نجح ابن مدينة بشار، الباحث في التنوع البيئي الشاب رضوان طاهري، في إخراج أول وثائقي مطول حول الحياة البرية في الجزائر، و قد استغرق تصويره ثلاث سنوات، اكتشف خلالها الكثير من الخبايا و أسرار الكائنات النادرة. و في حوار خص به النصر، قال رضوان أنه يسعى اليوم للترويج للعمل محليا، من أجل نشر الثقافة البيئية، بعيدا عن تحقيق الأرباح المادية، مشيرا إلى أنه رفض عروضا من قنوات عربية و أجنبية تعنى بالطبيعة، على غرار الجزيرة الوثائقية.
حاورته هيبة عزيون
.النصر: متى و كيف بدأت البحث في مجال التنوع البيئي؟
ـ رضوان طاهري: أنا شاب عمري 44 عاما، أنحدر من ولاية بشار، من منطقة الساورة تحديدا، باحث في التنوع البيئي، و خصوصا الحيواني، و مخرج وثائقيات حول الحياة البرية، و كذا تقني سامي في الإعلام الآلي. قضيت 20 سنة في البحث و التعمق في الحياة البرية و التنوع البيئي و تحديدا الحيواني.
كانت انطلاقتي مع جمعية حماية النبات و الحيوان في بشار التي فتحت لي آفاق البحث في هذا العالم الجميل، و سعيت لاكتشاف ما تزخر به الطبيعة، كما كان لي احتكاك مباشر مع باحثين و مختصين في البيئة من الجزائر و خارجها، و لدي مشاركات في لقاءات علمية في عدة جامعات عالمية، إلى جانب نشر مقالات علمية في مجلات بيئية في العالم ، و حاليا أنهيت أكبر عمل توثيقي للحياة البرية في منطقة الساورة و الجزائر عموما.
. الكثيرون يروجون لهذا الوثائقي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حدثنا عنه؟
ـ إنه أول وثائقي مطول حول الحياة البرية في الجزائر، و بالأخص في منطقة الساورة، بدأت تصويره في 2013 ، و انتهيت منه بعد ثلاث سنوات كاملة، بعد ذلك قمت بعملية التركيب، الوثائقي حاليا جاهز بنسبة مئة بالمئة للبث و التسويق. يتكون العمل من 7 حلقات تسرد التنوع الحيواني في الجزائر، بتقنية تصوير عالية جدا، لا تخلو من الطرافة و الفكاهة، و هي شبيهة بالوثائقيات التي تبث عبر «ناشيونال جيوغرافي» و القنوات البيئية العالمية.
. كيف راودتك فكرة التوثيق المصور للحياة البرية؟
ـ البحث في التنوع البيئي هو هوس بالنسبة إلي، أمارسه بشكل دائم ، فأنا أبحث و أنقب باستمرار عن كل جديد، و ما لاحظته هو غياب توثيق مصور للبيئة الجزائرية، و بما أنني أتحكم في آليات التصوير و المونتاج، فكرت في القيام بعمل يكون بمثابة مرجع مصور للتنوع البيئي.اعتقد أن هذا الوثائقي سيفتح شهية المواطن للتعرف على ما تزخر به الجزائر من ثروات حيوانية، و يساهم في غرس الثقافة البيئية المنعدمة تماما حاليا، و كذا إماطة اللثام عن ثروة طبيعية مطموسة، الكثير منها مهدد بالانقراض .
. هل توصلت إلى اكتشافات جديدة خلال انجاز هذا العمل؟ و كيف تم توثيق الجانب العلمي منه ؟
. نعم هناك مفاجآت كثيرة يحملها الوثائقي، لا أرغب في البوح بها كلها.. لقد تمكنت من اكتشاف أصناف حيوانية جديدة ، بالتعاون مع باحثين و دكاترة على غرار البروفيسور لويزة درويش التي شاركتني بحثا حول الأيل البربري الموجود في منطقة الساورة ، و يعود أصله إلى الماعز الجبلي.
و من الحقائق العلمية الجديدة التي يحملها العمل، اكتشاف ثلاثة سلالات من الوعل موجودة في الجزائر، عكس ما كان متداولا سابقا بوجود نوع واحد في العالم.
