تذهبُ الكثير من الأبحاث والدراسات إلى أنّ تأثيرات العولمة، وصلت إلى المناهج والنُظم التعليمية في كلّ بقاع العالم، وقد اِنعكست عليها بأشكالٍ مختلفة، سلبية وإيجابية، ما يدفع مرةً أخرى لطرح أسئلة جوهرية، -في محيطنا الجزائري-، عن مكانة هذه المناهج والنُظم التعليمية ومدى ثباتها أمام رياح وتحديات العولمة؟ أيضا هل يتطلب الأمر تحسين وتطوير أو تغيير المناهج الدراسية في مختلف المراحل التعليمية حتى تُصبح أكثر تكيفًا مع تحديات العولمة؟ وكذا تطوير مقارباتها البيداغوجية، بِمَا يتماشى مع المُتطلبات العصرية للُنظم التعليمية الحديثة في عالم اليوم. وهل يمكن أن تصل المؤسسات التعليمية يوماً ما إلى ما يُسمى الاِنخراط بِمَا يتناغم وعالمية المناهج، والمُخططات الدراسية، والبرامج التعليمية؟. أم أنّ الحل الأفضل يكمن في إنتاج أنظمة تعليمية جديدة وحديثة تُعزّز من قيمتها وقيمة مناهجها، متجاوزة بذلك فخ الاِنخراط والأنظمة القائمة على التقليد. حول هذا الموضوع "المناهج والنُظم التعليمية في ظل العولمة". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الدكاترة، والباحثين الأكاديميين المختصين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والذين تناولوا المسألة كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة.
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
أستاذة العلوم السياسية سميرة ناصري
التعليم نظام مفتوح والمواكبة ضرورية
تقول أستاذة العلوم السياسية الدكتورة سميرة ناصري، أنّ النظام التربوي التعليمي "نظامٌ مفتوح يتأثر بمُجمل التغيرات المُختلفة التي تحدث في العالم وهذا التأثير ينعكسُ على جميع عناصر النظام التربوي، لذلك تمت إعادة النظر في النُظم التعليمية وتغيير المناهج لإنتاج نفسها لتُواكب التطوّر المعرفي والحضاري للعولمة، حيثُ لم يعد التعليم التقليدي هو المصدر الوحيد للعِلم والمعرفة، ولم يعد المُعلم هو الناقل لها فقط، فهناك مصادر مُتعدّدة للأدوات المعرفية علينا أن نتهيّأ ونُهيأ لها ونُهيئ أبناءنا لها".
وأردفت: "إنّ اِكتساح العولمة لمُختلف الميادين والحقول لا يُقابَل دائمًا بسلبية مُطلقة، فقد كانت وظائف المؤسسة التربوية والتعليمية منذُ القديم لا تنحصر في تزويد الأفراد بالمعرفة اللازمة للتكيّف مع مُتغيرات العصر، بل تسعى إلى تكوين شخصيته والمُحافظة على هويته الثّقافيّة، وبذلك كان التعليم رافداً مُهمًا من روافد بناء الثقافة الوطنية".
غيرَ أنّ الأنظمة التربوية التقليدية -كما تُضيف المُتحدثة- لا يمكنها أن تستمر في تقديم إجابات قديمة لتحديات جديدة، وفي إعادة إنتاج القيم والنماذج المحلية في عصر قرية المعلومات الكونية.
إنّ الأمر -حسب رأي ذات المتحدثة- يتطلب القيام بمراجعة جذرية لبنيات تلك المؤسسات ووظائفها، فلقد كان هناك في الماضي ترجيحٌ للأبعاد التربوية على حساب الأبعاد التعليمية في تلك المؤسسات. في حين أنّ الظرفية الراهنة تتطلب رسم إطار يسمح بالتفاعل والتلاقح الإيجابي بين الأبعاد التحديثية والتقليدية في النظام التربوي، خصوصًا وأنّ التنشئة التربوية القادرة على الاِستمرارية الآن هي التي تستطيع تجديد مصادر عطائها، وضمان تفتحها المُستمر، دون أن يؤدي ذلك إلى محو مقومات الهوية الثّقافيّة.
