دورات التنمية الذاتية أخلت بأهداف الطب النفسي
قال الباحث والأخصائي في علم النفس الإكلينيكي، علاوة بن ضيف إن معظم المشاكل النفسية التي يعاني منها جزائريون لم تأخذ نصيبها من التفسير البحثي الأكاديمي، وأرجع ذلك إلى طبيعة التكوين الجامعي الذي وصفه بالتكوين العام الذي يفتقد للممارسة الفعلية، معتبرا بأن الافتقار للتأطير الصحيح جعل الأرضية مهيأة لانتشار بعض الدخلاء على مجال علم النفس، خصوصا من يمتهنون دورات التنمية الذاتية، التي يرى بأنها ممارسة تخل بأهداف الطب النفسي وأسسه، ناهيك عن أنها تشوّش على صورة الأخصائي النفساني.
حاورته: إيناس كبير
وأكد الباحث في حوار مع النصر، بأن فهم الاضطرابات النفسية والظواهر الاجتماعية وفق أسس صحيحة يساعد على تقديم شروحات منطقية، كما يساعد على مراقبة السلوكيات الفردية السلبية ومعالجتها، وأكد بأن قياس نجاح الطبيب النفساني متوقف على قدرته على تغيير النظرة التقليدية للمتابعة النفسية في المجتمع الجزائري.
النصر: حدثنا عن أهم المحطات التي ميّزت مسيرتك البحثية في الطب النفسي، و عن أهم أبحاثك في المجال ؟
ـ علاوة بن ضيف: بدأت هذه المسيرة من جامعة قسنطينة وامتدت من سنة 1973 إلى 1977، وقد ختمت هذه السنوات بتخرجي بين أوائل الدفعة في علم النفس الإكلينيكي آنذاك، بعدها انتقلت إلى فرنسا لمواصلة الدراسات العليا، وعدت مرة أخرى إلى قسنطينة سنة 1981.
أما بخصوص اهتماماتي البحثية فقدت تشكلت انطلاقا من عملي على أطروحة الدكتوراه، عندما وجدت نفسي مهتما بظاهرة انحراف الشباب والعنف بشكل عام، ثم ربطت ذلك بظاهرة اتساع العمران و نسق التهيئة العمرانية.
العشرية السوداء خلفت حالات لم يدرسها البحث العلمي
ما هي أهم النتائج التي كشفت عنها هذه الأبحاث خصوصا ما تعلق بالمجتمع؟ و كيف تفسر العلاقة بين العنف و العمران؟
ـ توصلت من خلال الأبحاث التي قمت بها و الظواهر التي عالجتها، إلى أن النظام العمراني يؤثر على النظام النفسي، فالمدينة تُبنى لتربي وتُهذب، وإن خرجت عن هذه المهام لا يستمر لها أثر نأتي على سبيل المثال، بفرد تربى في كوخ داخل حي قصديري لا توجد فيه أدنى متطلبات الحياة أو أي مرافق خدماتية، فيكبر هذا الفرد وهو لا يستطيع الانخراط في النسق العمراني الحقيقي لأنه نشأ في فضاء غير مبني، وبالتالي فإنه يكون معرضا لتحطم النسق الفكري، فضلا عن تأثر سلوكياته وارتفاع نسبة جنوحه نحو العنف، بينما يكبر الشخص الذي ينشأ في فضاء عمومي، ويخضع لقوانين التعايش العمومي بشكل أفضل، وتكون له القدرة على التفاعل الاجتماعي بشكل سليم.
كيف تساهم الأبحاث الأكاديمية في علم النفس في فهم السلوك البشري، وفك الظواهر الاجتماعية المعقدة؟
ـ يجب أن ندرك بأن الأبحاث الأكاديمية الجدية تساهم في فهم الاضطرابات النفسية والأسباب التي أفرزتها، ومن ثمَّ يستطيع أفراد المجتمع التعامل مع بعضهم البعض بطريقة صحيحة، والتقليل من حدوث المشاكل بينهم، كما أن الشرح المنطقي الذي يحلل المختص من خلاله الظاهرة الاجتماعية أو السلوكية، يساهم في نجاعة مراقبة السلوكيات السلبية وتقييمها بشكل صحيح والبحث عن علاج لها.
