يظل المسرح رافدًا أو بالأحرى أحد أهم الروافد الثّقافيّة والفنية، التي ساهمت/وتُساهم في تشكيل وصناعة الفن والجمال والفرجة، كما ظل على مر العصور فنًا رساليًا، يُمرّر من خلاله المسرحيون خطابًا توعويًا. وهذا من خلال العروض المسرحية بمختلف تياراتها ومدارسها الفنية. فهل يمكن القول بالموازاة: إنّه أيضا من أهم الروافد أو من أهم العناصر والأدوات التي ساهمت وتُساهم في تشكيل أو في صناعة الوعي لدى الجمهور؟ وهو حقا كما تقول الدكتورة بوغواص: «ليس للترفيه أو المُتعة فقط، وإنّما لصناعة الوعي وإثرائه، وتغيير الأفكار»؟، وهل هو أيضا كما يقول الدكتور عبد الحميد ختالة: «ليس أقدر من المسرح على صناعة الوعي». حول هذا الموضوع «المسرح وصناعة الوعي»، كان ملف عدد هذا الأسبوع من «كراس الثّقافة»، مع مجموعة من النُقاد والكُتّاب المخرجين المختصّين في شؤون المسرح.
أعدت الملف: نوّارة لحرش
* الأكاديمية والناقدة المسرحية زبيدة بوغواص
المسرح محرك أساسي للوعي وتعرية المتخفي
بدورها الأكاديمية والناقدة المسرحية الدكتورة زبيدة بوغواض، تقول: «في البدء كان القول (أعطني مسرحًا أعطيك شعبًا مُتحضرًا)، وهو الأمر الّذي جعل هذه الظاهرة الفنية تتميز بالنمو والاِستمرارية والتجدّد، إذ يتميز المسرح عن غيره من الفنون بكونه يستطيع أن يصنع وعي المتفرج أو القارئ، أو وعي المُتلقي بشكلٍ عام».
فالمسرح -تُضيف المتحدثة - «ليس للترفيه أو المُتعة فقط، وإنّما لصناعة الوعي وإثرائه، وتغيير الأفكار، ففي ظل المسيرة الجدلية الطويلة للدراما نجد تجليات هذه الصناعة، من خلال تلك المذاهب والتيارات المسرحية الجديدة والتجارب في المسرح العالمي المُغايرة للدراما الكلاسيكية، والفلسفات التي كانت لها مُميزاتها في صياغة العمل المسرحي، وظهورها كان نتيجة تراكم معرفي بكلّ تجلياته: الاِجتماعية، والسّياسيّة والثّقافيّة... المُغايرة لعصرٍ مَا، وفي ظل تغيرات سياسيّة وثقافية وفكرية واجتماعية واكتشافات علمية، فكانت السريالية والتجريبية، والملحمية، ومسرح القسوة، والتجريدية واللامعقول وغيرها من التيارات التي تعد من مكونات البيئة، والتي عبرت عن اِضطراب قيم العصر الأساسية التي تنزع نحو التحديث، أو إتباع نظرية معرفية أو قصدية معينة، أو الرؤية للعالم والفن بغرض دفع حركة الحياة للأمام».
وتواصل في ذات السّياق: «ففي المسرح الملحمي –مثلاً- نجد برتولتبريخت يُراهن على الوعي وتحريك الوعي أساسًا، وليس على المُتعة والتخدير، والإيهام، فهو مثلاً في مسرحيته (رجل برجل) يُقنع المُتلقي بإمكانية تغيير العالم، وتغيير الإنسان، ففي هذه المسرحية نرى جنودًا من الإنجليز في الهند يفقدون أحدهم، فيستبدلونه بغيره بسهولة، ومِمَا يفهم من هذا الفعل أنّ الإنسان قابل للتغيير. فإثارة الوعي في هذا المسرح تقوم على الرهان على الجدل والتغريب والإقناع بضرورة التغيير».وهنا أردفت: «وما الوجودية عند جون بول سارتر إلاّ مظهر من مظاهر وعيٍ ما، مهما كانت نزعته واتجاهه، حين أخذ يُشكك في الوجود والأخلاق والتقاليد للإنسان، ليظهر تيار اللامعقول أو العبث، تعبيرًا عن وعيٍ جديد بمصير هذا الإنسان الّذي أضحى مستلب الحرية، حين أُفْرِغَ من محتواه الشعوري والفكري والقيمي، وتحوّل إلى مجرّد آلة، مِمَّا دفعه إلى العزلة والشعور باللا أمن، وفقدان التواصل في البناء الاِجتماعي خاصةً». وفي ذات الفكرة، واصلت: «ولعل أمثلة أخرى تحضرنا عن المسرح العربي والمسرح الجزائري في هذا المقام، وقد نُشير إلى مسرحنا في صناعة الوعي الثوري إبان الثورة، حتى وهو خارج حدودنا في تونس، حين كانت تُعرض مسرحيات مثل (الخالدون) و(أبناء القصبة)، و(دم الأحرار) ويُشاهدها المجاهدون وهم واقفون، ليتجهوا بعدها إلى ساحة المعركة، ويكون البلاء الحسن».