وهُنا أكدت، أنّ تراجع الأنظمة التربوية التعليمية هو دليلٌ على عدم قدرتها على مُسايرة التنافسية التي تغذيها العولمة.
أمّا عن إعادة الاِعتبار لتلك الأنظمة، فلن يتم الأمر -حسب قولها- إلاّ عبر إنجاز إصلاحات تمتازُ بطابع الجرأة والتجديد، وذلك على مستويين: "مستوى الوسائل التعليمية، حيثُ يجب العمل على إدماج التقنيات الحديثة في مجال الاِتصال ضمن الأدوات والوسائل التعليمية، وذلك رغم كلفتها الباهظة".
والمستوى الثاني، كما تضيف، فيتمثل في "مستوى المضامين حيثُ يجب العمل على إدماج قيم الحداثة ضمن المناهج التعليمية، وذلك بواسطة التفتح على المعرفة الحداثية والمضامين العصرية، واعتماد تصوّرات جديدة للعلاقة بين التقليد والحداثة في المناهج الدراسية. وذلكَ اِنطلاقًا من تقييمٍ شامل للقيم التي تُنتجها الأنظمة التعليمية حاليًا".
وفي هذا السياق، أضاف: "وهذا ما يقودنا إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ويجب أن تُؤكد مناهجنا على خصوصية حضارتنا العربية الإسلامية وأهمية التعاون والتكامل التعليمي والثقافي بين أقطار الوطن العربي، وإعادة صياغة برامج إعداد المعلمين في ضوء تحديات العولمة لجعلهم قادرين على أداءٍ أفضل، والأخذ بمبدأ النمو المهني المُستمر. وبالتالي التقليل من التسلل المُتواصل للمفاهيم المغلوطة والاِنبهار والاِستلاب الثقافي".
فالتعليم -كما تُوضح في سياق فكرتها وطرحها- في هذا العصر ليس مجرّد تنشئة للفرد المُسلح بالعِلم والقادر على الإنتاج، وإنّما هو قضية أمن قومي، فالمجتمع الّذي تتفشى فيه الأمية ويسوده الجهل يُسهل اِختراقه والسيطرة عليه، وغزوه فكريًا وثقافيًا وعقائديًا.
وخلصت في الأخير إلى القول: "مِمَّا سبق نجد أنّ بروز ظاهرة العولمة يُؤثر في ميدان التعليم كما يُؤثر في جميع المجالات، ذلك أنّ النظام التربوي التعليمي مرتبط بالعولمة ويحتكم إلى عملية التأثير من خلال تفاعله مع البيئة المحلية اِمتداداً إلى تأثير النظام العالمي على أنظمة المجتمع الواحد من خلال التغيرات العالمية في عالم السياسة والاِقتصاد والتطوّر التكنولوجي والحضاري".
الأستاذ فؤاد جدو
من الضروري تطوير المناهج والبنى التحتية للتعليم
يرى الدكتور فؤاد جدو، أنّ العولمة في وقتنا الراهن أصبحت نسقًا تتفاعل فيه كلّ الظواهر التي يُنتجها العالم أكثر منها ظاهرة مستقلة بذاتها، فالعولمة الآن تجاوزت مرحلة التشخيص إلى مرحلة الإنتاج والتأثير، وبالتالي تحقّقت فعلاً ما يُعرف بــ"القرية الكونية" بفعل التكنولوجيا الحديثة وزيادة الاِعتمادية على مواقع التواصل الاِجتماعي بشكلٍ أساسيّ كبديل للإعلام التقليدي وآلية للتعامل والتفاعل اليوميّ للفرد والمُجتمعات والدول.