ما هو تقييمك للتكوين الأكاديمي في الطب النفسي حاليا، هل هو كاف للتعامل مع مختلف المشاكل في ظل تغيّر المجتمع الجزائري؟
ـ في حقيقة الأمر، أرى بأن التكوين الأكاديمي للأخصائيين النفسانيين في الجزائر لا يتلاءم مع متطلبات المجتمع الذي هو في حاجة ماسة لخدمات النفساني، وقد لاحظت بأن الباحثين لا يهتمون بالبحوث الإجرائية، بقدر اهتمامهم بالبحوث النظرية، وفي هذه بالتحديد أؤكد لكم أن الباحث يفيد مجتمعه من خلال البحث الخبراتي الميداني البعيد عن التنظير.
الباحث في علم النفس يجب أن يكون ممارسا بدرجة أولى
يوجد أيضا تداخل بين تخصص علم النفس وتخصصات أخرى مثل علم المكتبات، وهو تكوين لا يخدم النفساني خصوصا في ظل شح المقاييس التي تفسر بعض الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالسلوك البشري، فمثلا لا يوجد في المناهج مقياس يدرس الجانب النفسي للإجرام، وبهذا فإن الباحث أو الطالب لا يستطيع أن يكون أخصائيا يتعامل مع المشكلات السلوكية أو الاضطرابات النفسية.
ماهي الجوانب الأخرى التي ترى بأنه يتعين على المختص في علم النفس أن يلمّ بها؟
ـ يجب أن يكون الباحث ممارسا بدرجة أولى ويكون شامل التكوين دقيق التخصص، لأن الأخصائي النفساني الإكلينيكي ملزم بالتعامل مع كل الحالات بما في ذلك المرضى العقلانيين، والأمر يخص أيضا، الأخصائي النفساني الذي يكون ضمن الأطقم الطبية في المؤسسات الاستشفائية، المطالب باطلاع على التخصصات الطبية وتشكيل معارف حول الأمراض العضوية حتى يستطيع الانخراط.
لو تُفصِّل لنا في العلاقة التي تربط الطب النفسي بباقي التخصصات الطبية؟
ـ تنطلق العلاقة من الطرح الحديث للعلوم المرضية بصفة عامة، والذي يربط المرض بمقاربة ثلاثية الأبعاد، تشمل الاعتداء على الجسم ونفسية المريض وخلق مشكلات اجتماعية، وبالتالي فإن كل الأمراض المزمنة بحاجة إلى مرافقة نفسية.
هل قدمت الجامعة الجزائرية أو المراكز البحثية في السنوات الأخيرة، دراسات سلوكية، تناولت تأثير العشرية السوداء على سلوك المجتمع الجزائري، وصولا إلى دراسات نفسانية متخصصة مواكبة للسلوكيات الحديثة المرتبطة بجيل التكنولوجيا؟
ـ توجد بطبيعة الحال حالات مرضية خلفتها العشرية السوداء، لكن المؤسف أن الدراسات البحثية لم تهتم بتناولها، فهناك فقر في الدراسات خيم على العشرين سنة الأخيرة، الأمر نفسه تكرر أثناء مواجهة المجتمع لأزمة كوفيد 19، مع انعدام دراسات قوية من المؤسسات والجامعات تناولت تعامل الجزائريين مع تغير حياتهم والأسباب التي جعلتهم لا يتمردون على القواعد الوقائية التي سنتها الدولة وتطبيق إرشادات ونصائح الأطباء.
الجامعة الجزائرية أيضا، لم تتناول معظم المشاكل التي يعاني منها جزائريون، والسبب يعود إلى التكوين النظري، ونوعية التربصات التي يقوم بها الباحثون و الحاجة للوقت الكافي، ناهيك عن الافتقار للتأطير الذي يبني الأهداف، فضلا عن أن التكوين بخصوص بعض المشاكل يكون طفيف جدا، مثل أزمة المراهقة والمشاكل الزوجية، خصوصا ظاهرة الطلاق التي تتفاقم يوما بعد يوم.
التكوين العام أثر على مستوى تشخيص الاضطرابات النفسية
ولعل هذا ما جعل الساحة مهيأة لانتشار بعض المحسوبين على الطب النفسي، وغيرهم من ممتهني دورات التنمية الذاتية، التي أدت إلى انحراف المجال عن أهدافه الحقيقية.
كيف تعلق على صورة النفساني في المجتمع الجزائري، وهل بدأت تتحسن، خصوصا من ناحية إدراك أهمية المتابعة النفسية؟
ـ بعض الممارسات الخاطئة جعلت المجتمع الجزائري يربط الطب النفسي مباشرة بالتنمية الذاتية، خصوصا الدور الذي لعبه التسويق الشعبوي في تقديم بعض الشخصيات على أساس أنها متخصصة والاستعانة بها في «البلاطوهات» للحديث عن المشاكل النفسية بطريقة عبثية لا تمت بصلة للعلم، هذه السلوكيات جعلت المواطن يحيد عن السلوك الحضاري المتمدن.