ثم تستدرك قائلةً: «في الوقت الحالي قد نقول أننا نفتقد لأعمال مسرحية تنزع نحو هذا الوعي، نحو تعرية الواقع الحقيقي المُتخفي خلف ما خلفته السنين، مسرح نرى فيه آمالنا وطموحاتنا لأسباب فنية وأخرى إدارية، الأولى نرجعها إلى ضُعفٍ في الكتابة، في الوعي بأهمية هذا الفن في صناعة الوعي بمصير هذا الإنسان، بقضاياه، الثانية نرجعها إلى الرقابة التي تُمارس سلطتها، فتضيق من مساحة التعبير الحر، وبالتالي التأثير على صناعة الوعي». وفي الأخير ذهبت إلى تأكيد وجهة نظر مؤداها: «مهما يكن فالعمل المسرحي له دور في صناعة الوعي بوظائف عِدة كالإصلاح والفهم، والتربية الجمالية، وكيفية إدراك الكون بشكلٍ عام، وهذا لا يعني أنّ المسرح يستبعد المتعة الفنية، التي ينبغي أن تنبع من كلّ عناصر اللعبة المسرحية من إخراج وتمثيل وديكور ومؤثرات موسيقية بشكلٍ عام».
* الناقد والكاتب محمّد بن زيان
أهم وسائط التفاعل وأهم مكونات الوعي في واقع يجافي القراءة
يقول الناقد والكاتب محمّد بن زيان: «الوعي محصلة تفاعلات تَلَقي مُتعدّد المصادر والمستويات، وللفنون دورها ومن بينها المسرح، بل في واقع لا يعرف مقروئية مرتفعة المنسوب، يصبح المسرح والدراما والسينما أهم وسائط التفاعل وأهم مكونات الوعي».
مُضيفاً في ذات المعطى: «فالتلقي الأوسع مرتبط بالمنجز الجمالي الّذي يُغذي ويُنمي الحس الجمالي وتلك ماهيته الأساسية، لكن في سياق القيمة الجمالية هناك حمولة قيمية ورمزية لا تُعوض ما يُنجز في حقول المعرفة والفكر، بل تتكامل وتترابط، مُحقّقة بالصياغات الجمالية ما يُكثف الأثر. وفي سياقنا اِرتبطت نشأة المسرح بدور بيداغوجي فكان مُسْهِمًا مع الصحف والمدارس الحرة والنوادي قبل اِسترجاع الاِستقلال في صياغة الحس والوعي».مُشيرًا في ذات المعطى إلى أنّ «للمسرح خصوصية المزيج الّذي يصغه، والأساليب التي يعتمدها في مخاطبة المُتلقي، بطُرق مع الإمتاع تُحرك الإحساس أو تُحفز على السؤال أو تفتح أُفقًا للتأمل... ومثل بقية الفنون يُتيحُ صياغة رمزية تُبدع العلامة ومحور أية حضارة وأية قوّة هي العلامات، علامات تُؤرشفُ جماليًا بتعبير المرحوم بختي بن عودة».
ويُضيف بن زيان: «المسرح مرتبط أساسًا بالفرجة والمُتعة، ولكن الفرجة لا تنفصل عن مرجعية فلسفية وأنثربولوجية، عن شكل بيداغوجي يُرسّخ عبر الفرجة قيمًا. والمسرح أنواع تتباين مستويات تلقيها، ومنها العميق الّذي صار مرجعًا مرتبطًا بتيارات فلسفية، مرجعًا -مثلاً- في التحليل النفسي، ومنها البسيط ومنها الموجه لشريحة مثل الأطفال».