في المُقابل -يُضيف المتحدث- "نجد أنّ مسألة التعليم في العالم التي تعتبر القضية الأساسية لكلّ الدول خاصةً المتقدمة والتي تسعى أن تتطوّر لإدراكها أهمية التعليم كمحرك أساسي لأي نهضة إنسانية واقتصادية لأنّها تستثمر في الإنسان وتُحقّق منه الرأسمال البشري ومن خلاله يمكن أن يُحقّق التنمية المُستدامة التي تسعى إليها كلّ الدول، وتتجلى مسارات الاِهتمام في مجال التنمية في العديد من الأشكال منها ما يُركز على تطوير المناهج التعليمية وجعلها تتماشى مع التحوّلات الدولية الراهنة، ومنها من يعتمد على تعزيز البنية التحتية للتعليم من مؤسسات وهياكل كالمدارس والجامعات ومنها من يجمع بينهما".
لكن المُلاحظ -حسب الدكتور جدو- "أنّ مستويات التعليم وجودته تتفاوت من دولة إلى أخرى مِمَّا يُبيّن الفوارق في هذا المجال، وهنا نجد أنّ التغيرات السريعة التي تحدث على المستوى الدولي من خلال إفرازات العولمة تدفع العديد من الدول إلى تبنى نماذج دولية في قطاع التعليم وعلى مستوياته القاعدي والعالي والبحث العلمي بهدف ربح الوقت وأخذ أنجح السياسات التعليمية الموجودة الآن مِمَّا يخلق طرحًا جدليًا حول هذه السياسات والبيئة الداخلية للأنظمة ومُتطلبات العولمة من جهة".
وأردف مُستدركاً: "يمكن أن نُلاحظ أنّ عملية نمذجة التعليم من خلال العولمة لها تصورات أو يمكن القول لها شقان إيجابي وسلبي، فالجانب الإيجابي أنّ العولمة سمحت للأفراد والدول أن تتطلع على أهم السياسات التعليمية الناجحة في العالم مِمَّا يعطى تصوراً وصورةً واضحة على هذه السياسات ومقارنتها بالأنظمة المُتواجدة في الدول المُتخلفة أو الأنظمة الفاشلة عمومًا من خلال ما يُطرح عبر وسائل التواصل الاِجتماعي أو المنصات التفاعلية دون إخفاء أو تزييف للحقائق وهذا ما يجعل عملية التقويم والتقييم مُمكنة سواء بشكلٍ مُباشر والّذي يتم عبر آلية التعاون الثنائي بين الدول المُتطورة في هذا القطاع والتي تسعى أن تتطوّر سواء بتشكيل لجان مشتركة للتطوير أو من خلال وضع برامج فعّالة أو التكوين في العنصر البشري وبالتالي الوصول إلى وضع أُسس للتعليم الفعّال والّذي يُحقق تنمية حقيقية".
ومن جهةٍ أخرى -يعتقد ذات المُتحدث- أنّ العولمة تُؤثر إيجابًا من خلال الاِنفتاح على المؤسسات التعليمية في أي دولة، ما سمح باِستغلال التكنولوجيا الحديثة في تطوير هذا القطاع من خلال اِستغلال منصات التواصل والتطبيقات التي تُفعِل عملية التعليم ككلّ، ومن جهةٍ أخرى العمل على تطوير البرامج والتطبيقات والأنظمة لحل المشكلات التعليمية بشكلٍ أساسي في قطاعاته ككلّ وبمستوياته المختلفة وزيادة الاِستثمارات في هذا القطاع من خلال تكوين الكوادر والكفاءات وتعزيز البرامج بِمَا يتماشى مع الحجم الساعي للاِستيعاب والأهداف المرصودة.
