد بناؤها من جديد ومنها مستشفى بوحنش الذي أحرق عام 1958 و مستشفى تايلامنت بالمنطقة الثانية الذي احترق عام 1959، وعموما وصل عدد المستشفيات بمنطقة جيجل 26 مركزا أو مستشفى.
أطباء فرنسيون ساعدوا الثورة بالأدوية
النصر: كيف كان يتم التزوّد بالأدوية؟
بالنسبة لعملية التزود بالأدوية، وضعت الثورة نظاما مع ضمان توزيعها على مختلف النواحي ومنها الأقسام، حيث كانت الأدوية يشرف عليها صيدلي الناحية ويخزنها في أماكن آمنة طبعا تحت رقابة ومتابعة من المسؤول الصحي للمنطقة ، وكانت عملية التزود تتم بالتنسيق مع بعض الأطباء بالمدن وحتى بعض الأطباء الفرنسيين ومنهم بجيجل الطبيب شابرية والدكتور بوجمعة وبحسب شهادات ومنها شهادة الطبيب الأمين خان فإن القطاع الصحي كان مزودا بجهاز للتموين يضمن تخزين وتوزيع الأدوية وكان الحصول على الأدوية بين 1954 و 1956 سهلا نسبيا، ولكن بعد 1957 أصبحت عملية التزود صعبة بسبب الرقابة الشديدة من قبل الجهات الأمنية على الوصفات الطبية ما دفع المناضلين العاملين بالصيدليات بتقليد توقيعات الأطباء الفرنسيين للتزود بالأدوية بوصفات يدفع ثمنها، و خلال الثورة كانت الأدوية قليلة معظمها عبارة عن «سلفاميد» و»البنسلين» والضمادات وهو ما دفع بالثورة إلى الاعتماد على الطب الشعبي مثل الزعتر والكينة واللوزية لمعالجة الزكام والثوم المشوية لمعالجة أمراض الصدر، إضافة لزيت الزيتون، و قد اختلفت المناطق من حيث توفر الأدوية ، ففي المناطق التي كانت تعاني من قلة الأدوية كان يجند بعض الأطباء الذين كانوا يمارسون الطب في المدن لإمداد الثورة ببعض الأجهزة والأدوية ، و التعليمات كانت صارمة فيما يتعلق بتوزيع الأدوية فعندما كانت تصل الأدوية إلى القسم لم يكن يستعمل منها قرص واحد . بل كانت توجه كلها إلى الناحية وتقدم لصيدلي الناحية الذي كان يخزنها في أماكن آمنة ، ثم تبلغ قائمة الأدوية إلى المنطقة ويتكفل صيدلي المنطقة بتوزيع الأدوية على مختلف النواحي تحت إشراف المسؤول الصحي، ثم تسلم قوائم الأدوية الواردة من مختلف المناطق إلى المسؤول الصحي على مستوى الولاية لمعرفة ما إذا كانت بعض المناطق في حاجة إلى دعم مقارنة بمناطق أخرى. كما، ساهم بعض الأطباء الفرنسيين بالمدن كقسنطينة وعنابة بتقديم الأدوية والوسائل للثورة فكان التنسيق موجودا مع المدن لإنشاء روابط للتزويد بالمواد الصيدلانية، فالثورة بمنطقة جيجل كانت تملك الوسائل الطبية ولكن ذلك يختلف من مكان لآخر، فمثلا وسائل التخدير كانت متوفرة ومنها التخدير التنفسي، والتخدير الوريدي والتخدير الموضعي ، وفي بداية 1959م استعمل الأثير للتخدير ولكن لقوة رائحته استبعد من الاستعمال خوفا من اكتشاف مواقع جيش التحرير.
و عموما رغم التحديات التي واجهتها الثورة في مختلف المجالات ومنها قطاع الصحة فإن الثورة استطاعت أن تواجه هذه الصعوبات بفضل جهود مضنية بدلها الرعيل الأول ممن أشرفوا على الصحة ومنهم الأمين خان ومحمد تومي والكثير من الممرضين خاصة النساء ما سمح بتحصين الثورة ضد الآلة الاستعمارية.
كريم طويل