المُتحدث ذهب في الأخير إلى تأكيد أنّ «هذا التنوع المذكور يُؤهل المسرح لأداء أدوار محورية في بناء الوعي بتنمية الحس الجمالي وهو ما يُهذب النوازع النفسية ويُنمي قابلية التثقف، وبالتالي الوعي بالذات وبالآخر المُتعدّد، وعي بالخصوصية وبالكونية. ويستمر التحدي ومعه الرهان على دور المسرح في بنية الوعي، في سياق مرحلتنا التي تطبعها تعقيدات وانفلاتات التطوّر المختل، تطوّر تقني هائل وتدهور خطير لكلّ معاني الأنسنة».
* الكاتب والناقد الفني سمير رابح
المسرح جسر إلى وعي الجماهير
يرى الكاتب والناقد الفني سمير رابح، أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأصل الديني للمسرح أكسبه وظيفة راسخة تمثلت في بناء الوعي الأخلاقي في المجتمع، وكلّ عرضٍ مسرحي لا يلتزم بهذا الشرط هو شاذ عن فطرة المسرح، يمكن القول بلغة أفلاطون هو «مفسدٌ للأخلاق».
مضيفاً في ذات الشأن: «نحن في المسرح نخضع لعملية للتطهير الذاتي بشعور أو بغير شعور منا، هنا فكرة أو نظرية (الكاتارسيس/التطهير) لأرسطو، لكون المسرح يشرح ويكشف ما بداخل الإنسان، ويتناول الظواهر ذات القيمة في المجتمعات إيجابًا وسلبًا، فيفتح أعيننا على ما غفلنا عنه، أو تجاهلناه، أو اِعتدنا عليه حتى صار بقبحه مألوفًا. كما صار بطيبه في حكم العادي، إنّنا نرى أنفسنا بوضوح في المرآة -على الركح- فنسخر منها أو نبكي لأجلها، معنى ذلك أننا نتطهر من السلبية والمشاعر السيئة».ويواصل مستدركاً: «لكن ونحن نرسم الواقع أو نشرح الإنسان، فإننا لا نسعى إلى تقديم صورة طبق الأصل عنه نكتفي بإسنادها إلى جدار صلب ثابت لا يتحرك، إننا نريد أن نرسمها بطريقة مُغايرة تجذب الأنظار وتدعو الإنسان إلى تقبل الجديد واِعتناق التغيير، وتقبل الآخر والتمسك بالهوية، فالأسئلة التي قدمها المسرح على مر العصور، هي أسئلة تنغمس في الواقع وتبحث فيه عن أجوبة قابلة لإعادة صياغة الفكر، وتعديل السلوك، وتقييم الخلق الإنساني وتقويمه».مُؤكداً في هذا المعطى، إنّ هذا هو دور المسرح، أي أن يعلمنا كيف نذوب وكيف نتحوّر وكيف نتحوّل إلى النمط ذاته، الّذي يشبه هويتنا، وقيمنا ومبادئنا، وحتى علاقتنا بديننا وبالمقدسات أيضا. لكننا مع الأسف في الجزائر -وحسب رأيه دائمًا- خصوصًا في السنوات الأخيرة نفتقد لهذه العروض المسرحية النبيلة، الهادفة لبناء الإنسان الجزائري المُعاصر، لمساعدته في التصالح مع ذاته من خلال طرح بعض المسائل العالقة فيما تعلّق بالهوية والقيم الجزائرية ومبادئ الأمة الجزائرية.
مُضيفًا من جهةِ أخرى: «إنّنا في الواقع وفي غالب الأحيان نُنتجُ عروضًا مسرحية من أجل أن ننتج وفقط، وفي ظل غياب منظومة مسرحية ترسمها وتديرها النخب الثقافية الواعية بأهمية المسرح وضرورة الاِرتقاء بالإنتاج المسرحي بالحرص على جودة الأعمال».المُتحدث، يعتقد أيضا، أنّه وبفهم هيكلية دخول المسرح في بناء المجتمع ثقافياً وسياسياً وتعليمياً، يصبح السؤال الأهم عن نوع المسرح الّذي يسهم في هذا البناء الفكري للمجتمع؟
مشيرًا في الأخير، إلى أنّ المسرح كان وسيبقى أحد أهم الجسور إلى وعي الجماهير. وأنّ مقولة «أعطني مسرحًا أعطيك شعبًا عظيمًا»، لخصت الوظيفة الرسمية والأصلية للمسرح باِعتباره وسيلة تعليمية تربوية وتثقيفية لتأسيس البنية الفكرية للفرد.
