كورونا سيعيد ضبط سلوك البشر مستقبلا
يؤكد الطبيب الجزائري ياسين ماحي باهي، أخصائي الأمراض العقلية و العصبية بمنطقة باس ـ نورماندي، غرب فرنسا، بأن أزمة كورونا ستترك انعكاسات نفسية و عصبية كبيرة على الأفراد، كما ستعيد ضبط سلوكيات العديد من المجتمعات، حتى أننا سنؤرخ مستقبلا لمرحلتين ما قبل كوفيد 19 و ما بعده، مؤكدا بأن نوبات الذعر، بالإضافة إلى التوتر و الأرق المزمنين، أصبحت أعراضا يتشارك فيها الكثيرون عبر العالم، كما يتحدث المختص في هذا الحوار، عن الوضع العام بخامس قوة عظمى في العالم، وكيف عرى كورونا هشاشة النظام الرأسمالي و بين ثغراته التي برزت من خلال ندرة الأقنعة الواقية و المعقمات، وكيف أثر ذلك على العجلة الصناعية و دفع بشركات كبرى للتخلي عن صناعات ثقيلة، لتحول نشاطها نحو إنتاج هذه المستلزمات.
حاورته: هدى طابي
النصر: فيروس كورونا كان بمثابة صدمة للبشرية، كيف سيؤثر ذلك على الأفراد و لماذا لم نسمع لحد الآن عن استحداث وحدات متابعة نفسية مثلا ؟
ـ ياسين ماحي باهي: حاليا أعتقد أن الوضع فرض التركيز على وقف العدوى، و إيجاد لقاح أو دواء للمرض، لكن في مرحلة لاحقة سيكون هناك توجه نحو الاهتمام بالتكفل النفسي، لتبعات ما بعد الأزمة.
هناك شعور عام بالخوف
إننا نعيش مرحلة سيكون لها بالطبع انعكاسات نفسية كبيرة على الأفراد، وهو واقع نعاينه يوميا من خلال عملنا في المستشفيات، و تحديدا في الاستعجالات، كثيرون يشتكون من نوبات الذعر و الهلع و مشاكل التوتر المزمن و الأرق، وهي أعراض يتشاركها البشر عبر عديد البلدان، في كل يوم يتنقل أشخاص إلى مصالح الاستعجالات حيث أعمل، جلهم يعانون من مشاكل نفسية سببها الفيروس، تؤرقهم الكوابيس و يعجزون عن النوم بانتظام، وهو ما دفعنا لاقتراح إقرار المعاينة عن بعد، سواء عن طريق خطوط الهاتف أو الاتصال المصور
«تيلي كومينيكاسيون».
ـ هل سيكون التأقلم مجددا مع نمط الحياة القديم ممكنا بالنسبة للملايين الذين خضعوا للحجز أو العزل ؟
ـ مستقبلا سنتحدث عن مرحلتين، أو بالأحرى سنؤرخ لمرحلتين، ما قبل وما بعد كوفيد 19، فالمؤكد أن ما يعيشه العالم اليوم، بما في ذلك إجراءات العزل المنزلي و الحجر الصحي التي شملت الآلاف، بل الملايين، ستترك أثرا عكسيا في المجتمعات وسيتغير كثيرا من سلوكيات البشر التي ستأخذ منحنى مغاير ثقافيا، طبيعة المجتمعات ستتغير، سيقل التقارب و الاحتكاك، لأن التعاطي النفسي و العصبي مع الأحداث سيعيد تشكيل المفاهيم و يعيد ترتيب القيم، خصوصا و أن نمط حياتنا تغير كثيرا في العشرين سنة الماضية، إذ أصبحنا نأكل كل شيء تقريبا، و لا نحترم البيئة و لا الطبيعة و نمارس سلوكيات غريبة نوعا ما.
ما حدث في فرنسا انعكاس لإهمال المستشفيات العمومية
ـ بالحديث عن السلوكيات، هل توافق من يقولون بأن التهاون كان سببا وراء تفشي الوباء في فرنسا وإيطاليا؟ ولماذا هذا الرفض أو عدم الالتزام بقراري العزل و الحجر رغم كل التحذيرات؟
ـ لا الأمر لا يتعلق أساسا بالاستخفاف أو التهاون، وليس رفضا لمجرد الرفض، تغير نمط الحياة بهذه الطريقة المفاجئة و إجبارية ملازمة المنزل و الحد من الحركة، كانت أمورا صعبة جدا بالنسبة للكثيرين، بسبب ظروفهم، البعض هنا يعيشون في مساحات ضيقة لا تتجاوز 10 إلى 15 مترا مربعا، وهو ما يجعل الالتزام بالعزل صعبا، ربما ما حدث كان تقليلا من شأن الفيروس في البداية، لأننا عموما لا نؤمن بنظرية الفيروسات أو المؤامرات.
شركات استبدلت الصناعات الثقيلة بإنتاج الأقنعة والمعقمات
ـ كجالية جزائرية بفرنسا، كيف انعكس الوضع الحالي على حياتكم؟ هل ما يروج له عن حالة الهلع و النقص في المؤونة صحيح، و هل بدأت الانعكاسات الاقتصادية للأزمة تلوح في الأفق؟
ـ لا اقتصاديا، لم نشعر بأية انعكاسات، الأمور طبيعية من ناحية التمويل بالسلع الأساسية وغير ذلك، الحركة قليلة عادة و الخروج يكون عن طريق ترخيص، الحياة تأثرت من حيث الحركية و نمط العيش، بالمقابل هناك شعور عام بالخوف نلمحه بملامح الناس في الأسواق، أين يعم التوتر والقلق، ما حدث اجتماعيا كان بمثابة صدمة، سببها النقص الحاد في الأقنعة الواقية و مواد التعقيم، فلم نتوقع يوما أننا سنعاني للحصول على قناع في خامس قوة عظمى عالميا.