تم التوصل إلى هذه الأصناف الجديدة ، من خلال طريقة بحث مبتكرة مخالفة للطرق التي كان يعتمد عليها في الماضي، حيث قمت مع مجموعة من الباحثين، بإجراء دراسة على الحمض النوويRNA و تبين أن هناك انفصال جيني في هذا النوع، حدث منذ آلاف السنين، نتج عنه سلالات جديدة. و قد عرض هذا الجانب من الدراسة بجامعات كبرى من خلال المشاركة في ملتقيات علمية و تم تثمين و تبني النتائج و تسجيل هذه الأنواع الجديدة من الوعل الذي كان يقتصر في الماضي على نوع واحد و هو الوعل الصحراوي.
. هل واجهك مشكل شح المصادر العلمية و البحوث خلال قيامك بهذا العمل الميداني؟
ـ حقيقة طريقة عملي مختلفة نوعا ما، فأنا أنزل إلى الطبيعة أولا، و أقوم بأبحاثي و ملاحظاتي، اعتمادا على خبرتي لمدة 20سنة من العمل المتواصل الذي أكسبني ثراء معرفيا بهذا المجال.
و من منطلق ما أتوصل إليه، أربطه بالجانب العلمي و التوثيق من خلال العمل مع باحثين و استشارة مختصين في المجال، لكن حقيقة الأبحاث الجامعية موجودة و أغلبها إن لم نقل جميعها، مصيرها الأرشيف لأنها قديمة.
إن الوقت ليس في صالحنا إذا أردنا حقيقة التوثيق للحياة البيئية، لأن الكثير من الأصناف الحيوانية اختفت، و البقية مهددة بالزوال لعدة أسباب، أما الأبحاث الحديثة فهي قليلة جدا، و يقوم بها هواة، لأن غالبية المتخصصين في مجال البيئة بعد تخرجهم من الجامعة، يختارون العمل بمجالات أخرى، بعيدة كل البعد عن تخصصهم و هذا أمر مؤسف.
. من خلال حديثك نفهم أن الجزائر تفقد سنويا الكثير من الأصناف الحيوانية؟
ـ نعم و هذا مؤسف جدا، مثلا المعدل العالمي حاليا يقدر بربع « ¼ « حجم الضرر الذي يلحق بالكثير من الأصناف الحيوانية التي تختفي نهائيا في أغلب دول العالم، لعدة عوامل منها طبيعية و أكثرها بفعل البشر ، لكن هذا العدد يتضاعف في الجزائر. فهناك الكثير من الأصناف التي انقرضت نهائيا و لم يبق سوى بعض البحوث عنها، و حتى صورها نادرة في الأرشيف، فيما تعاني بقية الأنواع في صمت و خطر يومي بالزوال.
. هل هناك اهتمام بمجال التهجين في الجزائر للحفاظ على بعض السلالات النادرة؟
ـ حقيقة هذا المجال مهمل نهائيا في الجزائر ، و لا توجد أي تجارب أو أعمال تهجين من شأنها الحفاظ على بعض السلالات، خاصة النادرة، منها كما هو معمول به في الكثير من دول العالم. الجزائر تزخر بسلالات حيوانية نادرة، و هو أمر يجهله الكثيرون، و هو الهدف من الوثائقي الذي قمت بتصويره و الذي يكشف الكثير من الخبايا. مثلا الجزائر تضم أحسن سلالة الغنم «أولاد جلال»، و هي نتيجة عملية تهجين طبيعية حدثت منذ مئات السنين مع الوعل الذي أجريت عليه البحث. كما أن هناك أصناف حيوانية كثيرة انقرضت، بسبب الإهمال، كالخفاش الذي يبلغ طوله 30 سنتيمترا و الذي كان يعيش بين معسكر و وهران ، كما أن المها اختفى نهائيا في 2008 ، إضافة إلى أصناف كثيرة، سواء حيوانية أو نباتية بسبب الكثير من المخاطر، على غرار الحرائق.
. ماهو حجم الضرر الذي يلحق بالبيئة بسبب الحرائق؟
ـ الحديث عن ظاهرة الحرائق خاصة المفتعلة يطول كثيرا ، لكن يمكن القول أن الظاهرة تؤدي إلى انقراض سلالات تقطن الجزائر فقط، و هذا راجع إلى ضعف النصوص القانونية و وجود ثغرات تمنع و تعاقب الاعتداء على الطبيعة من أجل مصالح شخصية هدفها الأول الربح.
هناك بعض الطيور غير المهاجرة مهددة بالانقراض إذا احترقت مناطق عيشها و ستختفي نهائيا من الكرة الأرضية، على غرار كاسر الجوز القبائلي الذي تضرر كثيرا و بقاء الوضع على حاله سيسرع انقراضه مستقبلا ، و قد يكون مصيره مثل الأسد الأطلسي الذي اختفى نهائيا من الجزائر .