* الروائي والكاتب المسرحي محمّد الأمين بن ربيع
المسرح هو أحد أقوى الوسائل لصناعة الوعي الجماعي والفردي
يقول الروائي والكاتب المسرحي، محمّد الأمين بن ربيع: «يتفق الجميع على أنّ المسرح فنٌ فرجوي، فمنذُ بداياته اِرتبط بمفهوم المُتعة والتسلية، وتوفير جو من البهجة لجمهوره، واستمر المسرح على هذا المنوال حتّى هذا الزمن، فإذا قصد الجمهور المسرح فإنّما للاِستمتاع بِمَا يُعرض على الركح، غير أنّ اِرتباط المسرح بمفهوم الاِلتزام جعله فنًا رساليًا كذلك، يُمرّر من خلاله المسرحيون خطابًا توعويًا ساهم ويُساهم في صناعة الوعي لدى الجمهور، وغالبًا ما يرتبط هذا الخطاب بإيديولوجيات معينة، منطلقاتها نابعة من رؤية صُنّاع المسرحية أو المجتمع والزمن اللذين أُنْتِجَ فيهما هذا العمل».
وفي ذات السّياق، أضافَ قائلاً: «وإذا كان المسرح يُساهم في صناعة الوعي فذلك بسبب وعي صُنّاعه بأهميته ودوره، ولذا نجد أنهم يعملون على تحفيز التفكير النقدي لدى المُتلقي، وذلك بتشجيع الحوار وطرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، فالمسرح لا يكتفي بتقديم العرض فقط بل يتجاوز ذلك إلى إثارة الإشكاليات ودفع المُتفرج إلى التساؤل وافتراض الإجابة، التي قد تكون موافقة لرؤية المسرحي كما قد تكون مُخالفة له وهذا ما يزيد من عُمق الإشكالية وتوالد الأسئلة وبالتالي اِنفتاح العرض على مستويات تلقٍ مُتعدّدة وذلك ما يُساهم في اِستمراريته ورسوخه في ذهن المشاهد».
وفي ذات الفكرة، أردف مُوضحاً: «كما أنّ اِهتمام المسرح بالقضايا الوطنية وقضايا الأمّة من خلال العروض التي تتناول الأحداث التّاريخية ومرتكزات الهوية من شأنه أن يُعزّز وعي المتفرجين إزاء تلك القضايا، ولذا يكثر الإنتاج المسرحي الّذي يُقدم عروضًا ذات صلة بالشخصيات التّاريخية والأبطال خاصةً في المناسبات الوطنية وأثناء الأزمات كالحروب، فقد أثبت المسرح أنّه وسيلة للمقاومة إذ يتخذه المسرحيون وسيلة لإعلان نضالهم، ولعل التجربة المسرحية الرائدة لفرقة جبهة التحرير الوطني خير مثال على ذلك».صاحب مسرحية «كفن البروكار»، أضاف قائلاً: «لا بدّ أنّ المُهتمين بالشأن المسرحي في الجزائر يُدركون الدور الّذي أدّته الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني من خلال العروض المسرحية التي قدمتها تعبيرًا عن وضع الثورة الجزائرية ورفض الجزائريين للاِستعمار الفرنسي، وذلك من خلال عروض مازالت راسخة في الذاكرة كأبناء القصبة ودم الأحرار ونحو النّور، لقد أثبتت تلك العروض أنّ المسرح ليس مُجرّد فن، بل هو أداة تثقيفية وتحفيزية تُشكل وعي الأفراد وتدفعهم إلى التفكير والتغيير، مِمَّا يجعله أحد أقوى الوسائل لصناعة الوعي الجماعي والفردي».
