يعتبر عمي تواتي ، آخر صانعي الحلويات التقليدية بحي سيدي جليس بقلب مدينة قسنطينة العتيقة، التي هجرها معظم سكانها و حرفيوها، و لا يزال محله القديم، يستقطب الكثير من زبائنه الأوفياء الذين يأتون من مختلف مناطق الوطن خاصة في شهر رمضان ، للظفر بقطع «النوقا» و «الكاوكاوية» والفوندا» و غيرها من الحلويات التي تشتهر بها مدينة الصخر العتيق، كما يطلبها البعض من دول أجنبية، بعد أن سحرهم مذاقها المميز.
روبورتاج: أسماء بوقرن
عمي تواتي، يمارس حرفته منذ أكثر من 45 عاما، و لا يزال متمسكا بها، رغم تراجعها، متحديا كل الظروف و العراقيل، ليواصل إدخال الفرحة في قلوب زبائنه، الذين يأتون إلى سيدي جليس، خصيصا لاقتنائها و التلذذ بمذاقها الخاص، و كل ما يتمناه اليوم هو أن ينقلها إلى الأجيال الصاعدة ليحميها من الاندثار.
سلكنا أحد سلالم ممرات شارع العربي بن مهيدي «طريق جديدة» ، متجهين عبر منطقة تتوسط الأربعين شريفا و»الروتيار» نحو حي سيدي جليس العتيق الذي فقد بريقه و خصوصيته في شهر رمضان، نظرا لعمليات الترحيل التي شهدها ، لكنه لا يزال صامدا ، بالرغم من الانهيارات التي مست عددا من مبانيه القديمة، كما بقيت بعض دكاكينه المختصة في النحاس و الحلي التقليدية تصارع من أجل البقاء، حالها حال محل عمي تواتي الذي يقع قرب متوسطة محمد ولد علي، و المختص في بيع الحلويات التقليدية القسنطينية التي تعرف رواجا كبيرا في هذا الشهر الفضيل.
روائح الحلوى التي يبدع عمي تواتي في صنعها يدويا ، تفوح بسيدي جليس، و تسحر كل من تطأ قدماه الدكان الذي يخفي خلف جدرانه أسرار صنع حلوى «الكاوكاوية» و « النوقا» و « الفوندا» و « الحلقوم « التي عرضها على طاولة بمدخل المحل، في ديكور ارتسم في ذاكرة القسنطينيين بشهر رمضان، حيث تعتبر سيدي الجليس محطة أساسية خلال الشهر الفضيل ولا تحلو صينية القهوة دون تلك الحلوى التقليدية ، وقد خصص الفضاء الداخلي لتحضير الحلوى ، و تعليبها ، و وجدنا قطعا كبيرة من «الكاوكاوية» فوق طاولة تغطيها كتلة رخامية في انتظار اللمسات الأخيرة لتصبح جاهزة.
الحرفي رحب بنا بمحله المتواضع و سرد لنا قصته مع الحرفة التي ورثها عن والده ، و كان يرافقه بشكل دائم ما زاده شغفا بها و حماسا لمعرفة أسرار نجاح وصفاتها التقليدية، فكان المساعد الرئيسي لوالده إلى أن أصبح يصنعها بجودة عالية ، و حل بعد ذلك محل والده بعد أن بلغ من العمر عتيا.
و ظل الحرفي يصنع هذه الحلويات على مدار السنة ، و كان يقصده معظم أبناء المدينة و حتى من ولايات أخرى ، كميلة و سوق أهراس و سكيكدة ، و كان التجار يشترون كميات كبيرة لإعادة بيعها، لأنها لم تكن تصنع إلا بحي سيدي الجليس في سنوات خلت ، فيما يتلقى طلبيات من أجانب و مغتربين قبل حلول رمضان.