. هل ظاهرة الصيد العشوائي منتشرة في الجزائر؟
ـ هي ظاهرة سلبية منتشرة كثيرا في الجزائر، رغم أن القانون يحظر الصيد العشوائي و تربية الحيوانات المحمية. و قد أدى عدم تطبيق القوانين الردعية التي بقية حبرا على ورق منذ عقود من الزمن، في تفشي الظاهرة، حتى أصبحت دون جدوى، إضافة إلى لجوء الصيادين إلى استخدام التكنولوجيا التي أصبحت توفر طرق و آليات صيد سريعة جدا و فتاكة، كسيارات الدفع الرباعي و أدوات الصيد الصينية التي تغزو الأسواق، ناهيك عن اتباع الصيادين لطرق صيد تبث عبر فيديوهات في يوتيوب و غيرها.
و من الحوادث العالقة بذهني، صيد 16 غزالا في يوم واحد قبل سنوات من قبل مجموعة من الصيادين في بشار، و هذه خسارة حقيقية للطبيعة و قد تكون سببا في اختفاء بعض السلالات. و تنتشر الظاهرة بكثرة في الصحراء، مثلا في بشار يوجد جبل محمي، بعدما تم شق الطريق وسطه، أصبح ملاذا للصيادين، خاصة و أنه بيئة خصبة لتكاثر أنواع حيوانية كثيرة، على رأسها الغزلان، لكن للأسف الدولة لم تحرك ساكنا .
.لماذا تدهورت وضعية حدائق الحيوانات في الجزائر ؟
ـ الجزائر كانت من الدول الأولى التي سنت قانونا يمنع الاعتداء على الحيوانات بكل أنواعها، بما فيها الموجودة في حدائق التسلية و الترفيه، لكن كما قلت سابقا عدم تفعيل و تحديث هذه القوانين مع المستجدات، جعلها تصبح منسية و عبارة عن حبر على ورق، في ظل غياب جمعيات حماية الحيوانات، إضافة إلى التوظيف العشوائي للعاملين في هذه الهياكل، بعضهم قد لا يحوز على أي مؤهلات تكوينية أو تخصص في مجال تربية الحيوانات، و حتى الحدائق لم تشيد على أسس معمارية علمية تراعي طبيعة الحيوانات، و هي اليوم عبارة عن سجون للحيوانات و غرف حديدية تعزل فيها باستخدام الأسلاك،و قد أدى الإهمال إلى موت الكثير منها. و هنا أتذكر زيارتي لإحدى حدائق الحيوانات في أوروبا أين تعيش الحيوانات في غرف زجاجية وسط بيئة جميلة جدا، ما يسمح للزوار بالتمتع بمشاهدة الحيوانات، بينما لا تراهم الحيوانات و لو أنها تشعر أنها خارج بيئتها .
. هناك ظاهرة أخرى تهدد الحياة البرية في الجزائر و هي ظاهرة التهريب..
ـ نعم كل الأصناف تهرب بما فيها بيض الطيور، خاصة بعض الطيور النادرة التي يتم تهريبها من مستغانم إلى المغرب، لاستخدامها في الشعوذة ، كما يتم تهريب الفنك الجزائري، و حتى طائر الحسون «المقنين» تم تهريبه، و وصل إلى ألمانيا.
كما أن الكثير من الحيوانات البرية تباع في الأسواق، على غرار السنجاب، و السبب غياب الرقابة و الردع، فكل جهة تلقي بالمسؤولية على غيرها، من محافظات الغابات، إلى الشرطة، إلى الدرك، و تبقى الطبيعة هي المتضرر و الخاسر الأكبر.
. هناك الكثير من الخروقات و الانتهاكات في حق الثروة النباتية في الجزائر ، لماذا؟
ـ السبب الوحيد هو ضعف الإطار القانوني، فهناك اعتداء صارخ على الثروة النباتية و اكتساح للاسمنت، بسبب التجاوزات الخطيرة في منح الاستفادات للمستثمرين لإقامة مشاريع، على حساب الطبيعة، دون استشارة أهل الاختصاص. و كذا ظاهرة الرعي العشوائي و الحرائق و تهريب الكثير من الأصناف النادرة التي في طريقها إلى الانقراض هي الأخرى.