وببعض الاِستطراد خلص إلى القول: «لعل المسرح أيضًا يُقدم القضايا المسكوت عنها أو تلك التي يتناساها الإعلام والوسائط الإعلامية، فهناك موضوعات قد تكون طابوهات في بعض المجتمعات، مثل العُنف الأسري، التمييز ضدّ المرأة، أو مشاكل الصحة النفسية، المسرح يستطيع تقديم هذه القضايا بشكل مُؤثر دون أن يكون مُباشراً أو صادماً، مِمَّا يُساعد الجمهور على تقبل النقاش حولها، هناك مجموعات من النّاس لا يُسمع صوتها في وسائل الإعلام أو الخطاب العام، مثل المُهاجرين، اللاجئين، ذوي الاِحتياجات الخاصة، أو الفقراء. المسرح يمنح هذه الفئات مساحة ليعبروا عن أنفسهم، إمّا من خلال القصص التي تروي معاناتهم أو حتّى بمشاركتهم في التمثيل والعروض المسرحية».
* الباحث والناقد عبد الحميد ختالة
المسرح هو فن الوعي وليس أقدر من المسرح على صناعة الوعي
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور عبد الحميد ختالة: «لقد كان ومازال المسرح فعل إرادة ومقاومة، خاصةً إذا ما نظرنا إلى أنّ القاعدة الأساسية لمفهوم الدراما حسب التعريف الأرسطي هي (فِعل نبيل تام)، فالفعل هو أساس المسرح في كلّ الأغراض. وليس بغريب أن يكون المسرح أكثر الفنون اِلتصاقًا بالوعي والمقاومة والفكر الثوري والدعوة إلى التغيير والنمو بالفكر الإنساني».
فقد كان منذ وجوده -حسب رأيه- قائمًا على الباعث والمستقبل ومهددًا بالتغيرات السياسية والمناخات الاِجتماعية التي كانت تمنعه حينًا وتحرمه أحيانًا، لِمَا يحتويه من آليات مُؤثرة من أجل اِستنهاض ذوات وقيم الشعوب، ولِمَا يمتلكه من آلياتٍ لنقد السلطة مهما كانت طبيعتها ولِمَا يتسم به من طبيعة آنية واقعية.
وهنا أردفَ قائلاً: «نعلم أنّ فن المسرح قد نشأ دينيًا باِرتكازه على الطقوس والشعائر الدينية، وشعرياً باِتخاذه من الشِّعر نمطاً تعبيريًا ولغةً، كلّ ذلك من أجل أن يأخذ الفعل المـسرحي مساحته الكافية في التأثير على ذائقة المُتلقي ومُشاكسة أُفُقِ اِنتظاره من أجل توسيع مساحات الوعي لديه، والحال هذه فلا مناص من صياغته وفق أسلوب فني مُتجدّد يجعله على قدرٍ كبير من الشِّعرية التي تجعل النص عملاً فنيًا صالحًا للعرض المسرحي من جهة ومُخاطبًا للفكر كذلك».
وهذا ما يجعل المسرح -حسب الدكتور ختالة- يُغادر بيئته المحض الفنية باِتجاه اِختراق حدود العقل والتفكير غير المنظورة بحثًا عن التوليف الجميل بين التخييل والعقل أو بين الفن والفكر.
ذات المُتحدّث، أضاف مُستدركاً وباِستفاضة: «الحق، أنّ فن المسرح في بدايته مع اليونانيين كان إجابةً على أسئلة الأسطورة وقد كانت هذه الأخيرة مستوى من مستويات التفكير البشري، وتمثيلاً مشهديًا للّاهوت الكامن في الفكر الإنساني من جهة ثانية، وهذا عَيْنُه الاِستثمار المُنتِج للوعي الأوّل الّذي اِشتغل عليه المسرح، ولعلّ هذا ما شَكَّلَ خصوصية المسرح الأرسطي أو ما يصطلح عليه بالمسرح الدرامي، إذ يشتغل المسرحي على مستويين اِثنين، المستوى الأوّل متعلق بالخيال في حالته المحض فنية أو ما يُعرف بإنتاج الفرجة، وفي المستوى الثاني يـحرص على اِستئناس ذوق المُتلقي (الجمهور) الّذي ينتقل بالفعل المسرحي من شِعرية الدال إلى شِعرية المُؤدى المسرحي على الخشبة وما تُنتجه من معارف تُرَاكِم الوعي بالوجود».