ومن جانبٍ آخر -يختتم المُتحدث- "نجد أنّ للعولمة سلبياتٌ أهمها مُحاولة فرض (نموذج) واحد وِفْقَ قيم مشتركة لا تُراعي خصوصية المجتمعات وبنيتها مِمَّا يخلق نوعًا من الاِنفصام الاِجتماعي للعملية التعليمية التي تقوم على تعزيز القيم والتربية في المقام الأوّل والتي تُفرز لنا في الأخير الهوية التي يكتسبها الطفل في مراحله الأولى من التعليم، وبالتالي نمذجة النموذج المُنمذج يُعتبر بمثابة تهديد أكثر منه تطوير إذ لم يُراعي الخصوصية لكلّ دولة، كما تُؤثر العولمة من جهة أخرى على الاِنفتاح على المؤسسات التعليمية مِمَا يجعل عملية اِستقطاب الكفاءات أمرا أكثر من مُتاح من خلال الولوج للجامعات والمراكز البحثية وهذا يعد اِستنزافًا للرأسمال البشري، كما يعتبر الأمن السيبراني أحد أهم المعضلات خاصةً في مجال التعليم عن البُعد حيثُ يمكن سرقة المعلومات واِختراق المواقع والمنصّات أو أن تتعطل وهذا يُعطل العملية التعليمية برمتها".
الباحث محمّد الطيب حمدان
مواجهة العولمة بالتفاعل معها لتطويعها
يستند الباحث الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الدكتور محمّد الطيب حمدان، إلى تأكيدات خبراء التربية والتعليم "على ضرورة مواجهة الغزو الثقافي والإعلامي لقِوى العولمة، بحيث تكون هذه المواجهة مؤسسة على ثوابت الهوية العربيّة وسماتها الإيمانية والحضارة الجامعة، ومسلحة بعقلية اِنفتاحية على كلّ منجزات الفكر والعِلم والتكنولوجيا، تقرأها قراءة نقدية وتتفاعل معها لتطويعها بِمَا يتناسب مع قواعد وضوابط فكرنا، فلا نرفضها بدواعي الخوف والعداء لكلّ ما هو أجنبي، وأن لا نذوب فيها بتأثير عُقدة النقص تُجاه الآخرين".
ومن هذا المُنطلق يتضح -حسب الدكتور حمدان- أنّ التعليم أصبحَ حجر الزاوية في هذه المرحلة التي تستوجب توجيه الجهود وتسخيرها لتطوير عملية التربية والتعليم وتحسين مناهجها الدراسية في مُختلف المراحل التعليمية مع الاِهتمام بالنوعية وما يُوافق متطلبات العصر واحتياجات المتعلمين في ظل العولمة إعداداً للتصدي لها والمُواجهة.
ويُعتبر المنهج -كما يُضيف المُتحدث- من حيثُ المحتوى والطريقة من أهم المداخل ضمن الإمكانيات التطويرية في التربية والتعليم بحيثُ يتضمن التطوير الأهداف والمعارف وأنشطة التعلم والتقييم، والتطوّر في المحتوى يتطلب تطوراً في الطريقة وتحسين إستراتيجيات التعليم والتقويم في المدارس.
وحسب الدكتور حمدان -دائماً- يستلزم ذلك تطوير مهارات المعلمين أوّلاً من خلال التنمية العلمية التربوية والتقنية للمعلومات وتوظيفها في عملية التعليم والتعلم. كما يستوجب للتنمية والتربية أوّلاً خلفية فلسفية وسياسية عامة، تتوافق والتصوّر الإسلامي العربي مع اِعتبار طبيعة المعرفة والإنسان واتجاهاته الأخلاقية.
مُؤكداً في المُقابل على أن تتصف التربية المستقبلية التنموية المنشودة بخصائص تُلبي حاجة الإنسان العربي إلى النمو الشخصي والاِجتماعي، والوعي والمُشاركة والفكر النقدي، والكفاية الاِقتصادية والإنتاجية واستمرار هذه التربية مدى الحياة حسب الحاجة دون إضرار بالآخرين وبالبيئة الطبيعية والاِجتماعية.
ثم أردفَ موضحاً: "هناك إجماعٌ على تأثير العولمة على التربية ولكن الخلاف حاصل في أشكال هذا التأثير، وفي وسائله ودرجته، وتعتبر المنظومات التربوية هي أكثر المنظومات الاِجتماعية قابلية للتعولم وذلك لعدة أسباب".