بالإضافة إلى مشكلة التربية التقليدية التي لا تربي على الرؤية الحديثة للأخصائي النفساني، وكرست بعض الممارسات المرتبطة بالمنطق التجاري على حساب الصحة النفسية، وإذا أردنا أن نضع تفسيرا لهذا التوجه، فالسبب يعود إلى أن المجتمع يرفض التغيير لذلك يتنكر للطب النفسي الذي يضع الشخص أمام المساءلة ويكشف له عن سلوكياته فيجد نفسه مجبرا على تغييرها، وهنا يجب أن ننوه لطرح آخر وهو أن المجتمع الجزائري لا يتقبل فكرة المراجعة والتغيير، وهذا ما أثر على صورة الأخصائي النفساني، بالإضافة إلى الخلط بين التخصصات وغياب ثقافة الصحة النفسية.
ماهي المشاكل التي خلفتها النظرة التقليدية للطب النفسي وإقصائه من رحلة التعافي؟
ـ أدت النظرة التقليدية للطب النفسي إلى إخفاء الشخص لاضطراباته النفسية، خوفا من نظرة المجتمع الذي سيحكم عليه بالاضطراب العقلي، وأحكام المجتمع قاسية وشرسة في بعض الأحيان.
ولذلك يميل أفراد إلى الاعتماد على التفسيرات المغلفة بالجهل و الميثافيزقا، وهو ما ضاعف انتشار السلوكيات الخاطئة، ولذلك فمن المهم جدا أن ندرك الفرق بين تخصصي علم النفس و الطب العقلي، فبالنظر إلى جانب الممارسة يوجد تداخل بين التخصصين، وهذا راجع لانعكاسات المرض على مختلف جوانب حياة الفرد، فأي مرض يجب أن نأخذ فيه بعين الاعتبار الناحية الطبية المتعلقة بالأدوية والمقاربة النفسية والاجتماعية.
النظام العمراني يؤثر على النظام النفسي
فعلى سبيل المثال، «الشيزوفرينيا» يجب أن توضع لها مقاربة في الطب العقلي حيث يأخذ المصاب مضادات للقلق لأن أحد جوانب النشاط الدماغي يصدر عنها هذيان وقلق، ولكن أولا يجب معاينة أخصائي نفساني يشارك أيضا في التوعية وتربية الأسرة والمريض على الاضطراب حتى يتم التعامل مع الحالة بشكل صحيح.
والأخصائي النفساني هو أيضا المسؤول عن إعادة الإدماج الاجتماعي للمريض لأن الجرعة لها تأثيرات نفسية ثانوية، مثل الإفراط في النوم، ضعف الإرادة، والإصابة بالانكماش الاجتماعي فلا يستطيع المريض الإقبال على ممارسة مهامه اليومية.
فضلا عن أن المقاربة بالدواء تتضمن بعض المخاطر المتعلقة بالمرض، وهي بالأساس الهذيان و الهلاوس وما قد ينجر عن ذلك من نزوات القتل أو الانتحار.
و في البلدان النامية على سبيل المثال، نجد داخل عيادة الأخصائي النفساني مجموعة من الأخصائيين يتشاركون في العمل، لأن طبيعة الإنسان ودقة سلوكه لا يمكن أبدا أن يحددها طبيب واحد.
التربية التقليدية لا تواكب الرؤية الحديثة للأخصائي النفساني
كيف يستطيع الأخصائي النفساني كسر الصورة التقليدية عن تخصصه، وما هي التحديات التي وضعتها هذه الممارسات في طريقه؟
ـ يلعب المستوى التكويني للطبيب النفساني دورا في تغيير النظرة التقليدية لعلم النفس، خصوصا إذا نجح في تفسير المشكلة النفسية وإيجاد حلول مقنعة لها والإجابة على تساؤلات المريض.
وأمام كل هذه التحديات يجب أن يبرهن الأخصائي النفساني عن نجاعته، من خلال تنمية ثقة الشخص الذي يلجأ إليه بنفسه، ومنحه حلولا يستطيع تطبيقها لتحسين حالته وتغيير سلوكه إلى الأفضل.
إ.ك