وخلص إلى القول: «لا نختلف إذا قُلنا بأنّ المسرح هو فن الوعي، إذ هو الفن الوحيد الّذي بإمكانه أن يُمشهد الفكرة والإحساس بل هذا مُبتغاه ومأموله، والحال هذه فإنّه ليس أقدر من المسرح على صناعة الوعي بالفكرة خاصةً وهو يتوسل في ذلك المُمكن من اللّغة والمُتاح من العرض والمُؤثث من السينوغرافيا، وقد نجح المسرح كثيرًا في أن يُخاطب مُتلقيه بموضوع الثورة عن الجهل والركود اِعتقادًا وقناعةً كرستهما روح المسرح البريختي، هذا الأخير الّذي أخرج الفِعل المسرحي من الدرامي إلى الملحمي ومن الوهم إلى الوعي».
* الفنان والكاتب والمخرج المسرحي مصطفى بوري
المسرح من أهم الفنون ذات التأثير
يقول الفنان والكاتب والمخرج المسرحي مصطفى بوري: «لا يخفى على أحد أهمية الفنون ذات الاِتصال الجماهيري في صناعة الوعي وتوجيه الرأي العام، وقد كانت حرب الخليج واحدة من أقرب وأهم الأمثلة التي استُعملت فيها الفنون البصرية مثلاً لإحداث مُغالطات والترويج لإشاعات برَّرت فيما بعد غزو أمريكا للعراق، والأكثر من ذلك أنها حشدت تضامنًا دوليًا واسعًا مع هذه الحرب التي تبين فيما بعد أن جلَّ أسبابها كانت واهية».
ثم أردف: «إنّ المسرح بصفته واحداً من أهم الفنون التي تساهم في صناعة الوعي، والتي كانت ولا تزال تُشكل رافدًا من روافد التأثير الواسع يُعد وسيلة لتبادل الأفكار وتلاقحها، وهو الصرح الحضاري الأهم لإثارة النقاش في الوسط الثقافي، هذا فضلاً عن أنّه وسيلة للإمتاع الفكري. إنّ أهمية أن يُستصاغ الفكر الإنساني في قالب درامي هو تيسير هضمه للعقول المُتفتحة كي يتم تداوله في الوعي الجمعي».
مُضيفًا في ذات السّياق: «فالمسرح يُخاطب العاطفة والفكر في آنٍ معًا، ويجعل الجمهور يعيش القضية/ أو القصة والأحداث كأنّما هو طرفٌ فيها، وهذا من خلال تماهيه مع شخوصها التي تحمل الفكرة بدلاً من مجرّد سماعها أو قراءتها».وهنا يُشير إلى نقطة ذات صلة بِمَا سبق: «إنّ الفن المسرحي بوصفه المرآة العاكسة للواقع والتمثلات المُمكنة كاِستشراف للمستقبل يَصُوغُ ويُقدِمُ القضايا الاِجتماعية والإنسانية في قالب درامي ويَهبُها الحياة ويُضفي عليها شيئًا من الوضوح فتكتسب بذلك ميزة التأثير بشكلٍ أعمق».
فالشخصياتُ المسرحية -كما يقول- حينما تمرُّ بمواقف تعكس واقعًا ما، يكونُ اِنعكاسها ( أي المواقف) على المُتلقي كبيرًا، مِمَا يجعل الجمهور يتبنَّى القضايا المُثارة كالحرية والمسئولية والفساد والظُلم والتطرف وحقوق الإنسان، بكثير من الوعي.ومُستدركاً يُضيف: «كما أنّ للمسرح دورا في تحفيز التفكير النقدي باِستفزاز العقل وإثارة التفكير، ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الفن لا يقدم إجابات جاهزة ولا حلولاً مُبتكرة، بل إنّه يطرح أسئلة تجعل المُتلقي يفكر ويُحلل ويُناقش وله واسع النظر».
كما أنّ المسرح -حسب ذات المُتحدث- لا يكتفي بطرح القضايا ونقل الرسائل، بل يُحرِّض على تغيير الواقع ودفع النّاس إلى المُطالبة بحقوقهم، مثلما هو الحال في المسرح الثوري، كالمسرح الجزائري إبان الاِحتلال، والمسرح الملحمي لدى بريخت أيّام الحرب العالمية الثانية.
مُؤكدًا في هذا المعطى، أنّه «لا يجب أن نتغاضى عن الأهمية القصوى التي يكتسيها الفن المسرحي في تعزيز مكانة عناصر الهوية والمعالم الحضارية للشعوب وتقوية وعيهم بتاريخهم».