و-حسب اِعتقاده-، ترتكزُ هذه الأسباب في "تقوم العولمة كما هو معروف على محرك أساسي هو تكنولوجيا الاِتصال والمعلومات، وهو ما أدى إلى ظهور مفاهيم وتسميات جديدة مثل مجتمعات المعرفة، اِقتصاد المعرفة وغير ذلك من المفاهيم والمصطلحات التي تكشف لنا أنّ البشرية دخلت عهداً صارت فيه المعلومة والمعرفة عاملاً حاسمًا في تحقيق التطوّر والنمو سواء في القطاع الاِقتصادي أو غيره من القطاعات الأخرى".
وفي ذات المعطى، أضاف: "لا عولمة بدون معلومات وبدون معارف، وهذه المعارف والمعلومات لا قيمة لها إذا لم تُعالج وتُوظف في حينها ومن ثمّ الحاجة إلى العُنصر البشري المُؤهل لإنجاز هذه العمليات، والمدرسة هي المؤسسة الاِجتماعية الأولى المنوط بها تنفيذ هذه المهمة، ومن هنا نفهم التحوّل الواقع في أدبيات التنمية من الحديث عن الموارد الطبيعية إلى الحديث عن الموارد البشرية".
واختتم قائلاً: "وبهذا يتبين أنّه لا يمكن أن نتصوّر منظومة تربوية قادرة على الاِنفلات من دائرة تأثير وجاذبية العولمة ويمكن أن نلخص الأمر كله في القول بأنّ العولمة تفرض على المنظومات التربوية أن تكون مدخل المجتمعات إلى اِقتصاد المعرفة أو عصر المعلومة وعليه يجب أن نُعيد النظر في المنظومة التربوية الوطنية وأن نرسم خطاً جديداً يتم من خلاله تحصين الجبهة الداخلية لحماية أجيال المُستقبل والقيم الحضارية للأمة الجزائرية ككلّ".
الباحث محمّد لخضر حرز الله
التعليم في تطور مستمر ويجب التكيف مع المتطلبات العصرية
يقول الباحث والأستاذ محمّد لخضر حرز الله، أن العصر التكنولوجي الحديث تمخض عن جُملة من التحوّلات غير المسبوقة التي "طالت مناخ الأعمال في كافة المجالات، بفعل تسارع عملية التحديث وحركية المُثاقفة والعولمة المعرفية والتواصل الرقمي، فنتجت قيمٌ وأفكارٌ ومعاملاتٌ جديدة دفعت باِتجاه تغيير العديد من المفاهيم والمُمارسات الكلاسيكية، فأصبح التعامل رقميًا والاِتصال عبر الوسائط مرئيًا وآنيًا، والتفاعل شبكياً، والتواصل عالميًا، والتجارة والبيع إلكترونيًا، واضمحلت صناعاتٌ ووظائفُ لتظهر أخرى في عالم الذكاء الاِصطناعي والعولمة المعرفية ومجتمع المعلومات".
مُضيفًا في ذات السياق: "وقد اِمتدت رياحُ التغيير لتُلقي بظلالها على التعليم منهجًا ومضمونًا، فتغيرت أدواره وأهدافه وبيداغوجياته، وكثيرٌ من أبجدياته التي مثّلت على مدار أزمنة مديدة بديهياتٍ تربويةٍ وركائزَ ثابتةٍ للعملية التعليمية والتَّعَلُّمِيَّةِ، وحلت محلها نظرياتٌ ونماذجُ أكثر فاعلية وحيوية على مستوى الأداء التعليمي للأستاذ أو البيئة التعليمية ومقوماتها التنظيمية والبيداغوجية، لتصبح أكثر تكيفًا مع تحديات العولمة ومُتطلبات العصرنة". مُؤكداً في ذات السياق، أنّ التعليم في زمن العولمة أصبح يتسمُ بطابع حيوي ومُتجدّد باِستمرار، نظراً لتسارع حركية الإنتاج المعرفي والتواصل الإنساني الّذي أدى إلى تزايد مستوى الوعي وانفتاح الطُلاب على تجارب وعوالم مُتغيرة.