الأزمة الحالية بينت انعكاسات التوجه الرأسمالي نحو خوصصة القطاع الصحي و إهمال المستشفيات العمومية، تمهيدا لغلقها، هذا الواقع أنتج شعورا جماعيا بالغضب.. إن الناس غاضبون لأننا في فرنسا بلد الديمقراطيات والحقوق، نعجز عن إيجاد قناع واق.
البطاقة المهنية للحصول على الأقنعة الجراحية
ـ ماذا عن وضعكم كمهنيين في الصحة ؟
ـ حتى الأطباء هنا يجدون صعوبة في الحصول على الأقنعة الجراحية الواقية و مواد التعقيم، بسبب ندرتها، رغم أن قرارا يلزم الصيدليات بتزويدنا بـ 15 قناعا كل أسبوع، إلا أننا نضطر في كثير من الأحيان لاستظهار البطاقة المهنية و بطاقة التعريف لنتمكن من الحصول عليها، أما في المستشفيات، فالرقابة شديدة جدا، ولا يمكنك أن تأخذ قناعا أو قفازا يزيد عن حاجتك.
نظام التأمينات الاجتماعية في فرنسا تأثر في الخمسين سنة الأخيرة
ـ هل تعني أن كوفيد19 كشف هشاشة الأنظمة الرأسمالية ؟و هل الوضع في فرنسا يشمل كل دول أوروبا؟
ـ فعلا الفيروس أو على الأقل تبعاته و مخلفاته على المجتمعات، عرت الجانب السلبي للرأسمالية، في أوروبا وخصوصا في فرنسا وإيطاليا، مؤسسات كبرى كانت تصنع قطع غيار السيارات و تستثمر في الصناعات الهامة، حولت نشاطها لتصنيع الأقنعة و مواد التعقيم، الأزمة الحالية غيرت التوجهات الاقتصادية بشكل سريع.
بالنسبة للمقارنة بين الوضع الفرنسي و باقي دول أوروبا، أعتقد أنها غير ممكنة، على الأقل بالنسبة للدول الاسكندنافية التي تتمتع بأنظمة صحية قوية، لذلك لم تلجأ إلى تطبيق الحجر العام، في فرنسا الوضع أكثر تعقيدا، على اعتبار أن نظام التأمينات الاجتماعية تأثر بشكل جاد في الخمسين سنة الأخيرة، أي منذ بدأ التوجه نحو خوصصة القطاع، كما أن هناك نقصا فادحا في الأطباء و المهنيين.
الوضع في الجزائر مقلق جدا
ـ في الصين سهلت التطبيقات التكنولوجية مهمة تجاوز الأزمة، فهل يمكن العمل بها في فرنسا؟
ـ لا صراحة، فرنسا متأخرة كثيرا عن الصين في هذا المجال.
الأزمة عرّت الجوانب السلبية للرأسمالية
ـ ماذا عن إيطاليا لماذا كانت هي الاستثناء الأوروبي وكيف وصل البلد إلى هذه الكارثة الصحية؟
ـ يبدو أن السلسلة الفيروسية أو الطفرة الموجود في إيطاليا و إيران هي نفسها و هي سلسلة أكثر فتكا، أي أنها قاتلة، فالفيروس معروف منذ سنوات، و هو نوع من أنواع الأنفلونزا، لكن الجديد بالنسبة لكوفيد 19 هو أنه قادر على تطوير سلالة فيروسية مختلفة ويبدو أن العدوى التي انتشرت في هذين البلدين هي الأعقد، وعليه فإن اللقاحات يجب أن تتعدد لأن نوعا واحد لن يكون نافعا بالنسبة لكل الحالات، فحتى بالنسبة للأنفلونزا الموسمية، نلاحظ في فرنسا مثلا، بأن اللقاح لا يتناسب مع كل الأنواع المستجدة سنويا .
من جهة ثانية، لا يمكن إغفال الجانب المتعلق بطبيعة حياة الإيطاليين، فهم شعب يتحدث بصوت مرتفع وهو ما يعزز احتمالات انتقال العدوى عن طريق اللعاب المتطاير، كما أنهم يستخدمون الأيدي و الإشارة كأسلوب للمخاطبة و يتميزون بحميمية التواصل و كثرة الاحتكاك تماما كالجزائريين.
ـ بالحديث عن الجزائر، كيف تقيمون الوضع الحالي من باب تجربتكم مع ما تعيشه فرنسا التي وصلت إلى المرحلة الثالثة من تفشي الوباء؟
ـ في الجزائر، الوضع مقلق جدا، بل أسوأ من فرنسا، ببساطة لأننا لا نملك المستشفيات الكافية و نفتقر للتجهيز اللازم للأطباء و لهذه المؤسسات في حد ذاتها، خلال العشرين سنة الماضية، لم نستثمر فعليا في القطاع الصحي، وهو ما سينعكس سلبا على واقعنا إن بلغنا مرحلة الخطر، وهو أمر جد وارد في ظل المعطيات الحالية، فلا أحد يمكنه أن ينفي أن البلد سجل منذ سنة أو أكثر عودة لداء الكوليرا و هو استثناء عالمي.
مع ذلك فإن الصحوة في الوعي الذي أظهره المواطنون الجزائريون، يعد أمرا مشجعا، كما أن بدء تطبيق إجراءات الوقاية و تشديدها بغلق أماكن التجمع و توقيف النقل العمومي، تعتبر أيضا خطوة هامة للتقليل من انتشار العدوى.
هـ/ ط