دكان إيواقوران جرجرة.. عمره أكثر من قرن
دكان إيواقوران جرجرة ..هو اسم المحل الذي كتب بالطلاء على واجهته، و لم تمحه عوامل الزمن و المناخ ، و عن أصل التسمية، قال لنا الحرفي بأن والده هو الذي أطلقها على المحل ، نسبة إلى المنطقة التي ينحدر منها بولاية بجاية، مؤكدا بأن عمر هذا الدكان تجاوز 120 سنة، و اشتراه والده من صانع حلوى آخر كان معروفا بسيدي جليس، موضحا في سياق آخر بأن اسمه الحقيقي زيدان مخلوف، و تواتي هو اسم الشهرة الذي أطلقه عليه أخوه ، نسبة للاعب سابق في فريق شباب قسنطينة ، لأنه كان يجيد لعب الكرة و من عشاقها.
سيدي جليس مهد الحلوى التقليدية يفقد بريقه
و أكد عمي تواتي بأن حي سيدي جليس العتيق يعتبر مهد الحلوى التقليدية، التي كانت تحضر أنواع كثيرة منها، لا تقتصر على النوقا و الكاوكاوية و الفوندا و الحلقوم، كما هو الحال الآن، و إنما تتعداها إلى صنع «حلوى الحوتة» و « سكر قورج» و « تفاحة الحب» و «الكوجاك» المخصصة للأطفال و غيرها، لكن معطيات السوق و الترحيلات أفقدت الحي بريقه و جعلت تواتي يكتفي بتحضير الأنواع التي تلقى رواجا في رمضان.
و عن سر صنع هذه الحلويات بنجاح قال المتحدث بأنه يكمن في طريقة تحضيرها و التحكم في درجات الحرارة عند طهيها ، مشيرا إلى أنه يعتمد على مقياس الحرارة ليضمن نجاح وصفاته.
و بخصوص مقادير و طريقة تحضير كل نوع من الحلوى، أوضح بأن تحضير الفوندا مثلا ، يتطلب السكر و الماء و ملون غذائي ومسحوق الحليب و النكهات الغذائية، و هي الفراولة و الليمون و الفستق، مع استعمال الفول السوداني «الكاوكاو» ، وتحضير النوقا ، يتطلب كمية من السكر وبياض البيض والفانيلا ، مع إضافة الفول السوداني و يتم طهيها في درجة حرارة تبلغ 180 درجة مئوية.
أما مكونات الكاوكاوية فتتمثل في السكر و الماء و مسحوق كريمة الكعك و حامض سيتريك و تصل درجة غليانها 150 درجة، و عن أسعار حلوياته قال بأن الكيلوغرام الواحد من الكاوكاوية و النوقا يبلغ 400 دينار.
أجانب سحرهم مذاقها و يطلبونها سنويا
و تابع المتحدث بأن نشاطه عرف تراجعا كبيرا على مستوى حي سيدي جليس في السنوات الأخيرة، خاصة بعد عمليات الترحيل التي مست هذا الحي القديم، ما جعل نشاط بيع الحلوى يعرف نوعا من الركود، و اضطره لحصر نشاطه في أيام الشهر الفضيل فقط، و غلق محله على مدار السنة، لأن سيدي الجليس يتحول ، حسبه ، إلى حي للأشباح لا تطأ قدمه رجل إنسان في بقية الشهور.
و أكد بأن حبه لهذه الحرفة ، جعله يتمسك بها رغم كل الظروف ، كما أن زبائنه الأوفياء يطالبونه بمواصلة نشاطه و يقصدونه في رمضان، و هو ما وقفنا عليه خلال تواجدنا بالمحل، كما أن هناك أجانب من فرنسا و بلجيكا و إسبانيا يطلبونها سنويا، كما أكد، بعد أن سحروا بمذاقها عند زيارتهم للجزائر.
تواتي دعا، في ختام حديثه إلينا، السلطات لتوفير محل تجاري مناسب له، ليتمكن من تعليم «الصنعة» للأجيال الصاعدة، باعتبارها موروث ثقافي قسنطيني عريق، حتى لا تندثر بعد أن غزت الأسواق مختلف الحلويات العصرية.
أسماء بوقرن