مضيفاً في ذات الفكرة: "لقد ظهر التعليم الإلكتروني والتعليم الاِفتراضي والتطبيقات التعليمية الرقمية والوسائل التكنولوجية الحديثة التي تُشكل الأدوات الجديدة للتعليم، وأثَّر كلّ ذلك بشكلٍ واسع على طبيعة عملية التدريس، فأعاد هندسة الأدوار التقليدية لأطراف العملية التعليمية الثلاثة وهم: الأستاذ، الطالب، المعرفة، الأمر الّذي يدفع بصفةٍ ملحة إلى تحديث البيئة التنظيمية والتعليمية للجامعات والمؤسسات التعليمية وتطوير مقارباتها البيداغوجية، بِمَا يتماشى مع المُتطلبات العصرية لسوق الشغل واقتصاد المعرفة وآفاق التنمية المُستدامة". -كما يعتقد المُتحدث بالمقابل-، "أنّ مُواكبة هذه التغيرات تتطلب كفاءات ومُهارات عالية المستوى، ونوعية تعليمية مُتميزة وعلى دراية تامة بمختلف نُظم المعلومات والتكنولوجيات المُتطورة، ولن يتأتى ذلك إلاّ بتطبيق إستراتيجيات فعّالة لتنمية كفاءات ومعارف هيئة التدريس للاِرتقاء بمستوى أدائها التعليمي والأكاديمي، وتكوين مزايا تعليمية تنافسية، ترتكز أساسًا على الاِستثمار في المورد البشري لتجعل منه قاعدة لبناء نظام الجودة التعليمية والأكاديمية".
مُشيراً إلى أنّ الأستاذ في أي نظام تعليمي يُعتبر المصدر الأهم للعملية التعليمية –مع تعدّد مصادر التعلم في عصر العولمة- ولتحسين أدائه ورفع طاقاته الإنتاجية في التعليم والبحث العلمي كمًّا ونوعًا، لابدّ -كما يُضيف- من التركيز على تطوير مهاراته بصفة مستمرة، عملاً بأهم مبدأ للجودة الشاملة وهو (التحسين المُستمر Kaizen)، لتحويله من قوّة عمل كامنة إلى كفاءة تعليمية تُمثل (رأسمال تعليمي إستراتيجي) للمؤسسة التعليمية. ويرتكز البرنامج المُتكامل للتحسين المُستمر على التكوين في المجالات الرئيسية -حسب الدكتور حرز الله، على المهارات التعليمية، منها (تعليمية المادة) وطرائق التدريس، التشريع وتنمية الفكر التنظيمي والقانوني، التكنولوجيات التعليمية الحديثة وتطبيقاتها على المجال التعليمي، عِلم النفس البيداغوجي وأساليب التعامل التربوي، التكوين في علوم التربية وتطبيقاتها ونظرياتها لأنّها من أهم العلوم الرافدة للتكوين التعليمي والتحصيل البيداغوجي للأستاذ، أساليب القياس والتقييم والتقويم باِعتبارها أُسس سلامة مخرجات العملية التعليمية وجودتها، التحفيز على التنوع اللغوي (التكوين في اللغات الحية)، الإعلام الآلي والبرمجيات الإلكترونية والتطبيقات الرقمية وصناعة المحتوى التعليمي. وخلص في الأخير إلى أنّه "لابدّ من اِعتبار التدريب المُستمر جزءاً هامًا من وظيفة الأستاذ خلال مساره الوظيفي، وفي هذا الإطار لا ينبغي الاِقتصار على التدريب المُخصص من طرف الإدارة، ففي ظل عالم معولم ومنفتح، يجب فتح المجال واسعًا لأسلوب (التكوين الذاتي) إضافةً إلى البرامج التدريبية الرسمية، لتحفيز الأساتذة على النشاط المعرفي وإثراء مهاراتهم ومعارفهم، ففي ذلك أثرٌ مُباشر على رفع فاعليتهم وجودة أدائهم، مع تثمين هذه التدريبات الذاتية ضمن الإستراتيجية العامة للتقييم والتحفيز الوظيفي وتنمية الأداء وربطها بالمكافآت المُستحقة والترقيات المُناسِبة".