ثم خلص إلى القول: «إلى جانب قدرته ومساهمته في صناعة الوعي، المسرح أيضًا بصفته قناة لتناقل الفكر يعمل على مقاومة التضليل ومحاربة الجهل الّذي بات في وقتنا هذا يكتسي بكساء العِلم، ويُحرِّر العقل من الاِجترار المعرفي وذلك عن طريق ما يمكن لهذا الفن أن يفتحه لدى الفنان المسرحي وجمهوره على حدٍ سواء من آفاق فكرية».
* الممثل والمخرج المسرحي ومدير مسرح باتنة الجهوي منير بومرداس
المسرح كان له أثر فارق حتى في تغيير مسار التاريخ
يقول المُمثل والمخرج المسرحي ومدير مسرح باتنة الجهوي منير بومرداس: «أوّلاً عندما نتكلم عن المسرح في صناعة الوعي الفني والثقافي فلا بدّ أن نستعمل كلمة فاعلية الخطاب المسرحي منذ نشأته عند الإغريق إلى يومنا هذا أين كان له الأثر الفارق في تغيير حتى مسار التاريخ، بتوليفة سحرية جمعت بين مجموعة من الجماليات بدايةً من النص الدرامي إلى الديكور والأزياء إلى الموسيقى إلى لغة الجسد والصوت وتوابل فنية أخرى تطوّرت مع التطوّر التكنولوجي».
مُضيفًا في ذات الفكرة: «وهنا اِستقطبت العلبة السوداء على الركح الجماهير وأصبحت هذه الجماهير تستمع إلى خطاب فني متنوع منه ما يُمجد هوية الشعوب ومنه ما يطرح ويُنبه إلى طرح قضايا آنية أو قادمة، فلكل مجتمع عاداته وتقاليده وموروثه المادي وغير المادي ومعتقداته، فهو هنا يصنع جانبًا مُهمًا من القيم وترسيخها، وهذا ما شاهدناه في الكثير من المسرحيات التي خلدها التاريخ مثل (حرب طروادة) و(ملحمة السومريين) (قلقامش) والأمثلة كثيرة».
أما في وقتنا الحالي -يُضيف المُتحدث- ورغم ظهور بدائل كثيرة في ظل هيمنة التكنولوجيا وعصر الانترنت إلاّ أنّ المسرح يبقى رافدا قويًا في صناعة الوعي. ثم أردف قائلاً: «وبالعودة إلى الثورة المجيدة، فرقة جبهة التحرير الوطني للمسرح لعبت دورًا كبيرًا في صناعة الوعي النضالي نحو الحرية، ونذكر هنا، مشاركة الشهيد العربي بن مهيدي في عدة عروض مسرحية، وتحديداً مسرحية (في سبيل التاج) وهي خير دليل على أنّ عقيدة المؤدي أو العرض في حد ذاته كان كخطاب موجه لصناعة وعي المُتلقي وهو الشعب، وبطريقة فنية وسلسة».وهنا أضاف مؤكداً: «وهذا ما هو مطلوب في الوقت الراهن، فعلى صُنّاع العرض المسرحي سواء كانوا كُتّاب نص أو مخرجين أو فنانين أن يُركزوا على الأحداث الراهنة سواء ما يحدث في العالم من متغيرات جيوسياسية أو ثقافية فنية، فالتحديات كبيرة في لفت اِنتباه الجمهور والتسلل لطرح القضايا المهمة على سبيل المثال أحداث الوطن العربي خاصة الحرب على غزة فهي مادة وجب الوقوف عندها، بالإضافة إلى الجزائر والتحديات التي تُحيط بها، سواء كانت إنجازات إيجابية يصنعها الوطن أو مخاطر يُواجهها بشجاعة».وبذلك -حسب رأيه- يُساعد المسرح على تعزيز الوعي الثقافي وخلق المواطنة الصحية السليمة في مواكبة القضايا المُهمة سواء كانت اِجتماعية أو فلسفية أو سياسية وإنسانية. ختامًا -يرى المُتحدث- أنه يجب الاِعتناء بمسرح الطفل والاِستثمار فيه بالعمل على دعوة الأدباء والكُتّاب والمؤلفين وخاصة المُختصين لتحضير نصوص جادة تُقدم للمخرجين والمسارح لصناعة عروض جيدة وهادفة. فطفل اليوم هو جيل الغد علينا تحضيره لِمَا هو قادم.